بلومبرغ
كافأت الأسواق على مدار السنوات العشر الماضية المستثمرين أصحاب الاستراتيجيات البسيطة، إذ نمَت أصول الاستثمارات السلبية التي تتبع المؤشرات خمسة أضعاف وحقّقَت مكاسب كبيرة. بمجرد تتبُّع المستثمرين مؤشر ستاندرد أند بورذ 500 خلال تلك الفترة، تضاعفت أموالهم ثلاث مرات تقريباً.
في المقابل عانت أصول الاستثمارات النشطة وتقلص بعضها، ولم يتفوق في الولايات المتحدة سوى أقلّ من 20% من مديري الاستثمارات النشطة، على منافسيهم ممن اتبعوا المؤشر على مدار العقد الماضي.
لكن يبدو أن شعبية الاستثمار السلبي الذي يتبع المؤشر قد تتضاءل قريباً نتيجة تغيير توجُّه البنك المركزي الذي يشجع المستثمرين على اتباع استراتيجية استثمارية أكثر نشاطاً.
استراتيجية استثمارية أكثر استباقية
يتجه البنك المركزي الأوروبي إلى مراجعة استراتيجيته، كما يعمل الاحتياطي الفيدرالي على تغيير منهجه في اتخاذ قرارات السياسة النقدية وفقاً لمؤشرات الاقتصاد الفعلية التي قد تتأخر بدلاً من التوقعات. ومع تحول محافظي البنوك المركزية لتصبح قراراتهم ردّ فعل، لن يكون أمام المستثمرين خيار سوى اتباع استراتيجية استثمارية أكثر استباقية.
على مدار العقد الماضي، أدار محافظو البنوك المركزية المشهد بشكل مستقلّ، وفرضت السياسة النقدية تسعير عوائد الأصول، واعتاد المستثمرون اتخاذ القرارات على خلفية ما يقرره محافظو البنوك المركزية مع استعداد البنوك المركزية لدعم الأسواق بشتى الطرق لكي تعمل بشكل جيد، فلماذا تحاول التفوق على المؤشرات وتحلّل الشاقّ والمكلّف؟ ما عليك سوى تتبُّع المؤشر واتباع استراتيجية الاستثمار السلبي الذي أصبح طريقاً منطقياً ومربحاً لتوليد العوائد.
تَغيَّر الوضع منذ بداية العام وأصبح المستثمرون يتحدّون قرارات الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية الأخرى الحذرة والعنيدة، وأصبح التسعير يجري وفق سيناريوهات أسعار فائدة مختلفة عن توقعات البنوك المركزية، بما يهدد مستقبل الاستثمار السلبي.
تداولات الأسواق تشير إلى الفيل الموجود في الغرفة. لماذا يواصل الاحتياطي الفيدرالي شراء ما قيمته 120 مليار دولار شهرياً من السندات ضمن البرنامج الذي بدأ في أثناء ذروة تفشِّي الوباء فيما أحرزنا تقدماً كبيراً منذ ذلك الحين؟ فقد انخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة من 15% إلى 6% بزيادة 2% فقط فوق مستويات ما قبل الوباء، كما سجل التصنيع العالمي أعلى مستوياته منذ نحو عقد من الزمان، كذلك تضاعفت المدخرات الشخصية عالمياً، إن لم تكن زادت ثلاثة أضعاف مقارنة بمستويات ما قبل كوفيد.
توقعات ارتفاع التضخم
توقع المستثمرون ارتفاع التضخم منذ بداية العام وهربوا من الاستثمار في السندات، مما أدى إلى ارتفاع عائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات من 1% إلى 1.5% في ستة أسابيع فقط على الرغم من إصرار جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي على أن التضخم لا يزال "بعيد جداً" عن المستوى المستهدف من الفيدرالي، وأنه لا حاجة إلى رفع أسعار الفائدة.
ينتاب محافظي البنوك المركزية قلق بشأن التحول بسرعة كبيرة لتشديد السياسة النقدية، وهو أمر طبيعي، إذ يتذكرون نوبة الغضب عام 2013 والذعر الذي أصاب المستثمرين لمجرد احتمال خفض الاحتياطي الفيدرالي دعمه للأسواق وقتها، إلى الدرجة التي اضطُرّ معها إلى زيادة الدعم لا خفضه، إلى جانب استمرار حالة عدم اليقين حول كيفية تعافي اقتصاد الخدمات. على عكس فترات الركود السابقة، قد يكون لـ"كوفيد-19" تأثير طويل الأجل على مقدمي الخدمات مثل المطاعم ودور السينما وما إلى ذلك.
ورغم تلك العوامل، لا تزال الأسواق رافضة لذلك المنطق. وعلى الرغم من استبعاد باول رفع أسعار الفائدة حتى عام 2024 على الأقل، فإن تعافي الاقتصاد بوتيرة أسرع من المتوقع دفع المستثمرين إلى توقُّع رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بدءاً من عام 2022، وهو ما تعكسه حركة تسعير أسواق العقود الآجلة لأسعار الفائدة القياسية من الفيدرالي ومعدلات الفائدة على احتياطات البنوك من الودائع لدى الفيدرالي، وكلاهما يتتبع توقعات أسعار الفائدة على المدى القصير.
البنوك المركزية تنقذ السوق
في المقابل شهد قطاع البنوك -المستفيد النهائي من ارتفاع أسعار الفائدة– أداءً متميزاً على مدار العام، متفوقاً بعشرين نقطية مئوية على مؤشر "ستاندرد آند بورز".
تَصرُّف المستثمرون عكس توجهات البنوك المركزية قلّل قبضتها على الأسواق، وهو ما يُضعِف أداء استراتيجيات الاستثمار السلبية التي تتبع المؤشر. فشعار الاحتياطي الفيدرالي أن "البنوك المركزية سوف تنقذ السوق دائماً" يعمل فقط إذا كان الاحتياطي الفيدرالي هو المسيطر.
جاء ردّ فعل المستثمرين على تصريحات جانيت يلين وزيرة الخزانة هذا الأسبوع ليؤكد ضعف قبضة الفيدرالي على الأسواق، إذ باع المستثمرون أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية الأكثر حساسية لتغيرات أسعار الفائدة بعدما صرحت يلين بأن أسعار الفائدة قد تُضطرّ إلى الارتفاع إلى حد ما للتأكد من أن الاقتصاد لا يتعرض لضغوط تضخمية أكثر مما يجب.
أبدت الأسواق رد فعل كلاسيكياً بالتفاعل مع إشارات السياسة النقدية، ولكن هذه المرة لم تأتِ الإشارة من الاحتياطي الفيدرالي، كما أن تصريحات يلين عززت توقعات المستثمرين ارتفاع أسعار الفائدة في وقت أقرب مما يعلنه الاحتياطي الفيدرالي.
إذا رُفعَت أسعار الفائدة فسيتراجع الإقبال على مؤشرات الأسهم التي استفادت من تراجع عائد باقي الخيارات الاستثمارية، وهذا يعني أن اتباع نهج أكثر نشاطاً في الاستثمار واتخاذ قرارات بشراء أوراق مالية بعيداً عن حركة المؤشرات سيكون ضرورياً وبشكل متزايد للحصول على عوائد أفضل. لكن ذلك يتطلب فهماً عميقاً لمحركات أرباح الشركة.
الاستثمار النشط يعتمد على ربط سعر سهم الشركة بنموذج أعمالها الأساسي، إذ يتقارب سعر السهم مع معدَّل النمو السنوي المركَّب لأرباح الشركة على المدى الطويل. ومع تفوُّق نمو الأرباح على معدلات ارتفاع أسعار الأسهم يكون ذلك مؤشراً للمستثمرين النشطين على تحقيق أرباح مضاعفة وتحقيق عوائد قوية. لقد رأينا عكس ذلك على مدار العقد الماضي نتيجة العمل في بيئة أسعار فائدة منخفضة.
لذلك على المستثمرين الموازنة بين التأثير السلبي لأسعار الفائدة المرتفعة، وانحسار تدفقات السيولة للتداولات في المستقبل، مقابل التأثير الإيجابي لنمو أرباح الشركات.
لقد كافأت الأسواق خلال السنوات العشر الماضية مَن اتبع سياسة البنك المركزي، وكانت استراتيجية الاستثمار السلبي بسيطة لكنها فعالة للغاية، فيما تَخبَّط أصحاب الاستثمارات النشطة نتيجة السياسة النقدية الشاملة التي لم تترك مجالاً للمفاجآت. لكن الأدوار بدأت التحوُّل بين البنوك المركزية والمستثمرين في السوق، مما تسبب في زعزعة الأمور.