الشرق
يقترب البنك المركزي العراقي من إنهاء عملية المراقبة المباشرة للحوالات المالية، والتي بدأت مع إطلاق منصة إلكترونية في مطلع عام 2023. وُصفت هذه الخطوة بأنها مرحلة أولية تهدف إلى إعادة تنظيم التحويلات المالية للمصارف العراقية، بحيث تتيح مراقبة استباقية بدلاً من الرقابة اللاحقة التي كان يقوم بها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من خلال تدقيق الحوالات اليومية.
منذ مطلع العام الحالي حتى أكتوبر، باع البنك المركزي العراقي حوالي 55 مليار دولار من العملة الأميركية من خلال المنصة الإلكترونية للحوالات بزيادة نسبتها 50% عن نفس الفترة من العام 2023 الذي انطلق في بدايته عمل المنصة الإلكترونية. ومن المتوقع أن تصل المبيعات إلى 75 مليار دولار بنهاية العام الحالي، وفق حسابات "الشرق".
وكان البنك قد أوضح في بيان في سبتمبر أن عملية المراقبة ستقوم على علاقات مباشرة بين المصارف في العراق والبنوك الخارجية المراسلة والمعتمدة، يتوسط ذلك شركة دولية للقيام بالتدقيق المسبق على الحوالات، قبل تنفيذها من قبل البنوك المراسلة، وهي الأساس الذي تم اعتماده للاستغناء عن هذه المنصة.
المصارف المسيطرة على التحويلات
من بين عشرات المصارف العاملة في العراق، أصبحت عملية التحويل المالي بالدولار الأميركي تنحصر تدريجياً بيد ستة مصارف فقط، وهي: "المصرف الأهلي العراقي"، و"مصرف المنصور"، و"مصرف بغداد"، و"مصرف الائتمان"، و"مصرف أبوظبي"، و"مصرف التجارة العراقي" (مصرف حكومي)، وفق ما أفاد به لـ"الشرق" مسؤول في البنك المركزي العراقي، فضل عدم نشر اسمه. ولفت الى أنه من المتوقع أن تستمر المصارف الستة بالاستئثار بعملية التحويل بالدولار، حتى مع انتهاء عمل المنصة الإلكترونية، كون هذه البنوك تمتلك علاقات مصرفية (بنوك مراسلة) مع مصارف عالمية دون غيرها من المصارف الأخرى.
واستبعد المدير المفوض لـ"مصرف العراق الأهلي" أيمن أبو دهيم أن تتأثر السوق بإلغاء المنصة الإلكترونية للحوالات بسبب أن "المصارف العاملة الآن بعمليات تحويل الدولار التي نحن منها تستحوذ على قرابة 95% من تعاملات الدولار الأميركي" ولفت في حديثه لـ"الشرق" إلى أن البنك المركزي عزز إجراءاته تجاه بقية المصارف التي لن تشارك بعمليات تحويل الدولار من خلال تهيئة نظام تحويل بعملات أخرى و"هي مهمة جداً بسبب حجم تجارة العراق معها".
جدارة المصارف العراقية
ويعزو محمود داغر، مدير عام "سابق" في البنك المركزي العراقي، سبب تردد المصارف الأميركية في فتح حسابات للعديد من المصارف العراقية إلى ثقتها في التصنيفات الائتمانية لعدد محدود من المصارف العاملة في العراق. وفي حديثه لـ"الشرق"، يشير داغر أيضاً إلى أن المصارف العراقية تقع في منطقة خطرة بسبب مشكلات دول الجوار للعراق وطبيعة العلاقة السياسية ما بين العراق وإيران و"هذا كله جعل المصارف المراسلة لا تتورط بفتح حسابات لها مع مصارف عراقية بشكل مباشر أو تتشدد إزاء شروط فتح الحسابات لارتفاع أخطار الإقليم في العراق"، وفق وصفه.
ومن جهته، يضيف مصطفى حنتوش الباحث في الشأن المالي رأياً آخر لابتعاد المصارف العالمية وبشكل خاص الأميركية الكبرى عن عدم التعامل مع بعض المصارف العراقية إلى ما وصفه بضعف البنك المركزي العراقي في تطبيق المعايير المصرفية الدولية على البنوك، مثل معيار (CAMELS) للتحقق من سلامة الأوضاع المالية للمصارف من حيث كفاية رأس المال، وجودة الأصول والإدارة، وإدارة الربحية ودرجة السيولة والحساسية تجاه مخاطر السوق. وحذّر حنتوش من أن "البقاء على هذا الوضع (الاقتصار على مصارف محددة بعمليات تحويل الدولار) من المتوقع أن يحدث تذبذباً بسعر الصرف ولكن الحالة الأسوأ هي فقدان المنافسة في القطاع المصرفي وخسارة عشرات الآلاف من الوظائف لصالح أرباح مضاعفة لبعض المصارف الأجنبية"، بحسب قوله.
قواعد صارمة
فرض البنك المركزي العراقي قواعد صارمة منذ أواخر عام 2022، تلزم البنوك بالكشف عن المستفيدين النهائيين من التحويلات المالية. وبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك في ذلك الوقت بمراقبة دقيقة للتحويلات المالية الخارجة من الحسابات الرسمية للعراق، ورفض أي تحويلات لا تمتثل للإجراءات المثلى للتحويلات المالية الدولية. جاء ذلك بعدما قال مسؤولون أميركيون إن حوالي 80% من التحويلات بالدولار التي تتجاوز قيمتها 250 مليون دولار في بعض الأيام، والتي تمر عبر البنوك العراقية، كانت غير قابلة للتتبع. وذكر المسؤولون أن جزءاً من هذه الأموال تم تحويله سراً إلى الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المناهضة للولايات المتحدة التي يدعمها، وفق ما أفادت به صحيفة "ول ستريت جورنال".
مصير البنوك العراقية المعاقبة
ومع نحو 100 مليار دولار من الاحتياطيات النقدية المحتفظ بها في الولايات المتحدة، يعتمد العراق بشكل كبير على حسن نية واشنطن لضمان عدم تعرض عائدات النفط وأمواله لعقوبات أميركية.
ويُنتظر أن يتكشّف مصير التحويلات المالية عبر بقية المصارف العراقية، خلال الشهور القليلة المقبلة، وبشكل خاص المصارف المعاقَبة من قبل وزارة الخزانة الأميركية والممنوعة من إجراء معاملات الدولار، والبالغ عددها 31 مصرفاً.
ففي أواخر أغسطس المنصرم، أعلن البنك المركزي العراقي عن تعاقده مع شركة "أوليفر وايمان" (Oliver Wyman) لإجراء مراجعة شاملة لأوضاع المصارف العراقية، ولا سيما تلك الممنوعة من التعامل بالدولار الأميركي، بغية محاولة دمجها ضمن القطاع المصرفي العراقي والدولي. كما حدد في ذات الفترة نطاق عمل شركة التدقيق الدولية E&Y بمراجعة عمليات التحويل لضمان سلامتها وامتثالها للمعايير الدولية، بهدف "تحقيق أعلى مستويات الشفافية والأمان في جميع عمليات التحويل الخارجي، وتعزيز الثقة في النظام المالي العراق"، وفق بيان من البنك المركزي.
وفي الأسبوع الأول من سبتمبر قال البنك المركزي العراقي إن ظروف العلاقات التجارية مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وتركيا، والهند، والصين استدعت إيجاد قنوات تحويل بعملات أخرى، خاصة وأن إجمالي حجم التجارة مع هذه الدول يمثل حوالي 70% من تجارة العراق الخارجية كــ(استيرادات). ولذلك عمل على إيجاد قنوات للتحويل بعملات اليورو، اليوان الصيني، الروبية الهندية، الدرهم الإماراتي، عبر بنوك مراسلة معتمدة في تلك البلدان، وبدأ فعلاً 13 مصرفاً عراقياً إجراء عمليات التحويل مع آلية التدقيق المسبق تم الاتفاق عليها وإقرارها بالإضافة إلى التحويلات بالدولار.
وفي مقابلة مع رويترز في أغسطس 2023، صرّح محافظ البنك المركزي العراقي، علي العلاق، بأن الرقابة التي يجريها البنك تشبه "معركة"، حيث يحاول المستفيدون من الوضع الحالي مقاومة الإجراءات الجديدة لمواصلة أنشطتهم غير الشرعية. وأضاف أن البنك يجري مراجعة للقطاع المصرفي ويعتزم تطبيق قواعد قد تؤدي إلى إغلاق بعض البنوك الخاصة، متوقعاً انخفاضاً في عددها. وأكد العلاق ضرورة حماية مصالح البلاد عبر تعزيز الرقابة، رغم وجود آثار جانبية متوقعة. وفي أعقاب اجتماعات مع مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية، أعلن العلاق في مارس المنصرم عن "التفاهم على إعادة النظر بالعقوبات المفروضة على المصارف العراقية، وأن هكذا قرارات يجب ألا تصدر مستقبلاً إلا بعد مناقشة واطلاع البنك المركزي العراقي كونه المعني بمراقبة نشاطها".
تنظيم العمل المصرفي
بعد الغزو عام 2003، وافقت واشنطن على الاحتفاظ بعائدات مبيعات النفط العراقية، المقدرة بعشرات المليارات سنوياً، في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. ولإعادة تلك العائدات إلى العراق، بدأ البنك بشحن الدولارات نقداً إلى بغداد ومعالجة التحويلات المصرفية التجارية من البنوك الخاصة العراقية للتجارة الدولية، في محاولة لإحياء الاقتصاد العراقي المدمر بعد سنوات من الحرب والعقوبات.
لكن هذا النظام المؤقت كان يفتقر إلى عنصر جوهري وهو أنه لم يكن يتطلب من البنوك الإفصاح عن هوية المستفيدين الفعليين من الأموال التي يتم تحويلها من العراق.
وشهد العراق ظهور العديد من البنوك بعد الغزو، حيث عمل بعضها في البداية دون قيود صارمة على العمليات المالية، لا سيما في ما يتعلق بتحويل العملة وسط توسع كبير في حجم التجارة الخارجية. ومع ذلك، يوضح الباحث في الشأن المالي عبد الرحمن المشهداني أن العديد من هذه المصارف لم تقم بتأسيس شراكات أو بناء علاقات مع بنوك عالمية، ولم تفتح فروعاً خارج العراق، على الرغم من الحجم الكبير للتبادل التجاري مع الدول المصدرة للعراق. وأشار إلى وجود شبهات حول بعض التحويلات المالية التي أجرتها تلك المصارف، حيث حققت أرباحاً كبيرة غير متناسبة مع قيمة الاعتمادات المستندية المرتبطة بعمليات الاستيراد، بسبب تزييف البيانات، وفق قوله.
هذا الوضع خلق ثغرات في النظام المصرفي العراقي، تمثلت في التلاعب بالاعتمادات المصرفية والتحويلات المالية، وتهريب الدولار واستخدامه في أنشطة غير مشروعة، مثل تمويل الإرهاب، ومساعدة كيانات إقليمية على تفادي العقوبات. ونتيجة لذلك، تدخلت الولايات المتحدة لتشديد الرقابة على البنوك العراقية عام 2022، ما أدى إلى معاقبة العديد من البنوك المخالفة ووضعها على القائمة السوداء، إلى جانب التعاون مع البنك المركزي العراقي لإصلاح النظام المصرفي.
وشهد العراق نقصاً في توافر الدولار العام الماضي، بعد أن بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بفحص التحويلات إلى البنوك العراقية عن كثب. كما قرر البنك المركزي العراقي وقف عمليات السحب النقدي بالدولار وقصر المعاملات التجارية الداخلية على الدينار اعتباراً من يناير 2024.
وفي مقابلة سابقة مع "الشرق" شدد محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق على التزام بلاده بعدم وصول الدولار إلى الدول التي تحظر الولايات المتحدة التعامل معها بالعملة الأميركية. واعتبر أن المتطلبات الأميركية لضبط التحويلات "لا نصنفها على أنها قيود.. بل كل ما هو مطلوب تطبيق قانون غسل الأموال ومكافحة الإرهاب".
وقادت هذه التدابير إلى زيادة الطلب على الدولار بشكل كبير، ما أثر سلباً على سعر صرف الدينار العراقي وأدى إلى ارتفاع التضخم، إضافة إلى الضغوط التي واجهها التجار المستوردون.
يبلغ سعر صرف الدولار الأميركي 1310 دنانير للدولار، وفق أحدث البيانات المنشورة لدى البنك المركزي العراقي. بينما يتقلب السعر في السوق غير النظامية بين 1500 و1530 ديناراً للدولار، بمتوسط زيادة يحوم حول 16% عن السعر الرسمي.
وكان محافظ البنك المركزي العراقي قد أكد في مارس "وضع قواعد أساسية من أجل مراقبة عملية الحوالات الخارجية والداخلية، عازياً عدم استقرار سعر الصرف إلى وجود تجارة غير شرعية يقوم بها صغار التجار وبعض المضاربين التي تُمول عبر سحب الدولار الكاش من السوق". ولذلك انخرط العراق في محادثات في واشنطن مع ممثلين عن وزارة الخزانة الأميركية، لمعالجة قضايا من بينها القيود المفروضة على الدولار.
وفي حديث مع "الشرق"، أشار المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، إلى أن الفارق بين سعر الصرف الرسمي والسعر في السوق السوداء ليس كبيراً بما يؤثر على الأسعار، التي وصفها بالمستقرة حالياً. وأضاف أن معدل التضخم في البلاد يبلغ 3.7%، وهو معدل "معقول جداً". وأوضح أن السلع المستوردة تُمول بالدولار الرسمي، وعزا ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء إلى الطلب المتزايد على الدولار من قبل بلدان مجاورة محرومة من العملة الأميركية.
ويستعرض سعد ياسين، صاحب شركة لاستيراد المواد الغذائية في بغداد، تجربته في التحويلات المالية قبل عام 2023 حيث كانت تتم في الغالب عبر وسطاء ماليين (شركات صرافة) بالتعاون مع المصارف العراقية، حيث يتم التحويل بسعر صرف موازٍ أعلى من السعر الرسمي. ولم يكن يتدخل في التفاصيل الإدارية للتحويل، بل كان يسلم المبلغ بالدينار ليتم تحويله. لكن بعد تحديث منصة بيع الدولار في عام 2023 وفرض إجراءات مشددة على المصارف، باتت عمليات التحويل أكثر صعوبة، إضافة إلى التأثير الكبير لتغير سعر الصرف على التحويلات المالية. دفع ذلك العديد من الشركات، بما في ذلك شركته، إلى فتح حسابات مصرفية في بنوك مثل مصرف بغداد ومصرف المنصور، بينما فتحت شركات أخرى حسابات في مصارف مثل الأهلي العراقي والمصرف العراقي للتجارة لتسهيل عمليات التحويل.
أما خالد القريشي، وهو صاحب شركة لاستيراد ألعاب الأطفال، فقد أشار إلى أنه لا يزال يعتمد على شركات الصرافة لتحويل الأموال إلى الصين، حيث يتم استلام الحوالات وتحويل البضائع إلى منافذ مثل إبراهيم الخليل في شمال العراق أو موانئ البصرة في الجنوب. لكنه أقر بأن سعر الحوالة المالية يختلف في كل مرة، فهي تعتمد على السعر الموازي، مما يؤثر على سعر البضائع المستوردة، وبالتالي يتحمل المستهلك النهائي تبعات هذه التغيرات.