إن المسارعة حالياً إلى زيادة أسعار الفائدة إلى مستويات من شأنها تهدئة الطلب، سوف تفسح الطريق خلال العام المقبل أمام رفع بطيء لتكاليف الاقتراض.
ستكون المرحلة القادمة من التشديد النقدي أكثر دقة، لكنها ليست أقل توتراً مما رأيناه حتى الآن. وتكلفة أي خطوة غير موفقة ستكون كبيرة لأن الاقتصاد العالمي سيبدأ هذه المرحلة التالية في وضع غير قوي.
المهمة الرئيسية لمحافظي البنوك المركزية ستكون إقناع الناس بأن الزيادات الصغيرة لأسعار الفائدة لن تؤدي بالضرورة إلى تخفيضها. ربما تنذر بوقف مؤقت لرفع أسعار الفائدة، لكن المسؤولين سيبذلون جهوداً مضنية ليقولوا إن مهمتهم لم تكتمل.
بالنسبة للمستثمرين، سيتطلب هذا الانتباه إلى التفاصيل الدقيقة، أي فرز البيانات الأكثر أهمية في كل لحظة محددة، عندما يتحدث المسؤولون عن البنوك المركزية وتحديد مدى أهميتها.
سيصبح مسار تكاليف الاقتراض أقل قابلية للتنبؤ به، وبالتالي هناك أيضاً تداعيات مهمة على العملات. هل يستمر صعود الدولار؟ هل يمكن أن يحصل الين المحاصر على بعض الدعم؟ هل يتعين على الصين أن تعمل بجدية أكبر للتخفيف من حدة انخفاض اليوان؟
تذوق التجار طعم العالم الجديد يوم الخميس عندما أنذر بنك الاحتياطي الأسترالي بالانتقال إلى رفع الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس بعد أن رفعها أربع مرات بمقدار نصف نقطة.
انخفضت عائدات الديون الأسترالية في حين تراجعت أيضاً أسعار الفائدة على الديون السيادية للولايات المتحدة ونيوزيلندا.
قال فيليب لوي، محافظ بنك الاحتياطي الأسترالي، في خطاب: "إن حجة إبطاء وتيرة زيادة أسعار الفائدة تصبح أقوى مع ارتفاع مستوى الفائدة".
بعبارة أخرى، لا يمكننا الاستمرار في هذا الوضع لفترة أطول. إنه أمر غير مستدام، بغض النظر عن وتيرة التضخم.
إن القدرة على التراجع أو الوقوف جانباً والحكم على تأثير رفع أسعار الفائدة بمعدلات سريعة هو المكان الذي يريد المسؤولون دائماً التواجد به. وفي جميع أنحاء العالم، يبدو أنهم قرروا أنه كلما وصلوا مبكراً، كان ذلك أفضل.
التشديد النقدي الذي كان من الممكن أن يحدث في عام 2023 يتم الآن تطبيقه في العام الجاري، حسبما كتب كريشنا جوها وبيتر ويليامز المحللان في "إيفر سكور أي إس أي" (Evercore ISI) في مذكرة بحثية حديثة.
نتيجة لذلك، قد تنتهي دورة التشديد النقدي في الغالب بحلول عيد الميلاد، على حد قولهما. (تتوقع الشركة أن يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس الأسبوع المقبل).
هذه الأخبار تبدو جيدة، لكن احتمالات وقوع الأخطاء كبيرة. بغض النظر عن تأييد رفع أسعار الفائدة أو خفضها، لم يكن هناك جدال حقيقي هذا العام حول الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه، ولا أن الوتيرة يجب أن تكون سريعة بشكل معقول. كانت الاختلافات في الغالب هامشية.
هل يتم رفع أسعار الفائدة بمقدار 50 أو 75 نقطة أساس؟ هل خطوتان كبيرتان بشكل معقول في الوضع الراهن أفضل من رفعها بمعدل كبير أو أكبر؟. أما في البيئة الجديدة، فقد تكون الخيارات هي التوقف المؤقت أو الرفع لأسعار الفائدة أو على الأقل إصدار إشارة إلى نية للنظر في خفضها - شريطة أن يتحرك التضخم في الاتجاه الصحيح. الأمر يبدو طبيعياً تقريباً، باستثناء أننا لم نصل إلى الوضع الطبيعي منذ عقود.
ألمح رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس جيمس بولارد إلى التحول المحتمل الأسبوع الماضي- بعد الإشارة إلى تأييد رفع أسعار الفائدة للمرة الثالثة على التوالي بمقدار 75 نقطة أساس في الاجتماع المقبل للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في 21 سبتمبر.
قال بولارد في مقابلة مع "بلومبرغ": "يتعين علينا أن نصل إلى المستوى الصحيح لسعر الفائدة. ثم في تلك المرحلة، نكون أمام نوع من السياسة النقدية العادية، يمكنك ضبط الفائدة إلى حد ما لأن البيانات جاءت غير مواتية لأهدافك أو تبقي عليها كما هي لأنك على وشك أن تكون على المسار أو تخفض قليلاً لأن البيانات جاءت بشكل إيجابي لأهدافك".
بقدر ما تبدو عليه الأوقات الحالية غير عادية – التضخم عند أعلى مستوى في جيل واحد على الأقل، أسرع وتيرة لرفع أسعار الفائدة منذ عقود - كانت أوائل الثمانينيات من القرن الماضي أكثر حدة.
بالنسبة لجميع المقارنات مع عصر بول فولكر، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسطوري الذي روض التضخم، فإن مستوى أسعار الفائدة اليوم لا يزال منخفضاً نسبياً والتضخم ليس مرتفعاً.
بلغ سعر الفائدة على أرصدة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي 20% في أوائل عام 1980، والحد الأعلى في نطاق سعر الفائدة حالياً هو 2.5%. وارتفعت أسعار المستهلك ( التضخم) بنسبة 15% تقريباً على أساس سنوي في مارس 1980، وفي الشهر الماضي، ارتفعت بنسبة 8.3%، حسبما قالت وزارة العمل الأميركية أمس الثلاثاء. (وارتفع مؤشر الأسعار المفضل للاحتياطي الفيدرالي، وهو مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي، بنسبة 6.3% في يوليو على أساس سنوي).
يحاول بعض المسؤولين تمهيد الطريق للتنوع. قال فرانسوا فيليروي دي غالو، عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي يوم الجمعة: "لدينا مطلق الحرية تماماً".
أدلى دي غالو بالتصريح بعد يوم من رفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة الرئيسي بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية.
"لا ينبغي لأحد أن يتكهن بأن هذا سيكون حجم الرفع المقبل لسعر الفائدة- لم نخلق عادة ضخمة جديدة". السيناريو الحالي لا يستبعد رفعاً كبيراً مجدداً لأسعار الفائدة؛ حرصت كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، أن يكون ذلك مطروحاً على الطاولة.
أصبح هناك عنصر شكلي في مثل هذا الرفض بشأن السياسة المعدة مسبقاً. قال بنك الاحتياطي الأسترالي أكثر من مرة إن هذه السياسة النقدية ليست على "مسار محدد مسبقاً". ويقول مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي إنه لا يوجد خيار ليس مطروحاً على الطاولة. ويقول قادة البنوك المركزية إنهم يعتمدون على البيانات. في غضون بضعة أشهر، قد يقصدون ذلك.
إذا كان عام 2022 واحداً من الأعوام التي تذكر في كتب تاريخ السياسة النقدية، فإن عام 2023 يعد بتحديات لا تقل عن ذلك. قد يكون لتلك التحديات طبيعة مختلفة.
سرعة الاستجابة، التي غالباً ما يتم التعهد بها دون التقيد بها في كثير من الأحيان، ستكون أمراً معتاداً يومياً. قال لوي إنه يتلقى رسائل من الجمهور يشكرونه على رفع أسعار الفائدة، أصبحت الحياة أسهل قليلاً بالنسبة لأولئك الذين يعتمدون على الحسابات المدرة للفائدة. يجب أن يستعد بقيتنا لتجارب الأوضاع الطبيعية.