قليلون في المملكة المتحدة يودّون سماع ذلك، لكن الأزمة المالية التي هزت البلاد لها جانب مضيء لبقية العالم. ويذكّرنا تدخّل بنك إنجلترا الكبير بأن التيسير الكمي -وهو الشراء واسع النطاق للسندات، الذي يرتبط عادةً مع التضخم المنخفض بدلاً من ارتفاع الأسعار اليوم- لن يختفي.
ما بدا أنه إجراء لمرة واحدة، تمتدّ جذوره إلى أزمات 2008 وأزمة الديون في أوروبا بعدها بعدة سنوات واليابان ما بعد الفقاعة الاقتصادية، مستمرّ حتى الآن. ليس من المرجح أن تكون هذه آخر مرة يطبق فيها التيسير الكمي بالمملكة المتحدة.
يزعج احتمال حدوث انهيار في تداول سندات الخزانة الأميركية المسؤولين رفيعي المستوى. أعلنت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، مخاوفها الأسبوع الماضي، عندما أظهرت قلقها بشأن السيولة الكافية. لم تساعد جهود الاحتياطي الفيدرالي أسوأ اضطراب في السوق منذ عقود في التخلص من حصة السندات التي حصل عليها خلال إجراءات التحفيز التي اتخذها في فترة جائحة كوفيد.
رسالة قوية
قادتني رؤية بنك إنجلترا وهو يتدخل في السوق ويهدئها إلى تذكُّر رسالة قوية من محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق، راغورام راجان، في مؤتمر عُقِد منذ عام. كان التضخم بدأ يتفاقم حول العالم، وكانت البنوك المركزية تفكر في كيفية سحب الأموال الطائلة التي جرى ضخها في النظام المالي خلال الجائحة بكل هدوء. هل كان من المقرر التوقف عن التيسير الكمي حينها مجدداً؟
شكك راجان في الأمر وأخبر إحدى لجان المؤتمر أن عمليات شراء الأصول كانت مثل "دوامة"، من السهل الوقوع فيها ولكن من الصعب بشدة الخروج منها.
اقرأ أيضاً: كيف يرى مجتمع المال البريطاني السبيل إلى استقرار الجنيه الإسترليني؟
بدا الوقت غريباً للتلويح بوقف قصير الأجل للتيسير الكمي. بدأ الاحتياطي الفيدرالي يُلمّح إلى التوقف التدريجي عن شراء السندات، واتجه بعد ذلك بسرعة أكبر من المتوقع لرفع أسعار الفائدة. كان بنك الاحتياطي الأسترالي يستعدّ للتخلص من جهود كبح عوائد السندات، أما بنك كوريا وبنك الاحتياطي النيوزيلندي فكانا يرفعان أسعار الفائدة بالفعل، وكان بنك إنجلترا مستعدّاً لاتخاذ الخطوة نفسها.
البطل والشرير
وُجِّهت أصابع الاتهام إلى ما يسمى بالسياسات غير التقليدية، التي جرى استخدامها لمنع تحوّل أزمة صحة عامة إلى كارثة اقتصادية، لتسببها في تفاقم ارتفاع التضخم. بدا أن التيسير الكمي هو بطل الأمس والشخص الشرير في الوقت ذاته.
لا يزال راجان يتمسك بالتحذير الذي أطلقه في أكتوبر 2021. يقول راجان إن العملية واضحة الملامح نظرياً. خلال التيسير الكمي، تشتري البنوك المركزية سندات وتتوسع في ميزانياتها العمومية. بعد أن يتعافى الاقتصاد ويحين وقت التخلص تدريجياً من الإجراءات التحفيزية، عليك ببساطة أن تعكس الوضع وتطرح السندات في السوق، فتتحول من التيسير إلى التشديد الكمي.
أخبرني راجان، الذي يعمل أستاذاً بجامعة شيكاغو، مؤخراً أنه "وفقاً لهذا المنظور من السهل جداً الدخول في التيسير الكمي ثم الخروج منه. المشكلة هي أن بعض الأمور يحدث في تلك الأثناء". توفير السيولة في الأوقات الصعبة أمر منطقي للغاية، "لكن القطاع الخاص يعتاد الأمر، وتجد نفسك مضطراً إلى تكرار التدخل. إنه مخدِّر، ويسبب الإدمان. والقطاع الخاص لا يمكنه التخلص من ذلك الإدمان".
استخدام التيسير الكمي
استخدم الاحتياطي الفيدرالي التيسير الكمي، الذي كان يُعتَبر يوماً ما جزءاً من غرائب اليابان، خلال الأزمة المالية العالمية بين 2007 و2009. كما استخدمه أيضاً بنك إنجلترا، بالإضافة إلى البنك المركزي الأوروبي خلال أزمة الديون الأوروبية التي تبعت الأزمة المالية العالمية. أصبح التيسير الكمي أداة مشروعة متاحة للاستخدام دوماً، ومن غير المرجح أن يستبعد أي بنك مركزي استخدامها في المستقبل، بغضّ النظر عن حجم الانتقادات التي قد توجَّه إليها في دورة الاقتصاد الحالية لمساهمتها في مستويات أعلى بكثير من التضخم. إنها ببساطة أداة مفيدة للغاية، فهي مثل أسلحة المعركة، لا يعني ذلك أن استخدامها الفعلي يخلو من المخاطر.
انظر إلى بنك إنجلترا وهو يتدخل في السوق خلال الأسابيع الماضية لشراء السندات، بعدما تسببت حزمة مالية متهورة وغير مدعومة مالياً من الحكومة في الإقبال على الجنيه الإسترليني وانهيار في الطلب على الدَّين في المملكة المتحدة. رغم وصفها بأنها خطوة لاستعادة الاستقرار المالي، فإن عملية الشراء تضع بنك إنجلترا في موقف محفوف بالمخاطر.
اقرأ أيضاً: حاجة بريطانيا إلى رأس المال الأجنبي تعرّض السندات والجنيه الإسترليني لمزيد من الخطر
البنك ملتزم رفع سعر الفائدة الأساسي لكبح التضخم، وقد يتخذ هذه الخطوة بشكل ملموس في الاجتماع المقبل للجنة السياسة النقدية الخاصة به. من ناحية أخرى، من خلال استخدام التيسير الكمي، رغم أنه من النوع الطارئ وقصير الأمد، اتّبع البنك سياسة مرتبطة بمخاطر الانكماش. وبعد تدخله مرة، من يشكك في أن المسؤولين سيعودون؟
سمات التيسير الكمي
إحدى السمات المميزة للتيسير الكمي ليست مرتبطة فقط بشراء السندات بذاتها. الأمر يتعلق بإطلاق إشارة، وهي طريقة لإعلان أن أسعار الفائدة ستظل منخفضة لبعض الوقت. يصبح التأثير أقوى عندما يتواءم مع توجيهات البنك للفترة المقبلة، التي تلتزم سياسة سهلة بأكبر قدر ممكن ولأطول فترة ممكنة.
كان ذلك هو الوضع بعد انهيار شركة "ليمان براذرز" القابضة وعلى مدار فترة كبيرة من أزمة الجائحة. لمجرد أن المبدأ لا ينطبق في الوقت الحالي، إذ إنّ التضخم أكبر بكثير مما يستهدفه الاحتياطي الفيدرالي عند 2%، لا يعني ذلك أن الدرس المستفاد فقد معناه.
اقرأ أيضاً: وزارة الخزانة البريطانية تدعم بنك إنجلترا بـ11 مليار جنيه إسترليني
بسبب مخاوف من "موجة غضب ناجمة عن الخفض التدريجي"، مثل تلك التي حدثت في 2013، انتظر المسؤولون فترة أطول من المطلوب لتخليص أنفسهم من التيسير الكمي الذي جرى تطبيقه خلال أزمة كورونا. يشكل التشديد السريع الناتج عن ذلك، وهو أسرع تشديد منذ عقود، ضغوطاً هائلة في الاقتصاد العالمي. يقول خبراء اقتصاد إنّ الوضع الاقتصادي الاستثنائي سيدفع عديداً من البنوك إلى خفض أسعار الفائدة في 2023.
ظروف استثنائية
لكن مع ارتفاع التضخم لأعلى معدلاته منذ عقود، ومحاولة المسؤولين لإثبات فاعلية سياساتهم التي تتسم بالتشدد، ألا يعني ذلك بالتأكيد أن معيار التيسير الكمي ارتفع بشدة؟ ليس بالضرورة. أصدر بنك الاحتياطي الأسترالي، الشهر الماضي، تحليلاً لبرنامج التيسير الكمي الخاص به. رغم أنه وجد بعض الفوائد في التيسير على نطاق واسع، فإن البنك استنتج أن استخدام سياسة غير تقليدية هو الحل الأفضل "فقط في الظروف الاستثنائية".
مع ذلك، فالظروف التي لجأ البنك خلالها إلى التيسير الكمي، وهي تفشي الوباء، كانت بالفعل استثنائية. قد يشبه الاستنتاج مذكرة "اعتذار"، لكنها ليست كذلك. في الموقف نفسه، من المرجح أن يتخذ محافظ بنك الاحتياطي الأسترالي فيليب لو، أو خلفاؤه، نفس الإجراء مجدداً.
حتى في عهد التراجع عن التحفيز، يبدو أن أشكال التيسير الكمي قائمة وعلى ما يرام. يبيع بنك إندونيسيا سندات قصيرة الأجل لرفع العوائد وزيادة جاذبية الدَّين الخاص به، فيما يشتري سندات أطول أجلاً لخفض تكاليف الاقتراض للحكومة. كما يطبّق بنك الاحتياطي الهندي برنامجاً مشابهاً.
من الصعب للغاية إنهاء التيسير الكمي، حتى في الوقت الذي يريد فيه الجميع أن يُنظَر إليهم على أنهم مثل بول فولكر، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي سابقاً، الذي استطاع القضاء على التضخم.