ما ثقافة الشركة إن لم تكن لديها مكاتب؟

time reading iconدقائق القراءة - 11
ما هي ثقافة الشركة إن لم تكن لديها مكاتب؟ - المصدر: بلومبرغ
ما هي ثقافة الشركة إن لم تكن لديها مكاتب؟ - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

اسأل المديرين التنفيذيين عن السبب الذي يجعلهم متلهفين لعودة الموظفين إلى المكاتب، وستجد أنَّ الإنتاجية التي كانت في بداية الوباء همّهم وهوسهم الرئيسي، ليست لها أي علاقة بالموضوع. فكثيرون يتشاركون الرأي مع جوديث كار رودريغز، الرئيسة التنفيذية لشركة "إف آي جي" (FIG)، وهي شركة إعلانات في نيويورك. فوجئت كار رودريغز بمدى السلاسة التي جرت فيها الأمور حين انتقل موظفو الشركة البالغ عددهم نحو ثمانين موظفاً إلى العمل عن بعد، إذ إنَّ الشركة حققت نموّاً. لكنَّها ترفض الانتقال للعمل عن بعد بشكل كامل في المستقبل، بسبب خاصية ترى أنَّ المكاتب تتميز بها، ويصعب وصفها. قالت كار رودريغز: "أدرك أنَّ الناس منتجون، ولكن هل يتعلمون؟ هل ينمون؟ هل يتم تحدّيهم؟ أخشى أنَّنا نبني ثقافة حيث الأشخاص لا يتعرضون فيها للأمور ذاتها كما في المكاتب".

اقرأ أيضاً: "لاغارد" ترى استمرار العمل من المنزل جزئياً بعد الجائحة

ندرك اليوم أنَّ الموظفين أظهروا إنتاجية عالية خلال فترة الإغلاق الناجمة عن وباء كورونا. وبحسب استطلاع صادر عن مجموعة "غولدمان ساكس" في يوليو الماضي؛ فإنَّ ناتج العامل في الساعة ارتفع 3.1% عام 2020، أي بأكثر من ضعفي معدل النمو في دورات الأعمال السابقة. مع ذلك؛ فإنَّ رؤساء الشركات يضغطون بقوة نحو العودة إلى المكاتب منذ أن عادت مثل هذه المطالبة تثير السخط. وكان العديد من رؤساء البنوك الكبرى في الولايات المتحدة قد وصفوا بعبارات مختلفة فكرة العمل من المنزل بأنَّها "أكثر فكرة حمقاء" سمعوا بها في حياتهم. لا شكّ أنَّ السلالات المتحورة من فيروس كورونا قلبت خططهم قصيرة المدى رأساً على عقب، ولكن في نهاية المطاف، هم يريدون أن يعود الموظفون إلى مكاتبهم على الأقل جزئياً. وفي استطلاع في يونيو شمل ألف عامل في أقسام الموارد البشرية، أجاب أقل من 10% بأنَّ أصحاب عملهم يخططون للعمل عن بعد بشكل كامل على المدى الطويل.

اقرأ المزيد: بكم ستُضحي من راتبك للاستمرار في العمل من المنزل إلى الأبد؟

نظريات مختلفة

من خلال الحديث إلى نحو عشرة رؤساء تنفيذيين حول هذا التعلّق بالمكان؛ بدا أنَّ الجميع يتشاركون السبب ذاته الذي يدفعهم إلى المطالبة بعودة الموظفين إلى المكاتب. قال ويلي ووكر، الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة "ووكر آند دانلوب" (Walker & Dunlop)، وهي شركة تمويل عقاري تجارية: "بذلنا كلّ الجهد من أجل بناء هذه الثقافة العظيمة". وكان ووكر قد تبنى سياسة "تلقوا اللقاح، وعودوا إلى المكتب" الموجهة إلى 1200 من الموظفين العاملين في شركته خلال الصيف الماضي. وحين طلبت منه أن يشرح أكثر ما يقصده بـ"الثقافة العظيمة"، أجاب متحدثاً من دنفر من داخل أحد المكاتب الـ41 التابعة للشركة: "هذا الحديث يطول".

لكن ما هي ثقافة مكان العمل؟ إذا تحدثتَ مع ستّة منظّرين في مجال الإدارة؛ فسوف تحصل على ستّة أجوبة مختلفة. يقول بعضهم، إنَّها المجموعة المشتركة من المعتقدات والسلوكيات والافتراضات التي تتشاركها مجموعة من الأشخاص الذين يعملون معاً. ويقول بعضهم الآخر، إنَّ الأمر يتعلق بما يعتبره الموظفون أهدافهم وقيمهم والطريقة التي يتصرفون بها، وهي أمور ليست ذاتها دائماً. لكن ما يتفقون عليه، هو أنَّ نوعاً من الثقافة ينشأ في نهاية المطاف حين يمضي الأشخاص الوقت معاً. وقال أمير غولدبرغ، الباحث الذي يدرس السلوك التنظيمي في كلية ستانفورد للدراسات العليا للأعمال: "تنشأ الثقافة سواء رغبت في ذلك أو لم ترغب". وأضاف: "لا توجد شركات من دون ثقافة".

تغييرات مقلقة

لا يشك الخبراء في أنَّ الانتقال نحو العمل عن بعد بشكل كامل أحدث تغييراً في ثقافة الشركات، فقد اختلفت طريقة التواصل بين الناس. ولكن المقلق بالنسبة إلى رؤساء الشركات، هو أنَّهم ما عادوا يدركون تماماً ماهية هذه التغييرات بما أنَّهم لا يرونها شخصياً. وحتى إذا أدركوا ما الذي يجري؛ فإنَّ قدرتهم على التأثير في التفاعلات اليومية قد تراجعت. وقال غولدبرغ: "الثقافة هي وسيلة تمكّن المؤسسات من التحكم بأعضائها والسيطرة على سلوكهم". وأضاف أنَّ هذا الأمر صعب حين لا تستطيع بعد اجتماع ما أن تقول مثلاً "هل تعرف يا جون، ربما لم يكن يجب أن نقول كذا وكذا".

لا ينبع تشديد قادة الشركات على مثل هذه الأمور عن تفكير غير منطقي أو أناني تماماً. فالثقافة القوية تسهم فعلاً في تحسين الأداء، ويمكن أن تدفع الموظفين للعمل أكثر، لكنَّها تساعد على التخفيف من التحرش، والإنهاك، والاحتيال. لكنْ ما لا يفهمه المتحمسون للعودة إلى المكاتب؛ هو أنَّ إقامة تفاعلات صحية في مكان العمل لا يتطلب الحضور إلى قاعة اجتماعات أو إلى برج شاهق في وسط المدينة.

الثقافة لا تحتاج إلى مكاتب

قال مات مولينويغ، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة "أوتوماتيك" (Automattic) المتخصصة في برمجيات الإنترنت: "تنشأ الثقافة في كل تفاعل يحصل بين الأشخاص في شركتكم، بغضِّ النظر عما إذا كان ذلك وجهاً لوجه، أو لم يكن كذلك".

يتمتع مولينويغ ببعض المصداقية على هذا الصعيد. فشركته تعمل من دون مقر منذ تأسيسها قبل 16 سنة. وبات مؤسسها خبيراً في حقبة ما بعد المكاتب. يستضيف مولينويغ بودكاست، إذ يجري حوارات شائقة وشاملة حول العمل عن بعد مع ضيوف مثل المؤسس الشريك لـ"تويتر" جاك دورسي، وجايسون فرايد من "بايزكامب" (Basecamp). وهم يعطون نصائح حول سبل تحسين الاجتماعات عبر تطبيق "زووم" مثلاً من خلال الطلب من الموظفين تقديم أفكارهم عبر "مستندات غوغل" مسبقاً، وتهيئة أجواء تلاقي عفوية على "سلاك" (Slack).

يمثّل مولينويغ قصة النجاح النموذجية لشاب من جيل الألفية. فهو ترك الجامعة من أجل العمل على مشروعه الجانبي "وورد برس" (WordPress)؛ المنصة مفتوحة المصدر التي أصبحت اليوم العمود الفقري للعديد من الناشرين عبر الإنترنت. بعد سنة، أنشأ "أوتوماتيك"، الشركة الأم لـ"وورد برس"، و وظَّف الأشخاص الذين رأى أنَّهم مناسبون للوظيفة، بغضِّ النظر عن مكان سكنهم. كان موظفوه الأوائل يعملون من إيرلندا ومن تكساس. سرعان ما زاد عدد الموظفين ليبلغ 1800 اليوم، وهم يعملون من كل قارات العالم ما عدا أنتاركتيكا. ومع ذلك؛ لا تملك الشركة أي مقر. يتنقل مولينويغ بين هيوستن وسان فرانسيسكو وجاسكون هول في وايومنغ. فهو

لا يحب المكاتب، ويصف أجمل المكاتب بأنَّها "تجارب دون المستوى"، ولكن من بعض النواحي الأخرى، فهو لا يختلف كثيراً عن نظرائه الذين يحبذون المكاتب، وقال: "أحب التفكير في الثقافة".

عمل بلا تمييز

بالنسبة إلى مولينويغ، لا يوجد شيء مفيد جوهرياً من العمل إلى جانب أشخاص آخرين ضمن مساحة مبنية. كما أنَّ ثورة العمل من المنزل أثبتت أنَّ العمل جنباً إلى جنب تجربة سامة بالنسبة إلى بعضهم. على سبيل المثال، قال العاملون ذوو البشرة السوداء، إنَّهم خلال العمل من المنزل في السنة الماضية، عوملوا بشكل متساو أكثر مع زملائهم، وباتوا يقدّرون زملاءهم أكثر، ويشعرون بمزيد من الدعم من جانب الإدارة، بحسب استطلاع أجرته منصة المستقبل من "سلاك" في أكتوبر. وعلى الرغم من أنَّ متغيرات عدّة قد تكون أسهمت في التوصل إلى هذه النتيجة؛ إلا أنَّ الأشخاص من ذوي البشرة السوداء يقولون إنَّ الابتعاد عن العنصرية والمضايقات اليومية أشعرهم بالارتياح.

ويشار إلى أنَّ شركة " ووكر آند دانلوب" للتمويل العقاري، سجلت ارتفاعاً بنسبة 10 نقاط مئوية في عدد الموظفين الذين قالوا إنَّهم شعروا بأنَّ بإمكانهم وضع كل طاقتهم في العمل خلال فترة الوباء، بحسب الرئيس التنفيذي ووكر. ومن المعروف أنَّ هذا السؤال يمثّل المؤشر الأساسي على انخراط الموظفين الذي يبقي الأشخاص سعداء ومنتجين، وبالتالي؛ أقل حماسة للبحث عن فرص جديدة. يدرك ووكر أنَّ إلغاء بعض الديناميكيات وجهاً لوجه قد خفف العبء عن كاهل بعضهم، لكنَّه مقتنع بأنَّ تكلفة البقاء في المنزل مرتفعة جداً.

ثقافات سامة

قد يكون محقاً في هذه النقطة بالذات، فمثلما لا يقدِّم المكتب تلقائياً صيغة مميزة لنشوء نوع من الثقافة، إلا أنَّ العمل من المنزل لا يقدّم ذلك أيضاً. فقد كشف الوباء عن طرق متنوعة تسمح بتفشي الثقافات السامة في حياتنا العملية الرقمية. فالمضايقات المتعلقة بالعمل تحصل عبر الانترنت أيضاً. كما يؤدي العمل من المنزل إلى العزلة، إذ إنَّ الأهل قد يشعرون بأنَّه يتم الحكم عليهم بشكل غير عادل، في حين يواجه الموظفون الجدد الشباب صعوبة في تعلم مهامهم. إلى ذلك، يمكن للمديرين بسهولة أن يستغلوا غياب الحدود بين الحياة المنزلية والمهنية.

لكن على الرغم من الرغبة الكبيرة لرؤساء المؤسسات بالتخلص من العمل عن بعد؛ إلا أنَّ كل المؤشرات تفيد أنَّ ثمة بضعة أيام على الأقل سيتم العمل خلالها من المنزل. حتى في القطاع المالي، الذي يدفع بشدّة نحو العودة الجماعية إلى المكاتب، بلغت نسبة الموظفين الذين يحضرون يومياً إلى ناطحات السحاب 27% فقط، بحسب استطلاع كبار أصحاب العمل أجرته الشركة من أجل مدينة نيويورك. في غضون ذلك؛ يبني العاملون من المنزل ثقافات جديدة. وبرأي غولدبورغ من ستنافورد؛ ما يزال من المبكر تبيان ما إذا كانت هذه الثقافة أفضل أو أسوأ مماّ كان سائداً قبل الوباء، إلا أنَّه يتوقَّع أن تكون الروابط بين الموظفين من جهة، و بينهم وبين شركاتهم من جهة أخرى قد تضعضعت. لكن السؤال الأهم بالنسبة إليه: من الذي يستفيد من النظام العالمي الجديد؟

نصائح عملية

يشجع مولينويغ نظراءه من الرؤساء التنفيذيين للشركات على التوجه نحو العمل عن بعد، وهو يقدّم لهم بعض النصائح العملية. مثلاً، حين يتم توظيف شخصين في المدينة ذاتها، يفضّل أن يعملا ضمن فريقين مختلفين من أجل تشجيع الاختلاط داخل الفريق. تستخدم "أوتوماتيك" أداة تواصل تحمل اسم "دونات" تجمع عشوائياً شخصين لإجراء حديث عفوي عبر "سلاك"، وهي الطريقة التي تعتمدها شركته من أجل محاكاة بعض التواصل العفوي الذي يجري في المكاتب. وهو يعتبر أنَّ القادة، بالأخص الذين كانوا يعتمدون بشكل كبير على الكاريزما في السابق، يمكنهم بهذه الطريقة تعزيز مهاراتهم الكتابية. فالوضوح مهم جداً عند التواصل عبر البريد الإلكتروني أو تطبيقات الدردشة.

إلا أنَّ الأمر يتطلب بذل الجهد. قال مولينويغ: "أتمنى لو بإمكاني القول، إنَّ ثمة سرّاً للمؤسسات التي تعمل في الغالب عن بعد. مثلاً إذا قمتم بكذا وكذا؛ فإنَّ كل الأبواب ستفتح أمامكم"، وأضاف: "الأمر يتعلق بفهم زملائك، والتواصل، والتعاطف"، وسواء يحصل ذلك في مطبخ الشركة أو عبر تطبيق "زووم"؛ فإنَّ ذلك لا يهم.

تصنيفات

قصص قد تهمك