بلومبرغ
بدأت تداعيات العقوبات على روسيا بالظهور، مع تزايد انغلاق الاقتصاد على العالم الخارجي، وذلك بعد أسبوعين من غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للجارة أوكرانيا.
أدت العقوبات المُنهِكة التي فرضها حلفاء أوكرانيا على روسيا، إلى انهيار قيمة الروبل، فضلاً عن النزوح الجماعي للشركات الأجنبية العاملة في السوق الروسية. هذه الظروف، تجعل من الصعب على روسيا الاستمرار في استيراد السلع الأساسية، فضلاً عن زيادة الأسعار بشكل كبير بالنسبة إلى أولئك الذين لا يزال بإمكانهم الحصول عليها، كما يهدد برفع معدلات البطالة بشكل حاد مع توقف إنتاج كل شيء، بدءاً من سيارات "نيسان" السيدان، وصولاً إلى هامبرغر "ماكدونالدز".
يمتلك بوتين وصانعو السياسة، خيارات محدودة لتخفيف تأثير العقوبات. فبعد أيام من اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا، رفع البنك المركزي الروسي سعر الفائدة القياسي إلى 20% بشكل غير مسبوق، في محاولة منه لوقف التراجع الحاد للروبل، وهي خطوة ستحد من الائتمان والنشاط في قطاع البناء، وفي القطاعات الأخرى الحساسة بشكل خاص تجاه تكاليف الاقتراض.
يقول مراقبو روسيا إن رغبة بوتين في تصوير الوضع على أنه مؤقت، وكذلك التزامه بمبادئ السوق والانضباط المالي، يمنع هذا النوع من التحوّل الواسع في السياسات المالية والصناعية التي يفضلها الآخرون داخل دوائر النخبة، للتعامل مع التوقف المفاجئ في تدفق رأس المال والنشاط التجاري. قد يؤدي تأثير العقوبات في نهاية المطاف إلى جعل هذا الموقف غير مقبول.
تقول كريستي إيرونسايد، الأستاذة في جامعة ماكغيل في مونتريال، والمتخصصة في تاريخ روسيا الحديثة: "إن الأمر المدمر للغاية بشأن هذه العقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، هو أن روسيا أمضت 30 عاماً في الاندماج في الاقتصاد العالمي، والآن تشعر بآثار عزلها عنه. وسنرى على المدى القصير ما يشبه إلى حد كبير الاكتفاء الذاتي".
انسحاب الشركات الأجنبية
تزداد قائمة الشركات العالمية التي تقطع العلاقات مع روسيا يوماً بعد يوم، ما يحدّ من الخيارات أمام المستهلكين، ويعطل النشاط التجاري، ويعرّض فرص العمل للخطر. وعلّق منتجو السلع الذين يصدرون منتجاتهم إلى روسيا، من بينهم "سامسونغ إلكترونيكس" (Samsung Electronics) و"ليفي شتراوس آند كو" (Levi Strauss & Co)، شحناتهم إلى البلاد. كما انسحبت شركات المحاسبة والمحاماة الدولية. ولم يكتف العديد من المصنعين الأجانب، بما في ذلك شركات صناعة السيارات، بإيقاف الصادرات إلى البلاد، بل أغلقوا مصانعهم هناك. ولايزال آخرون يحافظون على سير الإنتاج في الوقت الحالي، مع وقف ضخ استثمارات جديدة.
تعتمد روسيا بشكل كبير على السلع المستوردة، حيث بلغت حصة المنتجات الأجنبية في سوق المنتجات غير الغذائية للبيع بالتجزئة 75% اعتباراً من عام 2020، وفقاً لتقرير المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو الصادر في شهر نوفمبر الماضي. وبالنسبة إلى قطع غيار السيارات، وصل حجم المنتجات الأجنبية إلى 95%.
نقص قطع الغيار
يقول كريستوفر ميلر، المدير المشارك في برنامج روسيا وأوراسيا بكلية فليتشر في جامعة تافتس في مدينة ميدفورد بولاية ماساتشوستس: "لقد رأينا، على سبيل المثال، قصصاً عن إغلاق مصانع السيارات في كل أنحاء روسيا، لأنها لا تستطيع الحصول على قطع غيار. ربما تكون هذه مجرد بداية تعطيل لمجموعة كاملة من الصناعات الروسية التي ستكافح من أجل الوصول إلى المكونات أو الإمدادات التي تحتاج إليها للاستمرار في العمل".
قد ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 9% هذا العام بسبب العقوبات المفروضة عليها بالفعل، وفقاً لما قاله كل من سكوت جونسون وتوم أورليك من "بلومبرغ إيكونوميكس". وستكون تلك الضربة أكبر مقارنة بتلك التي نتجت عن أزمة عام 1998 التي دفعت روسيا إلى تخفيض قيمة الروبل والتخلف عن سداد ديونها، أو الأزمة المالية العالمية في عامي 2008-2009.
يقول جونسون وأورليك، إنه إذا اتخذت الولايات المتحدة وأوروبا إجراءات أكثر صرامة، مثل المقاطعة الكاملة لصادرات النفط والغاز الروسية، فقد تكون الضربة أقرب إلى 14%، وهو ما يمثل أسوأ تباطؤ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات.
الاكتفاء الذاتي
من المؤكد أن الجهود المُنَسّقة لعزل روسيا عن بقية العالم، ستعطي دفعة جديدة لحملة بوتين للاعتماد على الذات اقتصادياً. فلطالما كانت روسيا تحاول دون نجاح كبير التحرك في هذا الاتجاه منذ أن ضمت شبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات وفُرضت مجموعة من العقوبات الدولية عليها، وفقاً لمايكل أليكسييف، أستاذ الاقتصاد بجامعة إنديانا الذي درس انتقال الاقتصاد الروسي من النمط السوفييتي إلى الاقتصاد الموجه نحو السوق.
يقول أليكسييف: "حاول الروس إحلال الواردات منذ عام 2014 على الأقل، حيث كان هذا هو هدفهم لسنوات عديدة حتى الآن، لأنهم كانوا يستعدون لهذا النوع من الحرب. ومع ذلك، لم يتمكنوا من القيام بذلك".
ستتفاقم المشكلة بسبب هروب العمال من ذوي المهارات العالية من روسيا، والذي بدأ بالفعل، ويرجع ذلك جزئياً إلى المخاوف من أن الكرملين سيفرض الأحكام العرفية إذا استمر الهجوم على أوكرانيا. كان هذا أحد العوامل التي أضرت بروسيا خلال التسعينيات، عندما انهار الاقتصاد الروسي بعد انهيار الشيوعية. تقول أيرونسايد: "لقد غادر الملايين من الشعب".
تزايد التضخم
من الممكن أن يتجاوز معدل التضخم 20% بحلول منتصف العام الجاري، بعدما كان عند 8.7% خلال 12 شهراً حتى يناير الماضي، وذلك بسبب نقص المعروض وارتفاع أسعار الطاقة وانخفاض قيمة الروبل، وفقاً لتقرير بنك "باركليز" الصادر يوم 5 مارس، والذي أشار إلى أن "المخاطر سترتفع، إذا زاد ضغط العقوبات".
على الرغم من أن الحكومة الروسية أمضت سنوات في ضخ مليارات الدولارات من صادرات النفط إلى صندوق الرفاهية، إلا أنها لا تملك الموارد الكافية لحماية الأسر الروسية من صدمة الدخل الناتجة عن الغزو الأوكراني. ومع ذلك، قال العديد من الخبراء الذين تمت مقابلتهم بخصوص هذا الأمر، إن التوقعات بأن المعاناة الاقتصادية ستؤدي إلى تمرد شعبي في غير محلها، على الأقل في المدى القريب. وفي هذا السياق، يقول أليكسييف، إن هناك أنظمة "قادرة على البقاء لسنوات عديدة، مثل كوريا الشمالية وإيران، حيث ينخفض مستوى المعيشة بشكل كبير، ولا يزالون قادرين على الاحتفاظ بالسلطة".
تحرير الاقتصاد
تشير تصريحات بوتين في الاجتماع الذي عقده يوم 5 مارس مع أعضاء طاقم الخطوط الجوية الروسية قبل يوم المرأة العالمي، إلى أنه لا ينوي الابتعاد عن المسار المحافظ مالياً الذي رسمته حكومته في السنوات الأخيرة، وفقاً لستيفن فورتيشو، أستاذ السياسة الروسية في جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني.
يضيف فورتيشو: "قال بوتين إن الرد على العقوبات سيكون من خلال تحرير الاقتصاد، وهو أمر غريب إلى حد ما في ظل هذه الظروف. لقد نقلتُ هذا الأمر (يضيف بوتين) كرسالة إلى صانعي السياسة بأننا ملتزمون بالانضباط المالي، وبأننا لا نريد خرق الميزانية، ولا طبع النقود. ولا يزال التضخم يمثل مشكلة خطيرة إذا استمر الوضع على ما هو عليه".
يسمع ماكسيميليان هيس، الزميل في معهد أبحاث السياسة الخارجية، ناقوس الموت لمشروع مدته 30 عاماً لدمج روسيا في الاقتصاد العالمي. ويقول إن الخيار الوحيد المتبقي لبوتين الآن، هو الانتقال مرة أخرى إلى نظام شبيه بدرجة أكبر.
يقول ماكسيميليان: "نحتاج إلى الحديث عن اقتصاد السوق الروسي باعتباره ميتاً، وما سيأتي بعد ذلك".