بلومبرغ
ما إن أعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن استجرار نحو 300 ألف جندي إضافي إلى حربه على أوكرانيا، حتى توجه آلاف الرجال في عمر القتال نحو حدود روسيا، مفضلين المنفى على القتال في حرب لا يؤمنون بها.
ارتفعت أسعار تذاكر السفر نحو الدول التي كان ما يزال يحق للروس زيارتها بحدة في غضون أيام من خطاب بوتين يوم 21 سبتمبر، هذا إذا أمكن العثور على مقعد شاغر على متن طائرة.
تلقى إلياس فلاكس، الذي كان قد انتقل إلى باكو عاصمة أذربيجان المجاورة بعد فترة قصيرة من بدء الحرب في الشتاء الماضي، عديداً من الاتصالات من أصدقاء ومعارف مذعورين كانوا يحاولون مغادرة البلاد. سأل نفسه لمَ لا أساعدهم؟ فقرر أن يستأجر طائرة ويتذرع باجتماع عمل يدّعي الركاب أنهم متجهون لحضوره. اتصل بشركة طيران محلية ذات جمعة وعرضت عليه استئجار طائرة طراز "إيرباص إيه 319" سبق أن استخدمتها الحكومة الأذرية، وهي تحتوي على 55 مقعداً مخصصاً لدرجة رجال الأعمال مع كنبات جلدية باللون البيج، وطاولات قهوة فخمة من خشب الماهوغني. أبرم الصفقة سريعاً لكن مالكي الطائرة طلبوا أن يدفع 100 ألف دولار سلفاً.
بوتين يعلن تعبئة جزئية للجيش ويدعو الحكومة لتمويل إنتاج المزيد من السلاح
عمل فلاكس طيلة السبت والأحد على جمع المبلغ، فاقترض من شقيقة شريكه في العمل، وحصل على دفعة مقدمة من أحد معارفه في باكو لديه ثمانية ركاب محتملين، فيما جاء الجزء الأكبر من الأموال من ثمن سيارته الرياضية الثمينة "مرسيدس– أيه إم جي" التي كان قد باعها قبل أن يغادر موسكو. صُدمت زوجة فلاكس لسحبه هذه المبالغ الكبيرة من مدخراتهما فجأة، لكن ذلك لم يردعه وقال: "لم نفكر في المال إطلاقاً... أردنا المساعدة".
تراجع مالكو الطائرة مرتين خلال نهاية الأسبوع العصيبة تلك متذرعين بعدم إخطارهم قبل مدة كافية وببطء الدفع، إلا أن فلاكس تمكّن في كلتا المرتين من إقناعهم أنه قادر على الدفع. أرسل فلاكس أحد مساعديه إلى مكاتب الشركة قرب المطار في التاسعة صباحاً من يوم الإثنين، أي بعد أقل من خمسة أيام على إعلان بوتين، حاملاً رزم أوراق نقدية من فئة مئة دولار موضبة في حقيبة ظهر سوداء.
فيما كان فلاكس يعمل على جمع المال، نشر الخبر على "فيسبوك" وعبر تطبيق المراسلة "تلغرام"، معلناً أن الرحلة قائمة وأن كل من يرغب بأن يكون على متنها عليه أن يتحرك سريعاً. جاء في الرسالة: "الدفع بالدولار أفضل والروبل مقبول أيضاً، لكن الدفع عند الوصول غير مقبول". صحيح أن 2500 دولار للتذكرة الواحدة ليس سعراً زهيداً، لكن خلال الأيام التي تلت خطاب بوتين، قفزت أسعار التذاكر نحو الجبل الأسود وتركيا عشرة أضعاف، لتصل إلى 5 آلاف دولار وأكثر.
سفينة نوح
قصد عشرات الرجال مقهى في ضواحي موسكو خلال عطلة نهاية الأسبوع، حيث استقبلتهم مساعدة فلاكس السابقة، وهي امرأة شابة حامل بشهرها الثامن. أخذت منهم النقود وسجلت أسماءهم مستخدمة تطبيق جداول "غوغل" لحجز مقاعد لهم على متن الطائرة. طلب فلاكس من الركاب أن يدّعوا أنهم متجهون لحضور مؤتمر وأنهم سبق وحجزوا مقاعدهم قبل أسابيع سعياً منه لإضفاء طابع شرعي على الرحلة، لكن ما كان من شيء ليضمن أن هذه الذريعة لن تسقط إن دُققت جيداً. قال معلقاً على مهمة الإنقاذ: "لم يكن لدي وقت لأناقش ما إذا كان هذا الأمر غير جيد، وإذا كان تعبيراً عن احتجاج أم لا"، مضيفاً أن الرحلة كانت بكل بساطة "عمل خير تجاه الناس وتجاه شركائي وأصدقائي".
تصعيد بوتين في أوكرانيا يعجّل انهيار تركيبة روسيا السكانية
أقلعت الطائرة، التي أطلق عليها فلاكس تسمية "سفينة نوح" تيمناً بقصة الإنقاذ الأشهر في الإنجيل، متجهة إلى موسكو في رحلة تستغرق ثلاث ساعات وهبطت في مطار فنوكوفو، الذي شيّده ستالين للجيش الأحمر بأيدي معتقلي معسكرات الغولاغ ثم حوّله للاستخدام المدني بعد الحرب العالمية الثانية. بينما كان الطيارون ينتظرون الموافقة على خط الرحلة، توجه نحو 50 رجلاً وحفنة نساء نحو قاعة المغادرة، وهم يحرصون على عدم لفت أنظار الرقابة الحدودية حيث كانت السلطات تراقب المسافرين عن كثب نتيجة تعليمات بمنع المجندين من الفرار. قال ميخائيل كورت، أحد الركاب ويعمل مصوراً: "كان الجميع متوتراً جداً حيال إجابات الأسئلة المحتملة".
انتظروا على أعصابهم فيما مرّت ساعة على الوقت المحدد للمغادرة، وراحوا يتعرفون على بعضهم البعض بهدوء في مبنى الركاب قبل الصعود على متن الطائرة. ألقى أحد الركاب أبياتاً من قصيدة لميخائيل ليرمونتوف عن ترك "الأعين الناظرة أبداً... والآذان الصاغية دوماً" لروسيا بعدما أقلعت الطائرة أخيراً. قدّم المضيفون النبيذ وأطباقاً من الدجاج أو اللحم للركاب، وما هي إلا ساعات حتى اقتربت الطائرة من باكو وبدأت بالهبوط فوق بحر قزوين المظلم فيما كان كورنيش المدينة يتلألأ في الأفق. ما إن حطت الطائرة حتى علا صوت تصفيق متقطع. استدار خبير أمن سيبراني مثقل بمزيج من الارتياح والحماسة وكثير من الحزن نحو جاره، وقال له كلمة واحدة "نعم".
كرر فلاكس الأمر مجدداً في اليوم التالي.
العمل عن بعد
قال فلاكس إنه "تنفس الصعداء" عندما حطّت الرحلتان بعد عدة ليال لم يغمض له فيها جفن وبعد الاستعدادات الحثيثة التي بذلها. كان فلاكس وشريكه الأذري أراز ماميت الذي يحمل أيضاً الجنسية الأميركية، قد افتتحا مساحة للعمل المشترك في باكو قبل بضعة أشهر، بعدما جذبته بيئة الأعمال المستقرة نسبياً في البلاد، وارتباطها المستمر بالنظام المصرفي الدولي، وشتاؤها الأدفأ . قبل العديد من الركاب العرض الذي قدّمه لهم، والذي شمل مكان إقامة ومكتباً في المكان الذي يُطلق عليه اليوم تسمية شركة الانتقال الناشئة. سابق فلاكس وفريقه الوقت لتنظيف عشرات الشقق الفارغة وتأثيثها قبل التوجه إلى المطار لاستقبال الوافدين. قال ماميت إنه تلقى 600 طلب استفسار إضافي من مهاجرين محتملين في أحد دردشاته على "تلغرام"، لكنه يرى أن عليهما أن يركزا طاقتيهما حالياً على الأشخاص الذين سبق أن وصلوا.
يعمل معظم المسافرين الذين كانوا على متن الرحلتين في مجال تقنية المعلومات، لكن كان بينهم أيضاً حاخام ومغني أوبرا ومؤدية صوت ومصوّر وحلاق ومسؤول تنفيذي كبير في مسرح "مارينسكي" في سان بطرسبرغ الذي احتضن العروض الافتتاحية لعديد من أوبراهات تشايكوفسكي في القرن التاسع عشر، بعدما رفض التوقيع على بيان داعم لبوتين. فيما لم تصدر أي أرقام عن الكرملين، تقول السلطات في كازخستان وجورجيا إن 300 ألف شخص على الأقل فروا من البلاد منذ خطاب بوتين حول التعبئة، أُضيفوا إلى عشرات الآلاف الذين سبق أن غادروا روسيا خلال الأشهر السبعة الماضية. قال ماميت: "لم تخسر روسيا في ساحة المعركة بل في المطارات وعلى الحدود".
تعبئة بوتين للجنود تكشف أنه يخسر
بينما يفتقر أولئك الفارون إلى ما يملكه الأوليغارشيون الذين يقودون ركائز الاقتصاد الروسي من ثروة ومكانة، إلا أن خسارتهم سيكون لها تأثير سلبي لا محالة. فهم يضمّون في صفوفهم بعض أكثر المواهب الشابة طموحاً، من مهندسي برمجيات ومصرفيين وعلماء ومصممين. كان عديد منهم قد تكيف مع العمل عن بعد خلال الوباء، لذا كان يكفي أن يحزموا جهاز الكمبيوتر المحمول وبعض القمصان والملابس الداخلية ليواصلوا مسيرتهم المهنية من مكان جديد. قال جايمس نيكسي، مدير برنامج روسيا- أوراسيا في مؤسسة "شاتهام هاوس" في لندن: "تأثير مغادرة ألمع العقول روسيا وتكريسهم لمواهبهم لدول أخرى سيكون مريعاً بالنسبة لروسيا على المدى الطويل".
يعمل رواد الأعمال والمديرون متوسطو المستوى على إنشاء مراكز أعمال للروس في القوقاز وآسيا الوسطى، وهي أماكن كانت لفترة طويلة تحت سيطرة موسكو لدرجة باتت تُعرف في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي بالـ"الخارج القريب". اليوم، بعدما باتت هذه الدول حرّة إلى حدّ كبير في تقرير مصيرها، تحولت إلى ملاذ آمن من الطموحات الإمبريالية لزعيم روسيا في القرن الواحد والعشرين. يمكن للروس أن يدخلوا إلى هذه الدول عموماً بلا تأشيرات أو تعقيدات كبرى، وهذا مهم بعد تشديد الاتحاد الأوروبي لقيوده على القادمين من روسيا. كما أن اللغة الروسية ما تزال سائدة في تلك الدول.
أمل العودة
يشكّل الوافدون الجدد عبئاً سياسياً على الدول المضيفة كما كان حالها مع الفارين من الترويع البولشيفي الأحمر قبل قرن، لكنهم يشكّلون أيضاً محركاً اقتصادياً محتملاً. فيما يهدد تواجدهم بالتسبب بتوترات سياسية بين الحكومات المضيفة والكرملين، إلا أنهم يقدمون أيضاً رؤوس أموال جديدة إلى جانب الخبرات والمهارات التي قد تسهم في دفع عجلة النموّ. كما أن عديداً منهم جلبوا أعمالهم معهم أو بادروا لإنشاء شركات جديدة. قال فلاكس إن 10 شركات ناشئة تأسست حتى الآن في مساحة العمل المشترك التي يملكها.
لم تدعُ أذربيجان علناً الروس للهجرة على عكس دول مجاورة، بالتالي يمكن لموقفها المحايد هذا أن يسهّل على رجال وسيدات الأعمال الروس العودة إلى وطنهم. من بين أولئك الأشخاص الراغبين في إبقاء باب العودة مفتوحاً، رجل يدعى أرتيم وهو مدير في شركة تقنية روسية كبرى لم يرغب بالكشف عن اسمه الكامل. كان أرتيم قد هرع من سان بطرسبرغ إلى موسكو على متن قطار ليلي حتى يستقل رحلة فلاكس الثانية إلى باكو، لكنه غير مستعد لقطع علاقته تماماً مع أرض الوطن، فعائلته ما تزال في روسيا، وكان قد أنهى للتوّ أعمال ترميم مكلفة في شقته وهو متردد بالتخلي عنها، لذا يخطط للاستمرار بالعمل عن بعد لصالح صاحب عمله هناك. تحدّث أرتيم فيما كان يتناول البرغر في مقهى في وسط مدينة باكو، قائلاً: "أنا وزملائي نحب شركتنا جداً، نحب ما بنيناه، ونأمل أن نتمكن من الاستمرار في العمل على منتجاتنا، وربما نعود يوماً ما".
جلس مهندس البرامجيات الثلاثيني نيكيتا شيمبيل إلى جانب أرتيم في المقهى، وقد بدا أقل حماسة لفكرة العودة إلى روسيا. ما تزال زوجته في موسكو حيث تمضي معظم أيامها في البحث عن بقعة قد يتمكّنا من الاستقرار فيها، كما أن أمه المسنة ما تزال هناك وهي تتعافى من السرطان. حين أوصلته زوجته إلى المطار ليلتحق برحلة فلاكس الأولى، شعر شيمبيل بالحزن ثم اعتراه الغضب وقال: "ذرفت بضع الدموع لأنني رحت أفكر لماذا؟ ما السبب؟ لماذا عليّ مغادرة مدينتي؟" هو يساعد حالياً مهاجرين آخرين بمشاريع متنوعة في مجال تقنية المعلومات، فيما يدرس خيارته للانتقال نحو مسار مهني جديد تماماً، ربما في مجال تصميم المجوهرات أو حتى الموسيقى.
"نيو زيون"
يطلق فلاكس تسمية "نيو زيون" أو صهيون الجديدة على مساحة العمل المشترك التابعة له، تيمناً بعاصمة الملك داود وفقاً للإنجيل وآخر مدينة بشرية صامدة في سلسلة أفلام (The Matrix)، وهي عبارة عن مبنى مستقل مؤلف من شقق سكنية بلون الحجر الرملي في منطقة "أثليتس فيلاج" في باكو. كان هذا المبنى الواقع على طرف طريق سريع مزدحم استقبل آلاف المتنافسين في الألعاب الأوروبية عام 2015 وألعاب التضامن الإسلامي بعدها بسنتين، لكنه بقي شاغراً بشكل عام منذئذ.
في أعلى درج رخامي، مروراً بمجموعة من الملصقات الرياضية تزيّنها أعلام وطنية مختلفة، يجلس نحو عشرين شخصاً خلف أجهزة كمبيوتر محمولة تتدلى منها الأسلاك، يتحدثون بصوت خافت ويرتدون سراويل الجينز الممزقة وقمصاناً مجعدة. تحتوي حجرة المؤن على آلات لصنع القهوة وغلايات وأباريق شاي وزجاجة نصف فارغة من النبيذ الأحمر المحلي. يتمدد رجل ينتعل حذاءً رياضياً ويرتدي سروالاً قصير وقد ربط شعره في أعلى رأسه على مقعد على شكل كيس قماشي أحمر، فيما يجتمع آخرون على الشرفة الصغيرة حيث يدخنون سجائرهم الملفوفة.
يبدو وجه فلاكس سميناً تغطيه لحية داكنة، وكان يرتدي قميصاً بياقة عالية طبع عليها صورة خوادم كمبيوتر. قال فلاكس إنه بدأ مسيرته المهنية في عمر المراهقة حين كان يبرمج ألعاب كمبيوتر في جمهورية تتارستان في روسيا. تعكس علاقته الشخصية مع الدولة علاقة عديد من رواد الأعمال في مثل سنّه معها: بدأت بالتفاؤل ثم انزلقت إلى التشكيك ومنه للاستياء. حصل على تمويل حكومي لتعلميه العالي في جامعة نخبوية متخصصة بالاقتصاد في موسكو، لكن سرعان ما بدأ يبغض هيمنة الكرملين. بات يخصص وقتاً كل يوم لإقناع زملائه الذين ما يزالون في موسكو بالمغادرة. قال: "يعلمون جميعهم عن تنظيم إلياس فلاكس رحلة لرواد الأعمال من موسكو إلى أذربيجان، ويقولون له إنك تصنع السحر". لفظ كلمة "سحر" بالإنجليزية متلعثماً.
الحرب تمزق العائلات
بين زبائن "نيو زيون" رجل أشيب يدعى ميرون شاكيرا وهو يعرج قليلاً بعد إصابة خلال لعبه لكرة القدم أخيراً ويقيم في الدور السابع من المبنى. وُلد شاكيرا في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا، وبلغ الثامنة عشرة من العمر في نفس العام الذي انحلّ فيه الاتحاد السوفييتي. عمل في قطاع العقارات المتقلب في روسيا، واشترى جنسية يرغب اليوم في إنكارها. مثل كثيرين غيره، مزّقت الحرب عائلته، فزوجته أوكسانا روسية وأولاده ولدوا روساً. أخته باتت تحمل اليوم الجنسية الروسية وهي مؤيدة للغزو، أمّا أقارب زوجته فقد جُندوا على الجبهة سريعاً بعدما تطوعوا في جيش بوتين. سكبت أوكسانا الشاي العشبي وملأت بعض الأطباق بالتمر والمكسرات في وقت متأخر من الليل، قائلةً إنها وافقت على الفور على مغادرة بلادها لكنها بدأت في البكاء حين راحت تتحدث عن جدتها الثمانينية.
تعبئة بوتين للجيش تضرب الاقتصاد الروسي المتدهور في مقتل
قال شاكيرا إن إلحاق القرم بروسيا في 2014 دفعه للبدء بنقل مصالحه من روسيا سعياً للتركيز على مشاريع جديدة في الخارج. كان السفر إلى قبرص أو إلى دولة أخرى عضو في الاتحاد الأوروبي أول ما تبادر له بعد الغزو في فبراير، إلا أن هذه الدول كانت مغلقة في وجه حملة جوازات السفر الروسية. قال فيما راح يطرق على الطاولة: "هذه الدولة وهذه الدولة، مغلقة، مغلقة، مغلقة". لم تكتف أذربيجان بالترحيب به، بل أنشأت أيضاً بنية دعم للمغتربين، تتضمن ضرائب مخفضة للشركات المسجلة حديثاً مثل شركته. قال: "حاولت الحكومة مساعدتنا بالفعل". أمضى شهوراً بعد الغزو في تسييل أصوله، فعمل بصمت على بيع منازل وسيارات وأراض قرب موسكو. منحته العقود التي أمضاها في دوائر الأعمال الروسية المهارات اللازمة لنقل مبالغ ضخمة من الأموال إلى الخارج خلسة وبسرعة، وبات يملك اليوم عدة ملايين الدولارات في حسابات عملات مشفرة. قال شاكيرا وهو يستند إلى الطاولة: "تتطلب الأعمال في روسيا في كل مرة أمراً... غير قانوني نوعاً ما".
امتعاض في جورجيا
لم تكن كل الدول التي استقبلت موجات المهاجرين الروس مرحبة بهم بقدر أذربيجان. على بعد ساعة واحداً جواً نحو الغرب، تطالب شتائم كتبت باللون الأحمر على الجدران في العاصمة الجورجية تبليسي الروس بالرحيل إلى مكان آخر، وهو موقف مفهوم تجاه شعب كان جيشه قد غزا جورجيا في 2008 وما يزال يحتل نحو خُمس أراضيها. منذ بدء غزو أوكرانيا، رفض سائقو سيارات الأجرة المحليون أحياناً توصيل الركاب الروس، فيما تطالب بعض المطاعم زبائنها بالإقرار بأن بوتين مجرم حرب حتى تستقبلهم.
قالت كايت جيرساميا، منتجة نبيذ محلي ومالكة متجر أثاث منزلي، كانت المشاعر المعادية لروسيا في البداية "كبيرة جداً"، مضيفة: "لكن الأمور بدأت تهدأ، للأسف ذلك لأن الجميع بات يدرك أن بإمكانهم الاستفادة ممّا يجري". فقد سجلت مبيعات متجرها ارتفاعاً كبيراً بفضل الوافدين الجدد من روسيا، فيما ازداد الإقبال على نبيذها في موسكو، بما أنه بات الحصول على النبيذ المعتق الإيطالي والفرنسي أصعب هناك. قالت: "الأمر يزعجني. أنا أقاتل من أجل حريتي وفي الوقت نفسه أتعامل تجارياً معهم".
تزدحم جادات تبليسي المشجرة بالمتسوقين. مرّت عائلة من الروس مؤلفة من جدّين وأم وأب وفتاة مراهقة بشعرهم الأشقر وبشرتهم الفاتحة ووجوههم الأطول قرب هضبة خفيضة عند ساحة الحرية، ما دفع أحد السكان المحليين للقول: "انظر، ثمانية من كل عشرة أشخاص يمرون بجوارك هم من الروس". بين الشوارع المرصوفة بالحصي والأرصفة المتداعية والمنازل المبنية من الطوب ذات الشرفات المسقوفة بعرائش العنب، تزين الأعلام الأوكرانية واجهات عديد من منازل الحيّ، فيما ترتدي إحدى النساء قميصاً أسود يحمل عبارة "ادعموا أصدقاءكم". قال عامل تحضير القهوة في مقهى صغير إن المكان غالباً ما يكون مزدحماً بالروس، وأضاف متململاً أنه في هذا اليوم بالذات "يوجد كثير منهم، لكن لحسن الحظ ليس في كل الأيام".
يبدو أنتون سازانسكي غافلاً عن تلك المشاعر فيما يسترخي في حوض ساخن في أحد الحمامات التقليدية في تبليسي. كان الرجل الذي بلغ عمره 39 عاماً متحدراً من سان بطرسبرغ قد درس في المملكة المتحدة وعمل لدى "ديلويت" و"كي بي أم جي"، ثم عُيّن في مكتب السلع في مصرف "في تي بي" (VTB). إلا أن المصرف الذي تملك الدولة الروسية غالبية أسهمه والمسؤول عن خُمس أصول المصارف في البلاد، رزح تحت عقوبات قاسية من واشنطن بعد الغزو. قال فيما كان يحتسي شراب الكركديه بعد حمام البخار وفرك جسمه والاستحمام: "بدأ الناس يفهمون أن المؤسسة تنهار".
الستار الحديدي يُغلق
حين بدأ كبار المسؤولين التنفيذيين الذين استهدفتهم العقوبات شخصياً بالفرار على متن طائرات خاصة، ارتأى سازانسكي أن وقت المغادرة قد حان. وجد عملاً في شركة وساطة صغيرة تمكّنت من الاستمرار في عملها بالتداول، لكن في الصيف الماضي حذّره والده بشدة قائلاً: "الستار الحديدي يُغلق، فإن لم تغادر الآن ستندم على ذلك طوال حياتك". أقنع سازانسكي صاحب عمله الجديد بالموافقة على أن يعمل عن بعد وبعد وقت قصير من إعلان بوتين التجنيد، حزم أغراضه من شقته في موسكو وغادر. تنازل عن إيداع الضرر القابل للاسترداد الذي دفعه للشقة وهو 1500 دولار، ثم قاد سيارته لمئات الأميال نحو قرية والدته وباع سيارته.
وجد تذكرة سفر رخيصة إلى مدينة سوتشي، التي كان بوتين قد أسهم في وضعها على الخارطة من خلال الألعاب الأولمبية الشتوية في 2014، ثم حجز تذكرة سفر بألفي دولار إلى العاصمة الأرمنية يريفان. قال سازانسكي: "كنت أعرف أنني قد لا أعود، ولا أعرف كيف سيتغير ذلك في المستقبل". في نقطة تدقيق الجوازات فضل التوجه نحو إحدى الموظفات النساء، وقال: "كنت أعرف أنني قادر على سحرها." تمكن أخيراً من الوصول إلى بوابة المغادرة، حيث كان عشرات الركاب بالانتظار. سُمح لهم بالمغادرة بعد تأخير لأكثر من ثلاث ساعات، إلا أنهم تأخروا على مدرج المطار لأربع ساعات إضافية. وصف تلك الرحلة بأنها "الأغلى والأسوأ في حياتي". كانت الفنادق في يريفان شبه محجوزة بالكامل، إلا أنه وجد غرفة لليلة واحدة ثم توجّه إلى تبليسي. بعدما انتهى من شرب الشاي، احتسى أول كأس من عدّة كؤوس نبيذ أبيض فيما كان يتناول الغداء على شرفة أحد المطاعم القريبة، مقرّاً بأن ليست لديه أي خطط واضحة.
زيادة عدد الشركات الجديدة
قال الحكومة الجورجية إن عدد الوافدين من روسيا استقر منذ موجة الهجرة الأولية عقب إعلان التعبئة. تلفت إيكا سيباشفيلي، التي تسهم في قيادة لجنة السياسة الاقتصادية في البرلمان، إلى إن النزاع في أوكرانيا أجبر جورجيا على تعديل أسواق التصدير لديها، إلا أن البلاد استفادت أيضاً من زيادة استخدام طرقاتها في عمليات الترانزيت. أضافت: "ازداد الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير". يشير مكتب الإحصاءات الوطني في جورجيا إلى أن ما معدله 3800 شركة جديدة كانت تُسجل شهرياً في السنتين الماضيتين قبل الغزو الروسي. في شهر مارس، تجاوز العدد 9 آلاف شركة فيما بلغ المتوسط أكثر من 7 آلاف شركة شهرياً منذ ذلك التاريخ.
في وسط مدينة تبليسي التاريخي، كان أربعة علماء وصلوا أخيراً من روسيا يحتفلون بعيد ميلاد، بتناول ألذ الأطباق الجورجية مثل لحم الضأن المشوي وحساء الباذنجان الشهي المعروف باسم أجابساندالي. وقّع الأربعة على عقد إيجار شقة مشتركة، وفيما سيستمر ثلاثة منهم بالعمل عن بعد مع شركاتهم في روسيا، يخطط رابعهم، فلاديسلاف لوكوشكين، للبحث عن عمل لدى شركة محلية. قال: "يمكنك أن تراهن أنها لن تكون شركة روسية". قال صديقه فلاديسلاف رومانوفسكي، خبير الرياضيات البالغ من العمر 27 عاماً وشارف على إنهاء أطروحة الدكتوراه في سان بطرسبرغ إن 90% من الأشخاص في مجموعته في المختبر غادروا روسيا. أشار إلى أنه يصعب "أن تعرف ما إذا كنت في موسكو أو هنا" نظراً لعديد الروس في قطار الأنفاق المحلي. سار الرجلان مسافة نحو ثلاثين كيلومتراً في الظلام لبلوع جورجيا، واجتازا عدة أنفاق يملؤها دخان عوادم السيارات التي تنتظر دورها لتعبر الحدود. قال رومانوفسكي: "كانت واحدة من أسوأ الرحلات في حياتي"، أما الأسوأ فكان مصادفته لدبّ غير مرة.
صعوبات مالية
عودة إلى باكو، يفتح رومان عبد الرحميوف الذي حطّ في المدينة قبل بضعة أيام فقط باب مكتبه الجديد ثم يغلقه سريعاً. يرتدي قميص بولو مطبّع بالأبيض والأزرق، ويبدو مكتنز البطن بعض الشيء. راح يخمّر الشاي، ثم جلس فيما تسربت أشعة الشمس من النافذة خلفه وعلا صوت الازدحام المروري في الشارع تحته. كان يتذمر من مشكلات تواجهها شركته المتخضصة بتأجير لوازم الحفلات، فهو كان قد وسع شركته من موسكو إلى سوتشي ويكاترينبورغ لتصل إيراداتها إلى مليون دولار في السنوات الجيدة، إلا أن وباء كورونا قضى على أعماله. وما إن بدأت مبيعاته بالتحسن حتى انهارت مجدداً بسبب غزو أوكرانيا. قال بصوت مرتفع: "كان لسان حالي يقول تباً، أعن جديد؟... في كل يوم، يتصل بي أشخاص كثر ويقولون: أعطني المال. لكنني لا أملك أي مال فقد أخذ كورونا كل مالي بل وأكثر".
أنشأ عبد الرحميوف أستوديوهين في موسكو لتصوير الطعام وتسجيل التدوينات الصوتية ومقاطع الفيديو القصيرة ليتمكن من الاستمرار. لكنه كان يبحث عن وسيلة للهرب نحو مكان لا تحكمه تقلبات السياسية الروسية. لذا أرسل شريكاً له في أبريل للبحث عن فرص، ولاستكشاف من بعض المواقع في باكو. بحلول يونيو كان قد افتتح مكتباً فوق مركز تسوق محلي وسرعان ما جهزه بالأضواء وآلات التصوير وأجهزة الميكروفون. بعد خطاب بوتين، أدرك أن عليه التصرف. اشترى تذكرة سفر بألف دولار إلى باكو في 24 سبتمبر وبعد بضعة أيام قبّل أولاده مودعاً واستقل سيارة أجرة إلى المطار. كان يحمل معه الحدّ الأقصى المسموح به من الأموال النقدية وهو 10 آلاف دولار، فيما كان يخطط للجوء إلى خدمات تحويل الأموال والعملات المشفرة ليحصل على مزيد من المال حين يلزم. يسعى اليوم لبيع شركته في روسيا والتركيز على عمله الجديد في باكو. قال إن السكان المحليين كانوا داعمين حتى الآن، بل إنهم توّاقون للمساعدة. قال إن الإجابة التي يتلقاها هي: "أهلاً، فلنعمل معاً".