مخلفات الموضة السريعة تخنق البلدان النامية بجبال من النفايات

الصناعة تنتج 100 مليار قطعة ملابس سنوياً أي بواقع 14 قطعة لكل إنسان في العالم

time reading iconدقائق القراءة - 26
من داخل أحد مستودعات فرز الملابس في كانام  - المصدر: بلومبرغ
من داخل أحد مستودعات فرز الملابس في كانام - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تنتشر ملابس مبللة ملتفة ومتشابكة، تبدو كجثث طرحها الموج، على شواطئ غانا، أحدى أكثر الدول استيراداً للملابس المستعملة في العالم. يسمي سكانها الملابس الآتية من الخارج "أوبروني واو"، التي تعني ملابس البيض الموتى بلغة توي المحلية، وكأن الاسم يسعى لتفسير فيض يصعب تبريره من الملابس الآتية من الخارج. لا شكّ أن أصحابها لم يتخلوا عن هذا الكم الهائل من الثياب بإرادتهم، أليس كذلك؟

تُشكل طبقات من قمامة الدول الغنية المتكدسة على شاطئ شوركور قرب العاصمة أكرا جداراً يزيد ارتفاعه عن مترين أشبه بطبقات جيولوجية تكونت عبر عصور الموضة المتتالية، حيث يُمكن رؤية صندل ماركة "كروكس" (Crocs) هنا، وقميص بولو أزرق من "رالف لورين" (Ralph Lauren) هناك، وحمالة صدر حمراء من "فيكتورياز سيكريت" (Victoria’s Secret) قربهما. تل الملابس البالية صلب للغاية لدرجة أنه تعلوه مدينة أكواخ مبنية بالفعل على قاعدة من ثياب.

تمتد النفايات على مد البصر في الاتجاهين. قال سولومون نوي، مسؤول إدارة النفايات بالمدينة إنه عندما تتساقط الأمطار، تلفظ مجاري الماء ومزاريب المدينة الملابس في المحيط ثم تلقي الأمواج بمعظم تلك النفايات على الشاطئ.

يخوض نوي وطاقمه من فريق عمل الصرف الصحي يومياً معركة خاسرة لجمع بقايا المنسوجات في مكبّات في أكرا، إذ يتألف إسطولهم من عدد ضئيل جداً من الشاحنات، كما أن الملابس تسبب أعطالاً في الأنظمة الهيدروليكية التي تضغط النفايات وقد امتلأ أحد المكبات خلال ثلاث سنوات فقط، فيما أن عمره الافتراضي 25 عاماً.

لإصلاح الكوكب.. علينا العودة إلى ثقافة إصلاح المنتجات

يعتقد نوي أن 40% من الملابس المستعملة التي تصل عبر ميناء أكرا لا يرتديها أحد أو يستخدمها لأي أغراض أخرى، بل ينتهي بها الأمر في القمامة. قال: "لا تملك الحكومة المال والبنية التحتية للتعامل مع نفايات الرجل الأبيض". يقرّ نوي أن الحل ليس في حظر الواردات ببساطة كما يطالب بعض النشطاء والباحثين الغربيين الساخطين من حكومة غانا، لأن هذه التجارة تعدّ مصدر رزق للعديدين هناك.

الموضة السريعة

استفحلت الكارثة على مر العقود فقد أصبحت الملابس أرخص وأوفر، وغدت وتيرة استبدالها أسرع من أي وقت مضى. يُنتج قطاع الأزياء أكثر من 100 مليار قطعة ملابس سنوياً بمعدل 14 قطعة لكل شخص في العالم، أي أكثر من ضعف الكمية المنتجة في عام 2000. بالتالي، تُرمى عشرات ملايين قطع الملابس يومياً لاستبدالها بجديدة ويُوضع أغلبها فيما يسمى حاويات إعادة التدوير.

لا يدرك كثير من الناس أنه نادراً ما يُعاد تدوير الملابس المستعملة لتصبح ملابس جديدة نتيجة غياب التقنية وبنى تحتية قادرة على إنجاز هذه المهمة على نطاق واسع. تصبح هذه الملابس بدلاً عن ذلك جزءاً من سلسلة إمداد عالمية للثاب المستعملة، ما يطيل عمرها لبعض الوقت عبر استخدامها لتصنيع فوط التنظيف أو حشوات المراتب أو المواد العازلة.

لكن نشوء الموضة السريعة وتفضيل المتسوقين للكم على حساب النوعية أدى لتوفر ملابس جديدة بأسعار منخفضة تهدد بإضعاف تلك التجارة وزيادة الضغوط على اقتصادات الدول النامية. انتشرت خرافة إعادة تدوير الملابس في نفس الوقت بما يكفي لحماية الشركات والمستهلكين من حقيقة مزعجة وهي أن أفضل حل لأزمة نفايات المنسوجات العالمية هو تقليل شراء الملابس واختيار أجودها وارتدائها لفترة أطول، أي القضاء على الموضة السريعة.

وعي بيئي

أصبحت "إتش آند إم" (H&M) في مطلع 2013 أول سلسلة تجزئة ضخمة تُطلق مبادرة عالمية لجميع الملابس المستعملة. وضعت الشركة صناديق في آلاف المتاجر المنتشرة في أكثر من 40 دولة، وقد لاقت المبادرة قبولاً في ظل تزايد الوعي البيئي. بعد عدة سنوات، تعاونت سلسلة البيع بالتجزئة السويدية مع مغني الراب البريطاني، إم أي أيه (M.I.A.) لإنتاج فيديو غنائي يطالب مشاهديه "بالانضمام للمبادرة" والمشاركة بالملابس التي لا يريدونها.

قالت الشركة عبر مدونتها: "الكل يفوز! ستعيد (إتش آند إم) تدوير الملابس وتصنع ألياف أنسجة جديدة وستحصلون بالمقابل على قسائم تسوق تستخدمونها في متاجرنا".

عن طريق الصدفة.. شركة أميركية تتوصل لحل مشكلة مُخلفات الأزياء

سلطت صحافة الموضة الضوء على المبادرة، وقالت مجلة "فاشن" (Fashion) في يناير 2017: "بفضل (إتش آند إم)، باتت إعادة تدوير ملابسك التي لا ترغب في ارتدائها سهلة للغاية... سيمنحك برنامج (إتش آند إم) لإعادة التدوير الطمأنينة حين تنفتح شهيتك على التسوق في الربيع". أظهرت الدراسات أنه حين يشعر المستهلكون بأن المنتج سيعاد تدويره يستهلكون مزيداً منه.

تحيا الموضة

سارت شركات الأزياء السريعة مثل "مانغو" و"بريمارك" و"زارا" على خطى "إتش آند إم" وأطلقت حملاتها الخاصة حتى انتشرت صناديق تجميع الملابس في كل مكان مزينة برسائل تدعو للتفاؤل، مثل "فلننجز المهمة!" و"إعادة التدوير هنا!" وربما أبرزها كانت عبارة "تحيا الموضة!"

"لويس فيتون" و"غوتشي" تلتهمان المدخرات التي وفرناها خلال "كوفيد"

لم تعترف حتى الآن أية حملة بأنه لا توجد بعد عمليات على مستوى صناعي لإعادة تدوير المنسوجات المستعملة وتحويلها لملابس جديدة. عالمياً، تقول مؤسسة "إلين ماك أرثر" (Ellen MacArthur Foundation) البريطانية غير الربحية إن ما يُعاد تصنيعه وتحويله لملابس جديدة أقل من 1% من الملابس المستعملة. بالمقارنة، يعاد تدوير 9% من البلاستيك ونحو نصف الورق.

رغم تعهد هذه الشركات بعدم اقحام الملابس التي تجمعها في مكبات النفايات، يبدو الواقع أكثر فوضوية. إذ تدخل الملابس التي تُجمع في صناديق إعادة التدوير داخل المتاجر في سلسلة توريد عالمية للملابس المستعملة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، لتُضاف إلى سيل متدفق من الملابس المستعملة الآتية من الصناديق الخيرية ومتاجر بيع الملابس المستعملة ومنصات إعادة البيع عبر الإنترنت مثل "ثريد أب" (ThredUp) و"سيلبي" (Sellpy).

تقع مهمة الفرز المعقدة لهذا السيل المتدفق من النفايات على عاتق صناعة عالمية تكاد تكون خفية يقودها وسطاء ومشغلون تعتمد أعمالهم على تصدير كمّ هائل من الملابس المستعملة إلى البلدان النامية لإعادة استخدامها، وهو الخيار الأكثر ربحية، كما يبدو نظرياً أنه الأكثر مسؤولية من ناحية بيئية لكون إعادة استخدام الملابس تتطلب استهلاك موارد أقل من إعادة تدويرها.

يصعب تتبع الملابس بعد دخولها سيل الثياب البالية وسط غياب التقنية أو النظام اللازم لرصد ما يصل منها إلى خط النهاية. قال مارك بوروز سميث، الرئيس التنفيذي لشركة "تيكستايل ريسايكل إنترناشيونال" (Textile Recycling International)، التي تعالج 400 مليون قطعة ملابس سنوياً بالمملكة المتحدة وإيرلندا: "لا بدّ من إدراك أن مصير كافة المنسوجات الجديدة أو المعاد تدويرها هو مكبّ النفايات، والحل هو الاحتفاظ بالملابس واستخدامها لأطول فترة ممكنة".

قالت "إتش آند إم" في رسالة بالبريد الإلكتروني: "ما تزال إعادة تدوير المنسوجات تطرح تحدياً للقطاع، بغض النظر عن العلامة التجارية أو المؤسسة الخيرية"، وأشارت إلى أن برامج جمع الملابس المستعملة خطوة رئيسية باتجاه إعادة تدويرها.

شراء المجهول

"تيكستايل ريسايكل" هي جزء من تجارة عالمية مترامية الأطراف تشتري الملابس المستعملة وتحولها لسلع بعد فرزها وتعبئتها في رزم زنة كل منها طن لتُشحن في حاويات تنتشر حول العالم. يُفرم كثير من تلك الملابس ليصبح مادة خام تستخدم لأغراض مختلفة، مثل مواد العزل في السيارات وسجاد الأرضيات وحتى كفرش لجرذان المختبرات. كما يُمكن تمزيق الملابس المصنوعة من الصوف أو القطن الصافي لإعادة غزلها خيوطاً أقل جودة لا يمكن استخدامها وحدها لصناعة ملابس جديدة.

تحظى الملابس الصالحة لإعادة الارتداء بالقيمة الأعلى، وتسهم تجارتها باستمرارية القطاع. أثمنها تلك غير المفروزة التي تأتي مباشرة من صناديق الجمعيات الخيرية أو صناديق تجميع الملابس المستعملة في المتاجر، بما أن أحداً لم يمسّ بعد الملابس الأفضل داخل تلك الصناديق، لذا قد تحتوي هذه الشحنات على ملابس جديدة ما تزال بملصقاتها أو ملابس لمصممين معروفين أو كنوز أزياء عتيقة.

تحمل التجارة مخاطرة وتنافسية عالية، إذ يمكن لتقلبات سعر صرف العملة والزيادات في تكاليف الشحن وتغير توجهات الموضة أن تمحو هوامش الربح أو تتسبب بإغلاق سوق بين ليلة وضحاها، لكن ما يُميز تجارة الملابس المستعملة أن المشترين يزايدون على بضائع لا يرونها.

قال بريان لندن، رئيس شركة "وايتهاوس آند شابيرو" (Whitehouse & Schapiro) ومقرها هانوفر بولاية ماريلاند وتعمل في المجال منذ أكثر من قرن: "لا يمكنك الاختيار، ستحصل على بعض الملابس التي ستتسبب لك خسارة لكن هذا جزء من التجارة".

قال أكثر من 12 شخصاً يعملون في القطاع في مقابلات لإعداد هذا التقرير إن تحقيق الأرباح أصبح أصعب من أي وقت مضى وسط تراجع الجودة وتفكك الملابس في حال غسيلها عدة مرات نتيجة تصنيع الأقمشة من مزيج ألياف اصطناعية رخيصة يصعب إعادة استخدامها أو تدويرها. بالتالي، تتكدس هذه الملابس وتصبح الأسواق مشبّعة. المقلق أكثر هو إنتاج الصين لملابس جديدة رخيصة تجعلها في بعض الحالات منافسة للملابس المستعملة.

قال إريك ستوبين، رئيس "ترانس أميركاس تيكستيل ريسايكلينغ" (Trans-Americas Textile Recycling) في كليفتون بولاية نيوجيرسي، وهي شركة تدير أقدم منشأة لفرز الملابس في أميركا الشمالية: "يخبرني الشراة طوال الوقت أننا نتنافس مع بضائع صينية زهيدة التكلفة".

بالات عملاقة

تغوص رافعة شوكية في حاوية طولها 40 قدماً معبأة بإحكام بالملابس المستعملة لنقلها في رزم عملاقة داخل مستودع معالجة تابع لشركة "كانام إنترناشيونال" (Canam International) في منطقة كاندلا الاقتصادية الخاصة في ولاية غوجارات غرب الهند. عند أحد جوانب المستودع جدار من البالات الضخمة بانتظار أن تبدأ نحو 400 امرأة يعملن في المنشأة بفرزها وتصنيفها. تتحقق كلّ واحدة من تلك العاملات ممّا يصل إلى 5000 قطعة ملابس يومياً وتحدد كيفية تمديد مدّة استخدامها.

تزيل النساء بسرعة أغطية الأَسرّة والستائر وغيرها من المفروشات دون الملابس عن البساط المتحرك، بينما تُصنف أخريات الملابس لفئات واسعة مثل السراويل والتنانير والسترات. ترتفع الحرارة داخل المستودع لدرجة خانقة تتجاوز 38 درجة مئوية فيما يتلاعب هواء المراوح الهادرة بأطراف أثواب الساري وقمصان السلوار الملونة التي ترتديها العاملات.

تملك "كانام إنترناشيونال" مستودعين مشابهين في كاندلا بقدرة معالجة ملابس مستعملة تصل إلى 54 مليون كيلوغرام سنوياً، أي ما يكفي لملء طائرتين ونصف شحن من طراز بوينغ 767 يومياً. يعتقد دارشان ساشي، مؤسس ومدير عام "كانام إنترناشيونال" أن تلك الطاقة الاستيعابية تجعل الشركة واحدة من بين أكبر كيانات الفرز والتصنيف في العالم.

حماية محلية

تفرض الهند قيوداً على واردات الملابس المستعملة حمايةً للصناعة المحلية، لكن الحكومة تستثني كاندلا عبر إصدار عدد محدود من تراخيص مشروطة للشركات تمكنها من استيراد الثياب المستعملة على أن تعيد تصدير معظمها.

يطل ميناء كاندلا الهندي الرئيسي على بحر العرب الذي يمتد إلى أفريقيا وهي وجهة 60% من صادرات"كانام إنترناشيونال".

تنتقل المسؤولية إلى عمال أمهر بمجرد انتهاء الفرز الأَوّلي. تقف مانيشا لالجي تشودا عند طاولة عرضها مترين تتكدس عليها القمصان، حيث لا تحتاج سوى ثوان لتصنف قميصاً بأن تنظر إليه بسرعة بحثاً عن أي عيب، كما يمكنها التعرف على نوع القماش وفحص جودة خيوطه بلمسه قبل أن تلقي به في واحدة من 8 عربات من الصلب المقاوم للصدأ بجوار طاولتها. تفعل مانيشا كل ذلك فيما تصنف الملابس حسب الحجم والجنس.

النساء يقتحمن سوق قطاع البناء بدعم من نقص العمالة

يبدو المشهد سريعاً جداً لدى فرز 15 قميصاً في الدقيقة فتتطاير الملابس قطعة تلو أخرى في الهواء. يصعب استخدام آلات لهذا العمل، إذ يعتمد العمّال على مهاراتهم وحدسهم لتحديد القيمة الاقتصادية للملابس المستعملة وتقرير إمكانية إعادة استخدامها أو تحويلها لفوط تنظيف أو اعتبارها بلا قيمة.

لم تتجاوز شودا الصف الثامن ولا تقرأ الإنجليزية، لكن تستطيع تمييز العلامات التجارية الغربية وأسماء المصممين بسهولة بفضل ملصقات عديد من العلامات التجارية المعلقة على جدار المصنع مثل "باتاغونيا" (Patagonia)، و"رالف لورين"، و"تومي هيلفيغر" (Tommy Hilfiger)، و"نايكي"، إلى جانب العلامات التجارية التي يحبذها محبو التصاميم القديمة مثل "ستوسي" (Stüssy)، و"ليفايس 501" (Levi's 501).

نظام دقيق

بعد تصنيف الملابس تضغطها معدات في رزم أصغر، ثمّ تُغلّف بالبلاستيك وتوضع عليها ملصقات للإشارة إلى جاهزيتها للتصدير.

يُشبه ذلك نظام العمل في مصافي تكرير النفط. تُحول المواد الخام إلى منتجات متنوعة قابلة للتسويق، من بلوزات بأغطية للرأس وبلوزات دونها، وسراويل داخلية قصيرة، وسراويل قصيرة للأطفال وحتى سراويل قصيرة جريئة. صُمم النظام بطريقة تضمن وصول كل قطعة ملابس إلى السوق، الذي تحقق فيه السعر الأعلى، فالأحذية بالكعب العالي تجد لها سوقاً جيدة في غواتيمالا وأوروبا الشرقية بينما أحذية ليفي السوداء تتجه إلى ماليزيا، والكشمير الخالص إلى مدينة براتو الإيطالية المعروفة بقص الصوف وغزله منذ القرن التاسع عشر.

يرتفع الطلب على ملابس أطفال فيما لا يرغب أحد في شراء سراويل البوليستر الرجالية. عم الضحك في أحد الأيام بعد الظهر عندما ظهر سروال قصير ضخم مقاس 55. بما أن الطلب على المقاسات الكبيرة خارج الولايات المتحدة شبه معدوم، أُرسل السروال إلى قسم التقطيع، حيث توجد 50 آلة لتفكيك الأزرار والسحابات وتقطيع القماش، الذي يُصدر إلى كاليفورنيا وأستراليا لاستخدامه هناك في صناعة فوط التنظيف.

يعاد تصدير ثلثي الملابس التي تدخل مستودع "كانام" على شكل ملابس أو فوط تنظيف، فيما الثلث المتبقي من الملابس، أي حوالي 1.3 مليون كيلوغرام شهرياً، فهي بدون قيمة أو قيمتها قليلة جداً، فيُشحن معظمها لبلدة بانيبات شمال دلهي، حيث تُقطع الملابس لإنتاج خيوط بجودة منخفضة تستخدم في صنع أقمشة وبطانيات خشنة رخيصة الثمن. يقول ساشي: "لست متأكداً بشأن ما يفعلونه بالنفايات في بانيبات".

تشجيع الاستهلاك

قال قطب المتاجر في نيويورك بي. إيرل باكيت مخاطباً نحو 400 مدير تنفيذي في قطاع الموضة والتجزئة خلال مأدبة غداء في فندق أستور في منهاتن في يونيو 1950: "وظيفتنا هي جعل النساء غير راضيات عن الملابس التي يملكنها". كان باكيت، رئيس مجلس إدارة سلسلة متاجر "ألايد ستورز" (Allied Stores) الأكبر في الولايات المتحدة آنذاك، على قناعة بأن زيادة المبيعات تتطلب أن يبتكر قطاع الموضة أزياء جديدة باستمرار. قال: "لا يمكن للقطع طويلة الاستخدام أن تشكل أساساً لقطاع أزياء مزدهر، علينا تسريع تقادمها".

أذواق التسعينيات تغزو العالم مجدداً بنكهة اقتصاد السبعينيات

مهّد تصريح باكيت لما يمكن وصفه بأعظم فترات التسوق تاريخياً، في ظل نمو المداخيل وزيادة الإنتاج ووفرة السلع الرخيصة حتى بات يُنظر إلى الاستهلاك في الولايات المتحدة كواجب وطني ومسار ضروري نحو الازدهار واستقرار الديمقراطية.

تقول ليزابيث كوهين، المؤرخة بجامعة هارفرد: "الاستهلاك يفيد الشخص والأمة". تزامن ذلك مع استكشاف الشركات لطرق دفع الناس للشراء وتعمد تصميم منتجات لا تدوم طويلاً، كما تعلم المعلنون تسخير قوة التلفزيون لخلق مزيد من الطلب.

صنعت شركتا "دوبونت دي نيمور" (DuPont de Nemours) و"مونسانتو" (Monsanto) أقمشة من المشتقات النفطية، مثل النايلون والأكريليك والبوليستر الرخيصة والمتينة ومتعددة الاستخدامات، ما عزز إنتاج كميات هائلة من الملابس بأسعار معقولة. حلّت العمالة غير الماهرة مكان الخياطين والخياطات أصحاب الخبرة، وبحلول السبعينات بدأ المستهلكون يتذمرون من تدهور جودة الملابس.

في عام 1974 أجاب نورمان فيشسلر، رئيس "ساكس فيفث أفينيو" (Saks Fifth Avenue) على سؤال بشأن تعمد تصميم ملابس غير مستدامة للنساء: "إنه سر اللعبة، تلك هي الموضة". وكالة: وحدة "ساكس فيفث أفينيو" الرقمية تتجه لطرح عام يرفع قيمتها إلى 6 مليارات دولار

بينما بنت الولايات المتحدة الركائز الأساسية للموضة السريعة، إلا أن شركة إسبانية هي من أتقنت اللعبة. بدايةً من ثمانينات القرن الماضي، ابتكرت "إنديتكس" (Inditex)، مالكة العلامة التجارية "زارا" نموذجاً للبيع بالتجزئة خفض وقت التسليم من أشهر إلى أسابيع، ما مكّن الشركة من عرض 10 آلاف تصميم جديد بمتاجرها سنوياً واستبدال الملابس غير المُباعة خلال 30 يوماً.

إدمان التسوق

كان لهذا النموذج وقع هائل على عادات التسوق، حيث بلغ معدل عدد زيارات عملاء "زارا" للتسوق بمتاجرها 17 مرة سنوياً، ما يزيد عن 4 أضعاف العدد المعتاد، وفقاً لدراسة "كلية هارفرد للأعمال" في 2003. فقد نجحت "زارا" في استغلال ظاهرة "الخشية من تفويت أي شيء" حتى قبل أن تصبح ظاهرة.

قطاع التجزئة الأميركي يستعد لتغيير عادات الشراء في ظل التضخم

هناك عامل آخر أيضاً، تمثل في استغلال "زارا" بدون قصد لتفاعلات عصبية عميقة في مخ الإنسان. فحصت دراسة في 2007 بقيادة فريق علوم الأعصاب بجامعة ستانفورد نشاط الدماغ لدى الشباب أثناء التسوق، وكشفت عن نشاط جزء من الدماغ مرتبط بالدوبامين والسلوك الإدماني لدى مشاهدتهم المنتجات التي يرغبون شرائها. لاحظ الباحثون أيضاً أن قشرة الفص الجبهي بالدماغ بدت وكأنها توازن بين فرق السعر الذي كان الشخص مستعداً لدفعه مقابل سعرها الفعلي، ما يؤشر إلى أننا مصممون لنشعر بالسرور حين نبرم صفقة رابحة.

ساعد هذا السلوك القهري الجالب للسرور الذي ينجم عن الموضة السريعة بتعجيل التخلص من الملابس القديمة. انخفض خلال العقدين الماضيين متوسط ​​عدد مرات ارتداء الثوب الواحد قبل التخلص منه بواقع 36%، وفقاً لمؤسسة "إيلين ماك آرثر". الأميركيون هم الأقل تكراراً لارتداء ملابسهم مع متوسط أقل من 50 مرة للقطعة، بينما شهدت الصين أكبر انخفاض لعدد مرات ارتداء قطعة الملابس من أكثر من 200 مرة إلى 62 مرة فقط خلال الفترة 2000 - 2016.

قالت "إتش آند إم": "واضح أنه يجب تغيير طريقة إنتاجنا واستهلاكنا" وأشارت إلى سعي الشركة لأن تصبح منتجاتها أكثر استدامة باستخدام مواد يمكن إعادة تدويرها أكثر من مرة وقصر الإنتاج على ما يمكن بيعه.

كما قالت "زارا" في بيان: "لا نستخدم الإعلانات لزيادة الطلب أو الترويج للاستهلاك المفرط"، وأشارت إلى إطلاقها برنامجاً جديداً هذا الأسبوع "ملابس زارا المستعملة"، الذي يسمح للمستهلكين بإطالة عمر الملابس عبر إصلاحها وإعادة بيعها.

اتضح أن إعادة تدوير الملابس وتحويلها إلى ألياف لصنع ملابس جديدة بالغ الصعوبة ولا يقتصر فقط على إزالة أجزاء مثل الأزرار والسحابات، لكنه يحتاج إلى إزالة الأقمشة المتداخلة والصبغات أيضاً.

تستخدم الشركات الرائدة في مجال تقنية إعادة تدوير المنسوجات مذيبات تفتت الألياف لتعيدها إلى عناصرها الكيميائية الأساسية، لكن الألياف المختلفة تحتاج مواد كيميائية عديدة أيضاً. بالتالي، تحتاج الشركات إلى تدفق مستمر لمواد خام نقية مثل القطن الخالص أو مزيج القطن والبوليستر فقط وهو أمر صعب للغاية.فعلى عكس الزجاجات البلاستيكية أو الكرتون، تدفق الملابس المستعملة ليس من نوع واحد.

صعوبة إعادة التدوير

قال ستيفن بيثيل، مؤسس شركة "بنك أند فوغ" (Bank & Vogue) في أوتاوا الوسيط الرئيسي للملابس المستعملة، التي تتعاون مع "رينيوسيل" (Renewcell) في السويد في مجال إعادة التدوير الكيميائي للدنيم وتحويله إلى ألياف السليلوز: "الأمر يشبه فصل أجزاء البيض وكل شخص يفضل العجة بطريقة مختلفة".

تحتوي عديد من الملابس اليوم على 3 ألياف أو أكثر، وبسبب موضة الملابس الرياضية الضيقة والجينز الضيق، غالباً ما تحتوي أيضاً على الإيلاستين وهو نوع من الألياف البترولية القابلة للتمدد التي يصعب فصلها.

قال بيثيل: "هذا المزيج كابوس حقيقي، فالإيلاستين أشبه بالبنزين المحتوي على الرصاص في السبعينيات".

أما الملابس التي تتفاخر مصلقاتها بأنها تحتوي على الألياف المعاد تدويرها، غالباً ما يشير ذلك إلى البوليستر المصنوع من الزجاجات البلاستيكية، وهي نفسها المستخدمة في مجال تعبئة المشروبات. في حين يمكن إعادة تدوير الزجاجة البلاستيكية وتحويلها لزجاجة بلاستيكية جديدة عدة مرات، لا يمكن تنفيذ ذلك مع الزجاجة البلاستيكية التي تحولت إلى سترة تدرء الرياح.

يحذّر خبراء النفايات من استحالة تحقيق الاستدامة في حال استمرار الاستهلاك المفرط، فإعادة التدوير تستهلك دائماً مزيداً من الطاقة والموارد وتُخلّف نفايات أكثر من إعادة استخدام شيء ما، أو عدم استهلاكه من الأساس.

أرباح مالكة "زارا" تقفز مع ارتفاع الأسعار

قالت جوليا أتوود، رئيسة المواد المستدامة في بلومبرغ إن إي إف، الخدمة الرئيسية في مجال البحوث المتعلقة بتحول الطاقة لدى بلومبرغ: "عند النظر إلى الاقتصاد الدائري لأي غرض، أفضل ما يمكن فعله هو خفض الطلب... عليك القضاء على سوق الموضة السريعة لإحداث تأثير ملحوظ على صعيد الانبعاثات أو على صعيد بصمة قطاع المنسوجات في مجال إعادة التدوير".

تعترف كلّ من "إتش آند إم" و"زارا" بمحدودية إعادة تدوير المنسوجات حالياً، لكنهما أشارتا لاستثماراتهما دعماً لتقنيات ناشئة تهدف لإعادة تدوير الأقمشة المتداخلة.

تجارة مقامرة

تصل المنسوجات غير المرغوب بها إلى خطّ نهاية، حيث تعدّ غانا واحدة من أكبر تلك المحطات الأخيرة. تشق شاحنات الحاويات طريقها من الميناء عبر أكرا إلى سوق كانتامانتو الإقليمي للملابس المستعملة قبل شروق شمس كل خميس، حاملة نحو 15 مليون قطعة ملابس إلى السوق، حيث يعاد بيع كلما يمكن تخيله، من فساتين الزفاف حتى القمصان التي تدعو للحفاظ على وحيد القرن وتحمل جملة "أنقذ وحيد القرن المكتنز".

يقضي المشترون ليلتهم في الشارع على أمل أن يضعوا أيديهم على أولى رزم الملابس المستعملة التي تخرج من الحاويات في الثالثة فجراً. تتوجه بعض هذه الرزم إلى بلدان مجاورة مثل بنين ونيجيريا وتوغو، وبعضها الآخر يُنقل إلى داخل كانتامانتو نفسها حيث تُوزع وتباع في أكشاك.

فيما تشكل كانتامانتو تذكيراً صارخاً بإدمان العالم على الموضة السريعة، إلا أنها تقدم أيضاً السلوكيات اللازمة لمعالجة هذا الإدمان. هنا مفهوم إصلاح الملابس ما يزال قائماً، مثل إصلاح قميص رُمي لأنه فقد أحد أزراره، أو تحويل الستائر والقمصان القطنية إلى ملابس داخلية رجالية، فيما يعيد العمّال الماهرون تدوير الملابس لتصميمها بأشكال جديدة، ويصبغ آخرون الجينز الباهت ويحولونه إلى اللون الأزرق أو الأسود ثم يغسلونه ويثبتون الصبغة ويكوونه، فيتعاملون مع تلك الملابس بعناية فائقة لا تلقاها على الأرجح من أصحابها الأصليين.

يرجح أن تكون كانتامانتو أكبر اقتصاد لإعادة البيع والتدوير في العالم إذ تعيد تدوير 100 مليون قطعة ملابس كل 4 أشهر، ما يُعادل عدد معاملات منصة "ثريد أب" خلال 12 عاماً، وفقاً لمؤسسة "أور فاونديشن" (Or Foundation) غير الهادفة للربح.

مع ذلك، فإن مخاطر تقلبات تجارة الملابس المستعملة مضاعفة أضعافاً في كانتامانتو. فمثل القائمين على الفرز في بداية سلسلة التوريد، يجهل مستوردو وتجار الجملة ما سيحصلون عليه من بالات مقابل المال الذي يدفعونه.

تقول جانيت دانسوا، وهي بائعة تجزئة تشتري 4-5 رزم شهرياً: "إنها مقامرة"، حيث ترى أن احتمال حصولها على فرصة جيدة وتحقيق هامش ربح يبلغ 10% يبقى 50 إلى 50، وقد تمكنت بطريقة ما من كسب رزقها رغم أن احتمالات ربحها تشبه المراهنة على نتيجة رمي عملة معدنية.

نساء الكايايي في خطر

لكن يقع العبء الأثقل لأزمة نفايات المنسوجات العالمية حرفياً على كاهل الـ"كايايي" (kayayei) ومفردها "كايايو"، وتعني "المرأة التي تحمل الوزن الثقيل"، حيث تنقل النساء حزم ملابس يصل وزنها إلى 55 كيلوغراماً فوق رؤوسهن بسبب ضيق أزقة كانتامانتو التي تمنع السيارات من التنقل داخلها. هذا حمل ثقيل جداً حيث يتطلب وضع حزمة الملابس على رأس المرأة شخصين على الأقل. كادت إحدى المحاولات أن تنتهي بكارثة حسب رواية اثنين من مراسلي بلومبرغ نيوز بعدما فقدت إحدى الحمالات توازنها فمالت حزمة الملابس إلى الخلف، ولو كانت تحمل طفلاً على ظهرها، كما تفعل الكثيرات فربما ما كان لينجو. في اليوم التالي، كان العمال بالسوق يتحدثون عن حمالة تهشمت ساقاها بعد سقوط الحمولة عن رأسها.

تنقل سكينة عبد الله عديداً من رزم الملابس في يوم العمل الجيد، حيث تقطع رحلة لمسافة 2 كيلومتر تتنقل خلالها بين حفر وخنادق وزحام الناس وأسقف صفيح بارزة، كل ذلك بينما تنتعل خفين باليين وتحمل طفلاً صغيراً مربوطاً إلى ظهرها.

تكسب سكينة بحد أقصى 10 سيدي غاني (73 سنتاً) للرحلة الواحدة، ما لا يكفي نفقات معيشتها حيث تحتاج لدفع 80 سيدي غاني شهرياً إيجار الغرفة ذات الأرضية الترابية التي تتقاسمها مع 7 نساء أخريات و40 سيدي للحفاضات و2 سيدي يومياً للهاتف النقال الذي تحمله داخل غطاء شعرها الأحمر، و2 سيدي لدلو الماء الدافئ لتهدئة طفلها لقمان البالغ من العمر عامين، الذي يتألم مساءً بسبب ربطه طوال اليوم على ظهر والدته المنحني.

تعاونت "أور فاونديشن" العام الماضي مع مؤسسة تقويم عظام محلية لإجراء صور أشعة لمائة كايايي، كشفت عن فقدان عديد منهن لانحناءة الجزء العلوي من العمود الفقري تماماً، فباتت عظامهن تحتك ببعضها بعضاً فيما تضغط على حزم الأعصاب، كما بدا العمود الفقري لفتيات مراهقات كما لو كنّ خمسينيات.

قالت كلو أسام، مديرة البرامج في "أور فاونديشن": "لا يمكننا علاج الضرر فنعالج الآلام فقط".

تتناول سكينة، مثل بقية رفيقاتها حبة بيضاء صغيرة صباحاً ومساءً. إلا أن مسكنات تخفيف الألم تخدر أيضاً إشارات الألم الأخرى بالجسم ما يزيد فرصة تعرضهن للحوادث إذا ملن في الاتجاه الخطأ على سبيل المثال. لقد سجلت وفيات للنساء الحمالات بسبب كسر مفاجئ في أعانقهن، وفق "أور فاونديشن".

قالت عائشة عبد الرزاق، إحدى رفيقات سكينة بالسكن: "كلنا نتعرض لإصابات، لكن إذا لم نذهب للعمل سنموت جوعاً".

تصنيفات

قصص قد تهمك