إذا انهار بنك "سيلفرغيت كابيتال"، فقد يكون أول مصرف يواجه مثل هذا المصير بسبب الديون المعدومة، لا الأصول السامة. حذّر البنك الذي يتخذ من ولاية كاليفورنيا الأميركية مقراً له، في بيان الأسبوع الماضي، من أنه قد لا يتمكن من الاستمرار في العمل، الأمر الذي زاد تدافع المودعين لنقل أموالهم إلى مكان آخر. عادةً ما يكون التهافت على مؤسسة مالية لسحب المدخرات ناجماً عن مخاوف من أن تنال ديونها المعدومة من مدخرات عملائها. أما الوضع في "سيلفرغيت" فمختلف.
لمن لا يعرف القصة، كان البنك يخوض مغامرة. فقد أصبح معروفاً بأنه بنك لتجار العملات المشفرة وبورصاتها بعد الانغماس في قطاع لم يكن سوى قلة من المقرضين الآخرين على استعداد للاقتراب منه. كان يحتفظ بالسيولة نيابة عن عديد من البورصات، ومنها "إف تي إكس" (FTX) سيئة السمعة الآن. كما اجتذب المضاربين في مجال العملات المشفرة، من خلال الوعد بتسوية جانب الدولار من صفقات العملات المشفرة بين العملاء على الفور، وهي خدمة بسيطة منَحها اسماً براقاً: شبكة "سيلفرغيت" للصرافة (Silvergate Exchange Network).
"بتكوين" تتراجع لأدنى مستوى في أسبوعين وسط مخاوف من "سيلفرغيت"
انفجرت قاعدة ودائع "سيلفرغيت" خلال طفرة العملات المشفرة إبان جائحة كورونا، إذ بلغت ذروتها عند 14.3 مليار دولار في نهاية 2021 ارتفاعاً من 1.8 مليار في نهاية 2019. ومع انفجار فقاعة التشفير، انقلب ذلك رأساً على عقب، لا سيما في الربع الرابع من العام الماضي، بعد انهيار بورصة "إف تي إكس". ومثلما كان البنك يخوض مغامرة، كانت أسهمه كذلك.
قدّم البنك بعض القروض مقابل الأصول المشفرة، وتبيّن في يناير أنه يواجه تحقيقاً جنائياً من وزارة العدل الأميركية بشأن صلاته ببورصة "إف تي إكس". لكنَّ الخلل الأساسي في نموذج أعماله كان موجوداً قبل ذلك، من وجهة نظري. فببساطة، لم تكن ودائعه ودائع بالمعنى المعروف، إذ إنّ طبيعتها تشبه إلى حد بعيد الأموال السائلة التي تحتفظ بها شركة تحويل أموال، مثل "موني غرام إنترناشيونال" أو "ويسترن يونيون".
نشاط أشبه بتحويل الأموال
كان السبب الوحيد وراء جذب "سيلفرغيت" للأموال النقدية هو تسوية معاملات داخل وخارج مجموعة محددة من الأصول. إذاً، كان الغرض من وضع أموال في "سيلفرغيت" أو مرورها من خلاله هو تداول هذا المنتج، وبالتالي إذا توقفت عن التداول فلن تكون ثمة حاجة للاحتفاظ بأي أموال هناك، غير أن الأمر يختلف قليلاً عن نشاط تحويل الأموال، فمعظم الأموال السائلة لدى "ويسترن يونيون" تكون في طريقها إلى مكان ما. أما في "سيلفرغيت" فمن المحتمل أن تكون الودائع أبطأ قليلاً في التحرك من ذلك، ولكن ما حجمها؟
فلننظر إلى الودائع المصرفية التقليدية، كالحساب الجاري مثلاً، إذ تتلقى راتبك وتدفع فواتيرك. يمكنك نقل هذا الحساب إلى بنك آخر للحصول على خدمة أفضل أو فائدة أعلى، ولكن هذا عناء، ونحن في الغالب لا نقوم بذلك بغية تفادي تجشمه. هذا التمويل متوقع للغاية بالنسبة إلى أي بنك. وإذا كانت لديك أموال فائضة فقد تبحث عن حسابات توفير تقدم معدلات فائدة أعلى قليلاً. يفعل الناس هذا، ولكن في كثير من الأحيان ببطء شديد.
يحرص أمناء الخزانة في أي شركة على ضمان حصول أعمالهم -والمساهمين- على أفضل عائد على أموالهم الفائضة، وخدمات فعالة لإدارة جميع مدفوعاتهم للموظفين والموردين، وما إلى ذلك. ومن المرجح أن يبحثوا عن صفقات أفضل ويحذروا من خسارة الأموال في بنوك متعثرة. لذا فإنّ أموالهم أقل ثباتاً من عملاء التجزئة، لكنها لا تزال موثوقة إلى حد ما. الأهم من ذلك أنّ أنشطة كل هؤلاء المودعين متنوعة، ويتعرضون خلالها لأجزاء مختلفة من الاقتصاد، بحيث يندُر بشدة أن يحتاجوا فجأةً إلى نقل معظم أموالهم في وقت واحد.
ما أتى سريعاً تبخر سريعاً
وما إن تراجع الاهتمام بالعملات المشفرة حتى بدأ مودعو "سيلفرغيت" في التبخر. وعى البنك ذلك، وأورده في تقريره السنوي لعام 2021. وقال: "الودائع المنسوبة إلى أموال المستثمرين بالعملات الرقمية هي الأكثر تقلباً على الأرجح". في نهاية 2021، بلغت هذه النسبة 82% من قاعدة ودائع البنك. الأمر الواضح الذي يجب فعله في ظل تمويل شديد التقلب هو وضعه في المكان الذي يسهل الوصول إليه: ودائع في الاحتياطي الفيدرالي أو البنوك الأخرى في البداية، إلى جانب، ربما، بعض سندات الخزانة الشديدة السيولة وقصيرة الأجل في معظمها.
ينبغي للبنوك الكبيرة الاحتفاظ بما يكفي من الأصول السائلة عالية الجودة لتغطية سحب الودائع على مدى 30 يوماً في ظل ظروف ضاغطة. على سبيل المثال، احتفظ بنك "جيه بي مورغان تشيس آند كو" بـ733 مليار دولار من هذه الأصول في نهاية 2022 مقابل 2.3 تريليون من الودائع التقليدية المتنوعة. كانت ثلاثة أرباع هذه الأصول السائلة مودعة لدى الاحتياطي الفيدرالي وبنوك أخرى، وكان الباقي في مزيج من سندات الخزانة وسندات الرهن العقاري التي ترعاها الحكومة.
خاطر "سيلفرغيت" أكثر، فقد استثمر معظم أمواله الجديدة في أوراق مالية طويلة الأجل. وبحلول نهاية الربع الثالث من العام الماضي، قبل أن تبدأ الودائع في الانكماش السريع، كان 11% فقط مما ينبغي أن يكون أكثر الأصول سيولة، أموالاً نقدية في الاحتياطي الفيدرالي والبنوك الأخرى، والباقي على شكل أوراق مالية. وكان 11% فقط من تلك الأوراق المالية سندات خزانة. أما ما تبقى فكان معظمه سندات مدعومة برهن عقاري بآجال استحقاق تعاقدية تزيد على 10 سنوات. وبالنسبة إلى ما يحوزه من السندات، فقد مُني بخسائر قيمة عادلة حجمها مليار دولار، قبل أن يبدأ "سيلفرغيت" في التخلص منها للوفاء بعمليات السحب.
كان "سيلفرغيت" أصغر من أن يخضع لقواعد السيولة. قد يكون أوفى بها على أي حال، لكن نظراً إلى النمو السريع للغاية، والمصدر المشترك لودائعه، كان ينبغي على الجهات التنظيمية التدقيق والمراقبة قبل أن تبدأ الأموال في التلاشي بالسرعة التي دخلت بها خزائنه.