بلومبرغ
اشترى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وغيره من البنوك المركزية سندات بتريليونات الدولارات بعد تراجع الاقتصاد العالمي في مواجهة جائحة كورونا خلال 2020. مثل هذه الإجراءات التي تُعرف باسم "التيسير الكمي" لم تعطِ اقتصاد الدول التي طبقتها دفعة وحسب، ولكنها على ما يبدو جاءت من دون تكلفة، إذ جلبت البنوك مدفوعات لشراء هذه السندات من دون أي عبء يذكر.
في الوقت ذاته، ولّدت السندات التي أضافتها البنوك إلى ميزانياتها العمومية مدفوعات فوائد بمليارات الدولارات ستشارك الحكومات في دفعها. ولكن يتجلّى هنا القول المأثور بأنه لا يوجد شيء يسمى "أموالاً مجانية"، إذ لم يتوقف تدفق الإيرادات نتيجة لذلك وحسب، وإنما ذهب إلى الاتجاه المعاكس أيضاً. وهذا تحوّل لا يضع البنوك المركزية في أي خطر ماليّ، ولكن قد تنتج عنه مشكلات سياسية كبيرة، سواء في واشنطن أو في أماكن أخرى حول العالم.
1) ما حجم المبالغ التي نتحدث عنها هنا؟
تدرّ عمليات الاحتياطي الفيدرالي وأقرانه من البنوك المركزية عادةً أرباحاً صافيةً مستمدة من الفائدة التي تتلقاها على السندات والأصول الأخرى التي تحتفظ بها. ويحوّلها البنك المركزي الأميركي بعد ذلك إلى وزارة الخزانة. وعندما تتضخم الميزانيات العمومية لهذه البنوك جراء التيسير الكمي فإن هذه الأرباح تتضخم أيضاً، رغم أن السندات التي كانت تشتريها جاءت بفائدة منخفضة للغاية. في 2021 أرسل الاحتياطي الفيدرالي 109 مليارات دولار إلى الوزارة، لكن هذا التدفق توقف في سبتمبر 2022، عندما صار البنك يخسر فعلياً. وفي فبراير 2023 توقّع مكتب الميزانية في الكونغرس الأميركي، الذي يضم أعضاء من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أن تتجاوز نفقات منظومة الاحتياطي الفيدرالي إيراداتها حتى 2024.
على الجانب الآخر، وفي منطقة اليورو، تواجه البنوك المركزية موقفاً مشابهاً. فلم يتمكن البنك المركزي الأوروبي من تجنب الخسارة للعام الماضي إلا بعد الإفراج عن بعض مخصصاته للمخاطر. كما أنّ الموارد المالية لنظرائه في دول المنطقة -التي نفّذت كثيراً من عمليات شراء السندات في السنوات القليلة الماضية- تواجه عجزاً هي الأخرى.
استخدام الاحتياطيات يجنّب "المركزي الأوروبي" الخسائر في 2022
2) لماذا تغير هذا؟
جاء التغير في نهاية المطاف نتيجة ثانوية للزيادات في أسعار الفائدة التي بدأها مجلس الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى حول العالم خلال العام الماضي. لكن، أولاً يتعين التفكير في الوقت الذي اشترت فيه البنوك المركزية تلك السندات، حينما أقرض الاحتياطي الفيدرالي البنوك التي تبيع السندات قيمتها نقداً. وتطلبت قواعد المحاسبة في ذلك الوقت إنشاء التزام لمضاهاة تلك الأصول الجديدة لدى البنك، ولذلك أقرض الاحتياطي الفيدرالي البنوك مبلغاً مماثلاً للاحتياطيات التي أودعتها لديه.
وعليه، يدفع الاحتياطي الفيدرالي، شأنه شأن معظم البنوك المركزية هذه الأيام، فائدة على ما يسميها "الاحتياطيات الزائدة"، وهي الأموال التي تودعها فيه البنوك، والتي تتجاوز الحدود الدنيا للقواعد التنظيمية. ونظراً إلى أن الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم، فقد ارتفعت أيضاً الفوائد المكتسبة من هذه الاحتياطيات. وهذه التكلفة تتجاوز الآن عوائد السندات المنخفضة الفائدة التي اشتراها المركزي الأميركي في السنوات الماضية.
البنوك المركزية في أوروبا تتأهب لعصر من الخسائر بعد التيسير الكمي المفرط
الأمر ذاته تكرّر مع سندات أغلبها حكومية بقيمة 5 تريليونات يورو (5.3 تريليون دولار) جرى شراؤها في منطقة اليورو. تدفع هذه البنوك فائدة على الاحتياطيات بالمعدل الحالي للبنك المركزي الأوروبي البالغ 2.5%، لكنها لا تحصل إلا على 0.5% في المتوسط على السندات الموجودة ضمن ميزانيتها العمومية.
3) إذاً، هل بات الاحتياطي الفيدرالي أشبه بمؤسسات الإقراض والادخار في الثمانينيات؟
ثمة أوجه تشابه. فبشكل أساسي صار بنك الاحتياطي الفيدرالي يقترض لفترات أقصر ويقرض لمدد أطول. وعلى غرار مؤسسات الإقراض والادخار في ذلك الحين فإنه يدفع على الودائع لديه أكثر مما يربح من استثماراته. لكن كل هذا عرضي تماماً بالنسبة إلى الاحتياطي الفيدرالي. فلم يكن يسعى على وجه التحديد إلى الاقتراض لفترات قصيرة، إذ كانت تلك مجرد آلية من آليات التيسير الكمي، وكان هدفها دعم الاقتصاد في وقت يشهد ضغوطاً هائلة.
4) ألا يستطيع الاحتياطي الفيدرالي التوقف بسهولة عن دفع الفوائد للبنوك على تلك الاحتياطيات؟
إذا فعل ذلك فإن تلك المؤسسات المالية ستحوّل أموالها إلى استثمارات ذات عوائد أفضل. المشكلة هي أن تدفق أموال بهذا الحجم من شأنه أن يخفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل، بما يتعارض مع حملة الاحتياطي الفيدرالي لاحتواء التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة.
عوائد سندات الخزانة الأميركية تقفز رهاناً على رفع الفائدة في يونيو
ونشدد هنا مجدداً على أن الاحتياطي الفيدرالي ينظر إلى خسائر التشغيل هذه باعتبارها أمراً عرضياً، كما اشترط التفويض الذي حصل عليه من الكونغرس ضمان استقرار الأسعار وزيادة فرص العمل، دون أن يطلب منه كسب كثير من المال وتحويله إلى وزارة الخزانة.
5) ما حجم الأموال التي قد تخسرها البنوك المركزية؟
رفع الاحتياطي الفيدرالي في الفترة بين مارس الماضي وفبراير الجاري سقف النطاق المستهدف لأسعار الفائدة من 0.25 إلى 4.75%. وإذا كان سيرفع أسعار الفائدة نصف نقطة مئوية أخرى في الأشهر المقبلة فسيكون عندئذ قد "تكبد خسارة تزيد قليلاً على 100 مليار دولار بوتيرة سنوية"، وفقاً لتقديرات ستيفن ستانلي، كبير الاقتصاديين في "سانتاندير يو إس كابيتال ماركتس" (Santander US Capital Markets).
أما البنك المركزي الأوروبي فقد اضطر إلى سحب 1.6 مليار يورو من مخصصات يجنبها لاستيعاب الخسائر. وستتعرض البنوك المركزية في دول منطقة اليورو لخسائر أيضاً، لأن عمليات شراء الأصول جرت في جانب كبير منها من خلال الاعتماد على ميزانياتها العمومية. فعلى سبيل المثال، أبلغ البنك المركزي البلجيكي عن خسائر محتملة بنحو 9 مليارات يورو حتى 2027.
6) هل يضرّ ذلك البنوك المركزية؟
ليس للخسائر أي تأثير تشغيلي في صنع السياسة النقدية، أي إنّ البنوك المركزية لن تخفض أسعار الفائدة لتجنب الخسائر، كما لا يتعين عليها دائماً الدفع على الفور. فعلى سبيل المثال، بمجرد أن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي في جني الأرباح مرة أخرى فإن تلك الأموال في البداية ستذهب لتعويض الخسائر المتراكمة، التي تسمى بـ"الأصول المؤجلة لوزارة الخزانة".
103 مليارات دولار تكاليف ديون الحكومة الأميركية في شهرين
يقدّر مكتب الميزانية التابع للكونغرس أن الأمر سيستغرق حتى 2027 قبل أن يعوّض الاحتياطي الفيدرالي خسائره، ولكن من الممكن دائماً أن يحاول المنتقدون في المجال السياسي أو الشأن العام الأوسع استخدامها للهجوم على إجراءات الاحتياطي الفيدرالي، سواء كانت الزيادة الحالية لأسعار الفائدة أو سياسة التيسير الكمي السابقة. وبالمثل، ترك ذلك الاحتمال بعض مسؤولي البنك المركزي الأوروبي والمسؤولين المصرفيين الأوروبيين في حالة قلق من الضوء الذي يخاطرون بتسليطه على سير التعاملات المالية في المنطقة، والآثار المالية المحتملة لذلك. لكن بنك التسويات الدولية، وهو ما يشبه البنك المركزي للبنوك المركزية، أصرّ على أن مثل هذه الخسائر غير مؤثرة، وأن البنوك المركزية يمكن أن تعمل بما يسمى بالملكية السلبية (عندما تكون قيمة الأصول لدى البنك أقل من حجم الفوائد المستحقة على قروضه أو الودائع لديه)، وأنها لا يمكن أن تفلس.
7) ماذا يعني ذلك لوزارة الخزانة الأميركية؟
لم يعُد حساب وزارة الخزانة في الاحتياطي الفيدرالي، الذي تستخدمه لتسديد المدفوعات الفيدرالية، يتلقّى تحويلات كبيرة من البنك كالسابق. ونظراً إلى أن هذه التحويلات ذهبت فعلياً نحو سداد الالتزامات الحكومية، فإن الانخفاض يعني أن وزارة الخزانة بحاجة إلى إصدار مزيد من الديون. وهذه مشكلة كبيرة في الوقت الحالي، لأن وزارة الخزانة وصلت إلى سقف الدين القانوني البالغ 31.4 تريليون دولار في يناير، ما أجبرها على استخدام مناورات محاسبية خاصة لمنح نفسها حيزاً كبيراً لمواصلة الوفاء بالالتزامات الفيدرالية. كما أن نقص تحويلات الاحتياطي الفيدرالي يعني أن لديها هامش مناورة أقل.
8) كيف ينطبق مبدأ "لا أموال مجانية" هنا؟
كان هناك من ذهب إلى أن التيسير الكمي سيكون في الأساس مجانياً، لأنه يتضمن أموالاً تلزم البنوك المركزية بها نفسها، لكنهم لم يفكروا في مدفوعات الدين التي يتعين على الاحتياطي الفيدرالي سدادها. وعليه، فمن الأفضل التفكير في وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي معاً بوصفهما كيانَ اقتراض مشتركاً. فمثلما تدفع الخزانة فائدة لحاملي السندات، يدفع الاحتياطي الفيدرالي الفائدة للبنوك. فالتيسير الكمي ينطوي فقط على التبديل بين من يدفع لمن.