لماذا تتخلف صناديق عملاقة عن سداد أقساط مباني المكاتب؟

ارتفاع أسعار الفائدة والعمل عن بعد سيؤديان إلى مزيد من حالات التخلف عن السداد

time reading iconدقائق القراءة - 16
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

يفاخر أساطين "وول ستريت" بأنهم يعلمون كيف يتعاملون مع المخاطر، خاصة حين يغيب اليقين. لكن ارتفاع تكاليف الاقتراض من جهة وتعمّق التوجه للعمل من المنزل من جهةٍ أخرى جعلا حتى أكبر اللاعبين يدركون وبسرعة خطأ تقديراتهم، إذ باتت معظم مباني المكاتب في مراكز المدن مهجورة.

لنأخذ رهان شركة "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت" على سبيل المثال. فقد استحوذت شركة إدارة الأصول المسؤولة عن 1.7 تريليون دولار وتُعرف باسم "بيمكو"، على صندوق الاستثمار العقاري "كولومبيا بربرتي ترست" في 2021 مقابل 3.9 مليار دولار، بما يشمل ديونه.

أبرمت "بيمكو" الصفقة حتى بعد إخلاء المباني المكتبية خلال الوباء، حيث يملك صندوق "كولومبيا بروبيرتي ترست" خمسة عشر من تلك المباني على الأقل في نيويورك وسان فرانسيسكو وبوسطن وواشنطن.

حينها قال جون موراي، رئيس القطاع العالمي للعقارات التجارية في شركة "بيمكو": "توفر العقارات المكتبية عالية الجودة في المدن الأميركية الكبرى قيمة طويلة الأجل لعملائنا".

لكن موراي كان مخطئاً، فقد تخلف صندوق "كولومبيا بروبيرتي ترست" عن سداد مدفوعات مستحقة عن قروض عقارية بقيمة 1.7 مليار دولار على سبعةٍ من أبرز عقاراته التاريخية، ومنها برج في سان فرانسيسكو مؤجر لشركة "تويتر" التي يملكها الملياردير إيلون ماسك والمقر السابق لصحيفة "نيويورك تايمز" الذي أصبح مقراً لشركة "سناب".

حيلة استراتيجية

لم تكن عملاقة التمويل وحدها في ذلك، فقد لحقت بها "بروكفيلد" لإدارة الأصول، وهي واحدة من أكبر الشركات المالكة للعقارات في العالم، بعدما تخلفت عن سداد مدفوعات مستحقة عن ناطحتي سحاب في وسط لوس أنجلوس تحمل إحداها علامة شركة "ديلويت" للمحاسبة.

تذكر تلك العثرات بتداعيات الأزمة المالية لعام 2008 وانفجار فقاعة الإسكان، وربما يعيد ذلك إلى الأذهان أيضاً الانتقادات اللاذعة التي طالت أصحاب منازل توقفوا عن دفع أقساط رهون عقارية مستحقة على منازلهم بعد انهيار قيمتها الاسمية على نحو مأساوي.

قد يعتبر من يتذكر تلك الأحداث تهديد بعض الشركات المرموقة في "وول ستريت" باتباع سلوك مشابه من قبيل المفارقة. غير أنه في حالة المستثمرين المؤسسيين، يمكن أن يكون التخلف عن السداد محض استراتيجية لفتح الباب أمام إعادة هيكلة الديون، حيث يتعين على المدينين من مالكي الأوراق المالية المدعومة بالرهون العقارية التجارية التخلف عن سداد قروضهم، ولو كان ذلك تقنياً، قبل أن يتمكنوا من إعادة التفاوض على شروط قروضهم.

تعرف الأوراق المالية المدعومة بالرهون العقارية التجارية بكونها ديون لا تضمن حق الرجوع على المقترضين، ما يعني أنه يمكن للمقترضين التخلف عن سداد الديون فيحق لمقرضيهم الحجز على الضمان وبيعه، بينما لا يحق لهم السعي للحصول على فارق بيع أصول أخرى يملكها المقترضون إن لم يغط بيع الأصول محل الرهن قيمها الاسمية.

لا تعدو بعض أحدث حالات التعثر كونها حيلةً استراتيجية لتمديد فترات السداد أو تحسين شروط القروض. كما يتخلى ملاك العقارات في حالات أخرى عن مباني المكاتب بأسرها ويعيدونها إلى المقرضين. في كلتا الحالتين، تنذر تلك الخطوات بانهيارات قاسية يُنتظر أن تطال باقي السوق.

إذا كانت كبريات شركات إدارة الأموال الغنية تمتنع عن دفع المبالغ المستحقة عن عقارات مؤجرة لأهم الأسماء التجارية في مواقع مميزة، فكيف يكون حال ملاك البنايات العتيقة ممن يعانون ضوائق مالية؟

قال ديفيد بيتنر، المدير التنفيذي لقطاع الأبحاث العالمية لدى "نيومارك غروب": "بالأمس القريب، كنا نتصدى لزلزال العمل من المنزل، لكننا الآن بتنا نتعرض لتسونامي مالي".

استثمارات آمنة

لقد تعامل المستثمرون مع مقار الأعمال كما لو كانت سندات، فاعتبروا المباني عالية الجودة ذات الإيجارات طويلة الأجل والريوع المتزايدة باستمرار استثمارات آمنة للغاية. كانت شركات عملاقة مثل "أمازون" و"فيسبوك" تغدق على استئجار مساحات مكتبية في مدن غالية الأسعار وتزيّنها بجدران من النباتات وأجهزة إعداد القهوة.

فيما لا تتمتع العقارات الإدارية بحصانة ضد التوجهات الاقتصادية، إلا أنه حتى أكبر مديري الأموال لم يتمكنوا من التنبؤ بمدى سرعة تحول آلاف العقارات المكتبية إلى أصول لا حاجة لها بسبب انتشار ظاهرة العمل عن بعد.

لقد أدى عدم اليقين بشأن مستقبل العمل إلى تحويل المساحات المكتبية، وهي إحدى الأصول الثابتة طويلة الأجل بطبيعتها، إلى أصول متقلبة تزداد مخاطرها.

يشبه المحللون والمستثمرون العقارات المكتبية المتعثرة بالمراكز التجارية البائدة، حيث سيقضي العمل عن بُعد على الأحياء التجارية تماماً كما سرعت التجارة الإلكترونية من زوال مراكز التسوق المحلية القديمة. تقدر إحدى شركات الوساطة أن 33 مليون متر مربع من المساحات المكتبية تقريباً ستكون زائدة عن الحاجة بحلول نهاية العقد.

كانت "أمازون" قد أوقفت مؤقتاً بناء مقرها الثاني قرب واشنطن، كما قلصت "ميتا بلاتفورمز"، مالكة "فيسبوك"، مساحة مكاتبها في نيويورك. أما "تويتر" فهي تتنازع مع صندوق "كولومبيا بروبيرتي" حول إيجار المبنى الذي يملكه الصندوق في سان فرانسيسكو، فضلاً عن طرحها معظم مقارها في نيويورك للتأجير من الباطن. يبلغ متوسط استخدام المكاتب حالياً نحو 50% مقارنةً بمستويات ما قبل الجائحة، ما قد يشكل معياراً جديداً.

ما بعد الوباء

لا شك أن السوق لا تراهن على انتعاش سوق العقارات المكتبية، فقد هبط سهم "فورنادو ريالتي ترست"، أكبر صندوق استثمار عقاري للمساحات المكتبية في نيويورك، إلى مستويات 1997. فيما تراجعت أسهم "إس إل غرين ريالتي" و"بوسطن بروبيرتيز" إلى ما دون مستويات 2020.

تمكن معظم الملاك من الاحتفاظ بعقاراتهم دون التخلف عن سداد القروض خلال حقبة الوباء، ذلك أن أسعار الفائدة التي دانت الصفر يسرت الاستمرار في سداد المدفوعات أو الحصول على تمويل جديد.

كان المستثمرون يأملون بعودة مزيد من الناس إلى مكاتبهم بمجرد انحسار المخاوف بشأن تفشي الوباء، تماماً كما ظن موراي من "بيمكو". غير أن بعض المستثمرين لن يتمكنوا من الصمود فترة كافية لرؤية ذلك يحدث، إذ سيحل أجل استحقاق ديون غير مصرفية تقارب قيمتها 92 مليار دولار على العقارات المكتبية هذا العام، وهي بحاجة إلى إعادة تمويل، وفقاً لجمعية مصرفيي الرهن العقاري.

من جانبها، تبتعد البنوك، أكبر مصدر لتمويل العقارات التجارية، عن رهون العقارات الإدارية بعدما حذرت الجهات التنظيمية العام الماضي من فرط الانكشاف. كانت قيم العقارات المكتبية قد تراجعت 25% مقارنةً مع ما كانت عليه قبل عام واحد فقط، وفقاً لشركة التحليلات العقارية "غرين ستريت".

شجع تخلف الصناديق الكبرى عن السداد مؤخراً ملاكاً آخرين ليحذوا حذوهم. قال جيفري غورال، رئيس مجلس إدارة شركة "جي إف بي رييل ستيت" مالكة العقارات التجارية في مانهاتن: "كانت رؤية بعض اللاعبين الكبار يتخلون عن عقاراتهم بشكل أساسي أمراً مفيداً لي، لأنه يسهل التفاوض مع البنوك".

سياسات غير رشيدة

لقد دفع المستثمرون ببساطة أكثر مما ينبغي، الأمر الذي سبب مشكلة أخرى. كانت العناصر الأساسية لسوق العقارات الإدارية آخذة بالتدهور قبل الوباء. بالتالي، تعين على الملاك زيادة الامتيازات مثل الإعفاء من دفع الإيجار لفترات معينة بغية جذب المستأجرين حتى في ظل سوق العمل الراسخة وأرباح الشركات المزدهرة.

قال ديفيد ليبسون، رئيس شركة "سافيلز نورث أميركا": "كانت تأمينات التغطية التي قدمها الناس عند شراء المباني منفصلة عن الواقع. لقد وقفت سياسات اقتصادية غير رشيدة في الأساس وراء هذه الصفقات".

تبدو التوقعات أشد قتامة اليوم مقارنةً مع ما كانت عليه في 2021، إذ يتوقع مجلس الاحتياطي الفيدرالي ارتفاع معدل البطالة إلى 4.6% بحلول نهاية العام. حتى عندما يتعافى الاقتصاد، يظهر أن عدداً من المباني الإدارية لن يتعافى أبداً.

يفكر ملاك العقارات سالفة الذكر في تحويلها إلى سكنية، غير أن هذه الصفقات لن تؤثر على المعروض من العقارات المكتبية على المدى القصير نظراً لتقسيم المناطق والتكاليف الباهظة والتعقيدات الهندسية.

يراهن البائعون على المكشوف على تخلف مزيد من الملاك عن سداد الديون المرتبطة بالعقارات المكتبية. بينما تلجأ صناديق التحوط، ومنها "ماراثون أسيت مانجمنت" الخاضع لإدارة بروس ريتشاردز و"بولبو كابيتال مانجمنت" تحت إدارة دان مكنامارا، لمؤشرات مقايضة العجز الائتماني المعروفة باسم "سي إم بي إكس" (CMBX) للمراهنة ضد السندات المرتبطة بالعقارات الإدارية، على غرار الرهانات الراجحة من قبل كارل إيكان ضد مراكز التسوق التجارية، ومايكل بيري ضد سوق الإسكان في الولايات المتحدة.

قال مكنامارا: "لا أعتقد أنه ستكون هناك عمليات بيع على المكشوف كثيرة. لكن قطاع العقارات المكتبية ستعتريه اضطرابات كثيرة".

قد تكون هذه فرصة لكثير من كبار المستثمرين الذين ما تزال لديهم رؤوس أموال هائلة ويستعدون لاقتناص مزيد من الفرص للاستحواذ على عقارات إدارية. قالت روث كولب هابر، المديرة التنفيذية لشركة الوساطة "وارتون بروبيرتي أدفايزرز": "إنهم ينتظرون عودة كثير من هذه المباني إلى حوزة البنوك" التي يرجح أن "تضطر بعد ذلك إلى بيعها بسرعة وبسعر منخفض جداً مقارنة بأسعارها الحالية".

تصنيفات

قصص قد تهمك