
الشرق
في بلد تقف فيه البنوك على أنقاض الثقة، وتروى فيه قصص المودعين كالأساطير المكسورة، لا يمر تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان كخبر روتيني. فحين يدخل كريم سعيد مكتبه الجديد في مبنى المصرف المركزي ببيروت، فإنه لا يدخل مجرد مؤسسة نقدية، بل يتقدم نحو مشهد معقّد تتشابك فيه أطلال نظام مالي متهالك مع آمال ملايين تنتظر منذ خمس سنوات أن تعرف: هل ستعود أموالنا؟
من الحرب الأهلية إلى الاستدانة
في بداية التسعينات، بعد خروجه من الحرب الأهلية، بدا لبنان وكأنه ماضٍ نحو الازدهار. لكن الحكومة كانت بحاجة ماسة إلى تمويلات ضخمة لإعادة الإعمار وللنهوض بالاقتصاد، فقررت اللجوء إلى الاستدانة بالعملة الأجنبية من الخارج.
مثّل عام 1998 نقطة فارقة، حيث أصبحت السندات بالدولار جزءاً أساسياً من سياسة الحكومة اللبنانية، وبدأ الاعتماد الأكبر على الدولار كعملة لتمويل الدين العام.
شهدت تلك الفترة خروج عدد من المصارف الأجنبية والإقليمية من السوق اللبنانية، خاصة في ظل التدهور السياسي والاقتصادي المتواصل، ما دفع تلك البنوك إلى تقليص عملياتها أو الانسحاب تماماً.
الانفجار الصامت: كيف بدأت الأزمة؟
اعتمد لبنان سعر صرف ثابت مقابل الدولار عند 1507.5 ليرة، منذ عام 1997، وتم التسويق لهذا القرار كضمان للاستقرار النقدي. على السطح، كانت السياسة تبدو منطقية. لكن تحتها، كانت الأرض تتفسخ بصمت.
تمويل الدولة اعتمد بشكل متزايد على الاستدانة بالدولار من البنوك، وهذه البنوك بدورها كانت تستقطب ودائع اللبنانيين والمغتربين بفوائد مرتفعة لتعيد إيداعها في مصرف لبنان. وهكذا تولدت حلقة مغلقة: المودعون يمولون البنوك، والبنوك تمول المصرف المركزي، والمصرف المركزي يمول الدولة. كل شيء كان يسير على ما يرام؛ حتى توقف كل شيء.
بحلول العام 2019، بدأت مؤشرات الانهيار تتكشف: الدين العام تجاوز قدرات الدولة على السداد، التحويلات المالية من الخارج تراجعت، والاحتياطات الأجنبية أخذت تنضب.
في أكتوبر من نفس العام، اندلعت احتجاجات شعبية واسعة ضد الفساد وسوء الإدارة، ما أدى إلى فقدان الثقة بالنظام المصرفي، وهروب رؤوس الأموال؛ فازدادت الأمور سوءاً. وفي الأشهر التالية، فرضت البنوك قيوداً غير رسمية على السحب والتحويلات، لتتحول أزمة السيولة إلى كارثة حقيقية.
ولد في هذا السياق مصطلح جديد: "اللولار"؛ أي الدولار المحجوز في البنوك، يُصرف بالليرة على سعر صرف أقل من السوق السوداء.
هذا لم يكن مجرد تراجع مالي، بل انهيار شامل للثقة. ومع كل يوم، كان المودعون يشهدون تبخر قيمة مدخراتهم، دون قدرة على التصرف بها أو محاسبة من تسبب بذلك.
فجأة، لم يعد المصرف المركزي قادراً على تأمين الدولارات المطلوبة، وفقد النظام المالي قدرته على الاستمرار.
مصرف لبنان في قفص الاتهام
منذ ذلك الحين، تحول مصرف لبنان من صانع للسياسة النقدية إلى متهم مباشر في الكارثة. بدأ المصرف بطباعة الليرة بكميات كبيرة لتمويل العجز وسداد التزامات الدولة، ما أدى إلى تضخم مفرط وتآكل القدرة الشرائية. أما البنوك، فتذرعت بالعجز عن إعادة الأموال إلى المودعين بحجة أنها أودعتها لدى المصرف المركزي الذي استخدمها لدعم الليرة وتمويل الاستيراد، مما أدى إلى تآكل الاحتياطي.
وفي مارس 2020، أعلن لبنان رسمياً أول تخلف عن سداد الديون السيادية، معلناً بذلك انتقال الأزمة من "المشكلة" إلى "الانهيار الهيكلي".
الخطط الفاشلة والوعود المبعثرة
في السنوات اللاحقة، طُرحت خطط عدة للخروج من الأزمة، لكن معظمها اصطدم بجدار المصالح السياسية والتجاذبات بين الدولة والمصارف.
تضمنت أبرز الخطط شطب جزء من الخسائر وتحميل البنوك والمصرف المركزي جزءاً منها، ومقترحات لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. مطالبات أخرى كانت بتطبيق "الكابيتال كونترول" لتنظيم القيود المصرفية. إلا أنه لم يصدر أي تشريع يحمي المودعين من الاستنسابية.
وعلى الرغم من المفاوضات المستمرة مع صندوق النقد الدولي، فشل لبنان في الوصول إلى اتفاق حتى يومنا هذا لعدة أسباب بينها: غياب الإصلاحات المطلوبة، والضغوط السياسية والانقسامات، والضغط الاجتماعي والاقتصادي.
في هذا الوقت، تم صرف جزء صغير من أموال المودعين تحت ما يشبه "التنقيط"، في عهد وسيم منصوري، حاكم مصرف لبنان بالإنابة منذ مارس 2023 حتى مارس 2025، إلا أن الجزء الأكبر بقي مجهول المصير.
اقرأ أيضاً: هذه خطة مصرف لبنان لإعادة أموال المودعين
هارفارد: الحل الصادم
وسط هذا المشهد القاتم، برز اسم كريم سعيد، حيث يرتبط اسمه بخطة لحل الأزمة الاقتصادية في لبنان، أعدتها "جامعة هارفرد" بتمويل من شركة "غروث غيت بارتنرز" (Growthgate Partners) التي شغل فيها سعيد منصب مؤسس وشريك إداري.
تُعرف الخطة بجرأتها وصراحتها، وتطرح إعادة بناء النظام المالي اللبناني على أسس جديدة كلياً. وأبرز بنودها:
- اعتماد الدولار الأميركي كعملة رسمية للبنان.
- تحويل 76 مليار دولار من المطالبات على البنوك ومصرف لبنان إلى مطالبات على الحكومة، مع حماية الودائع الصغيرة (التي لا يزيد حجمها عن 150 ألف دولار).
- إعادة هيكلة الدين العام ضمن اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
- تطوير محركات جديدة للنمو الاقتصادي في قطاعات الزراعة، والسياحة، والغاز الطبيعي، والخدمات التجارية عالية المهارة.
لكن الخطة وإن بدت عقلانية في كتب الاقتصاد؛ تصطدم بواقع سياسي مأزوم ومجتمع غاضب ومصارف منهكة.
صلاحيات واسعة وهامش ضيق
لحاكم مصرف لبنان صلاحيات واسعة كإدارة السياسة النقدية، وإصدار العملة، وإدارة الاحتياطات النقدية، والإشراف على البنوك، وتحديد سعر الصرف، وإدارة الدين العام، وتنظيم الائتمان، والتعامل مع الأزمات المالية، والتمثيل الدولي.
غير أن المشاكل الاقتصادية كأزمة أموال المودعين نتاج مزيج من السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها الحكومة ومصرف لبنان على مدار سنوات، وبطبيعة الحال الحلول في هذا المجال تقع على عاتق الدولة أولاً والمركزي ثانياً.
فهذه الصلاحيات تبقى شكلية إن لم تقترن بقرارات سيادية، ورؤية متكاملة بين الحكومة والبرلمان والقطاع الخاص.
وبدون هذه الروابط، يُخشى أن لا يكون الحاكم الجديد أكثر من مدير أزمة؛ لا صانع حل.