بلومبرغ
عندما قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها معاقبة روسيا على غزوها لأوكرانيا، استخدموا سلطتهم على النظام المالي العالمي لعزل الدولة، وشلّ اقتصادها وسحق قيمة الروبل. ولكن ماذا لو لم تكن الدول في المستقبل بحاجة إلى شبكات الدفع التي تهيمن عليها الولايات المتحدة؟
هذا يمثل أحد الأسئلة الكبيرة التي تُطرَح الآن أيضاً حول اليوان الرقمي الصيني، وخُطَط البنك المركزي الأوروبي لليورو الرقمي، اللذين لا يمثلان إلا اثنتين فقط من عديد من العملات الرقمية المدعومة من البنوك المركزية (CBDCs) التي يجري اختبارها أو دراستها حول العالم. وقد ظهرت العملات الرقمية للبنوك المركزية وسط صعود آلاف العملات المشفرة، التي تعمل بسرعة على تعطيل أنظمة الدفع التقليدية ودفع البنوك المركزية إلى الابتكار للبقاء في المنافسة.
وهذه ليست المرة الأولى التي ترى فيها البنوك المركزية نفسها في هذا الموقع، فتاريخياً كان المستهلكون والشركات اعتادوا التعامل باستخدام عديد من الأوراق النقدية الصادرة من القطاع الخاص، حتى أنهت البنوك المركزية الفوضى من خلال احتكار إصدار العملة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. واليوم، يواجه صانعو السياسة تحدياً مشابهاً يتمثل في محاولة الحفاظ على مكانتهم ضمن المعروض النقدي العالمي.
عملات البنوك المركزية الرقمية
تهدف العملات الرقمية للبنوك المركزية إلى جعل أنظمة الدفع أكثر أمناً وأسرع وأرخص وأكثر موثوقية. ويمكن للنقود الرقمية أيضاً أن تمنح الحكومات في الدول الفقيرة بديلاً عن الأنظمة المصرفية المتخلّفة، أو مساعدة السلطات في توفير أموال تنقذ حياة المواطنين بسرعة في أثناء الأزمات.
من جهته، يقدّر صندوق النقد الدولي أن نحو 100 دولة، إما أنها طرحت عملات رقمية لبنوكها المركزية، وإما أنها تدرس الأمر. وتُعَدّ الولايات المتحدة من الدول التي لديها مشروع قيد الإعداد، رغم أن أمراً تنفيذياً أصدره الرئيس جو بايدن في مارس، سعى إلى منح دراسة الدولار الرقمي الأولوية.
لكن أليس المال رقمياً بالفعل؟ بالنسبة إلى معظمنا، فإنّ مدخراتنا أو ديوننا هي مجرد أرقام تظهر على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف الذكي، فنحن نقوم بمعظم المعاملات دون لمس العملات الورقية أو المعدنية.
لكن العملات الرقمية للبنوك المركزية تختلف في جانب واحد هامّ، إذ إنّ الدولار أو اليورو أو اليوان التقليديين المعروضين على شاشاتنا اليوم هي في الواقع التزامات بنك تجاري أو مؤسسة مالية أخرى، ما يجعلها عرضة للتأثر المالي لتلك الشركة إضافة إلى الإجراءات التي تتخذها الحكومات. لكن عملات البنوك المركزية الرقمية، مثل النقد المادي، هي التزامات مباشرة من البنك المركزي. ونظرياً، تسمح العملة الرقمية للبنك المركزي بتحويل العملة مباشرة إلى المحفظة الرقمية لفرد أو شركة أو طرف آخر دون الحاجة إلى أي بنك أو وسيط آخر. أما عملياً، فإن معظم البنوك المركزية ليس على استعداد لاستبعاد القطاع المالي الخاص تماماً.
إيجابيات وسلبيات
كما هي حال معظم الابتكارات، هناك إيجابيات وسلبيات، إذ ستمنح هذه العملات الحكومات قدرة تتبع حركة العملات الرقمية للبنك المركزي بسهولة. وسيساعد ذلك صانعي السياسة على فهم كيفية عمل الاقتصاد بشكل أفضل، لكنها يمكن أن تسهم أيضاً في مراقبة المواطنين. ونظراً إلى التأثير الهائل الذي يمكن أن تحدثه عملات البنوك المركزية الرقمية على الاقتصادات، فسيتعيّن عليها العمل بشكل لا تشوبه شائبة لكسب الثقة بها.
وفي أيامها الأولى، لم تكن هذه هي الحال دائماً.
وبعض الدول الأكثر حماساً لهذه المشاريع دول صغيرة وأقل نمواً ولا تشعر بالقلق حول فرض عقوبات عليها، فهي تحاول فقط حل مشكلات شعوبها في العالم الحقيقي. وتشمل هذه المشكلات عدداً كبيراً من المواطنين الذين لا يمتلكون حسابات بنكية، أو النظام المكلف لإرسال الأموال في جميع أنحاء العالم، أو حتى العزلة الجغرافية ببساطة.
بالاو، على سبيل المثال، ليست إلا مجموعة جزر صغيرة في المحيط الهادي تستخدم الدولار الأمريكي، وتنفذ خزينتها من البنسات أحياناً، لذا من المعروف أن التجّار يلجأون إلى توزيع قطع الحلوى بدلاً من رد باقي النقود للزبائن.
في ما يلي نظرة متعمقة على ستة مشاريع رئيسية قيد العمل حالياً، يجري اختبارها في برامج تجريبية، أو هي على وشك البدء.
الصين: اليوان الصيني الرقمي (e-CNY).
الحالة: قيد الاختبار منذ 2020.
المستخدمون: 140 مليون شخص، وأكثر من 1.5 مليون تاجر.
رغم أن اليوان الرقمي لا يزال في مراحله التجريبية، فإنّ الأرقام مذهلة، إذ جرى اختبار العملة الافتراضية في نحو اثنتي عشرة منطقة منذ عام 2020، مع ارتفاع عدد المستخدمين الفرديين أواخر العام الماضي إلى 140 مليوناً، أو نحو عُشر السكان. كما يقبلها أكثر من 1.5 مليون تاجر، حسب بيانات رسمية. ولم تضع الصين رسمياً جدولاً زمنياً لبدء التشغيل على المستوى الوطني، لكن يُتوقع أن ينضم مزيد من المدن في البلاد إلى التجربة.
اعتمد البنك المركزي في الصين نظاماً من مستويين لليوان الرقمي، المعروف رسمياً بـ"إي يوان". فأصدر بنك الشعب الصيني اليوان الرقمي للبنوك التجارية، التي توزعه على الجمهور. وخلال التجارب، تشارَك البنوك مع التجّار، وجرى تشجيع استخدامه من خلال توزيع قسائم نقدية واستهلاكية رقمية مجانية، وتقديم خصومات على المشتريات باليوان الرقمي. ونجت الصين في اختبار اليوان الرقمي خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، على الرغم من محدودية نطاقها لأن الألعاب كانت مفتوحة لجمهور محلي صغير فقط بسبب جائحة كوفيد-19.
مع ذلك، فإنها استطاعت تحقيق أسرع تقدم في مجال العملة الرقمية بين الاقتصادات الكبرى، وتسلك الصين نهجاً واضحاً في ترويجها لليوان الرقمي.
من جهة أخرى، هي تواجه تدقيقاً وانتقادات خارجية بشأن احتمال تعقّب الحكومة لمعاملات المستخدمين. وعلى الصعيد المحلي، تحتاج الصين أيضاً إلى التغلب على التحديات التي تمثلها أنظمة مثل "وي تشات باي" (WeChat Pay) و"علي باي" (Alipay)، وهي منصات دفع عبر الهاتف يديرها عمالقة التكنولوجيا في البلاد وتعتمد عليها الغالبية العظمى من الجمهور في معاملاتها اليومية. وقال مسؤولون من بنك الشعب الصيني إنّ المَحافظ الإلكترونية لليوان الصيني ستجمع في الواقع معلومات أقل عن المعاملات مما تفعله المنصات الخاصة.
ورغم قلق بعض المشرعين الأمريكيين من إمكانية استخدام اليوان الرقمي لمساعدة دولة مثل روسيا على تجنب العقوبات، فإنّ مسؤولين من بنك الشعب الصيني شددوا على أن العملة الإلكترونية لليوان الصيني مخصصة أساساً لمعاملات التجزئة المحلية. وتهدف إلى أن تسمح لمزيد من الأشخاص في المناطق الريفية بالاستمتاع بالمدفوعات الرقمية، وتوفير الدعم لمنصات الدفع الخاصة، وجعل أنظمة الدفع أكثر كفاءة.
منطقة اليورو: اليورو الرقمي.
الحالة: قيد الدراسة.
في عام 2018 واجهت البنوك الأوروبية معضلة، وكان ذلك حين أعادت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فرض العقوبات على إيران ضد رغبة الحكومات الأوروبية، إذ أغلقت البنوك الأوروبية حينها، واحداً تلو الآخر، طرق سداد المدفوعات المرتبطة بالتجارة مع إيران، متحدية بذلك رغبات حكوماتها لتمتثل للعقوبات الأمريكية بدلاً من ذلك. وفرضت الحكومات الأوروبية قاعدة للتوقيف ضد "العقوبات الثانوية" التي فرضها ترمب، والتي ضغطت على البنوك لعدم التعاون معها، وحاولت إنشاء وسيلة دفع ذات غرض خاص بالموضوع. مع ذلك، اضطرت آلاف الشركات في نهاية المطاف إلى قطع علاقاتها مع إيران.
وقد أظهرت هذه الحادثة النفوذ الذي يمكن لواشنطن ممارسته على البنوك في أي مكان في العالم تقريباً. ولفتت نظر البنك المركزي الأوروبي إلى ذلك، إذ كان القلق حول سيادة البنية التحتية للمدفوعات في منطقة اليورو سبباً رئيسياً لبدء تسريع جهود إدخال اليورو الرقمي، عندما ضربت جائحة كوفيد المنطقة بعد نحو عام ونصف.
في خطاب لها، في سبتمبر من عام 2020، قالت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي: "نتحمل مسؤولية ضمان أن يمتلك مواطنونا الخيار، وألا يجري استبعادهم من نظام المدفوعات بسبب الإجراءات الأحادية الجانب للآخرين". وأضافت أن اليورو الرقمي سيضمن "بقاء الأموال السيادية في صميم أنظمة الدفع الأوروبية".
كذلك سيساعد اليورو الرقمي في خفض التكاليف المرتبطة بالمدفوعات الإلكترونية. ورغم انخفاض استخدام النقد إلى حدٍّ ما في أثناء الوباء، فإنّ حصة المدفوعات الإلكترونية في منطقة اليورو هي أقل بكثير من أجزاء أخرى من العالم، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن البائعين يعتبرونها باهظة الثمن. ولا يريد البنك المركزي الأوروبي السماح لمقدمي الخدمات الأجنبية أو العملات المشفرة أخذ زمام المبادرة في تطوير التكنولوجيا المالية.
ومثل البنوك المركزية الأخرى، يتعامل البنك المركزي الأوروبي مع تقنية "البلوكتشين"، الشبيهة بتلك الخاصة بعملة "بتكوين"، لتطوير عملته الرقمية، وهو لديه بالفعل نظام مدفوعات فورية يسمى "تيبس" (TIPS)، وهو اختصار لعبارة (Target Instant Payment Settlement)، وهو يمكن توسيعه للسماح باستخدام منافذ التجزئة. وعلى عكس "البلوكتشين" التي تستخدمها "بتكوين" وغيرها من العملات المشفرة، فإن تقنية نظامها مركزية، ما يجعلها أسرع وأكثر صداقة للبيئة على الأرجح. ويقول المسؤولون إنّ الخطة تهدف إلى جعل اليورو الرقمي فعالاً بحلول منتصف هذا العقد.
البرازيل: الريال الرقمي.
الحالة: سيبدأ اختباره في 2022.
من المقرر أن يختبر أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية عملته الرقمية في أجزاء من البلاد بحلول النصف الثاني من هذا العام. بالنسبة إلى رئيس البنك المركزي البرازيلي، روبرتو كامبوس نيتو، فإنّ الريال الرقمي هو الخطوة الطبيعية التالية في تطور البلاد لتبني نظام دفع أسرع وأرخص وأكثر شمولاً، إذ قال في أواخر نوفمبر خلال فعالية عبر الإنترنت: "نأمل أن يصبح (الريال الرقمي) جزءاً من الحياة اليومية، ويجري استخدامه إلى جانب الحسابات المصرفية وحسابات الدفع وبطاقات الائتمان والأموال التقليدية".
لا يزال طموح البرازيل لعملتها الرقمية في مراحله الأولى يهدف إلى تشجيع الاستثمار والابتكار، بدلاً من جعلها بمثابة وسيلة تقليدية للدفع. ذلك في الوقت الذي تتدفق فيه المقترحات من الشركات في البرازيل وحول العالم لمشاريع يمكن تسهيلها من خلال الأموال الرقمية. ومن أمثلتها إطلاق رموز رقمية لتمثيل ملكية المركبات والعقارات، وتمويل الشركات الصغيرة والمشاريع في المناطق الريفية التي قد تكون أكثر تكلفة أو حتى غير مجدية بالعملة التقليدية.
يقول فابيو أراوجو، الذي يشرف على مجموعة عمل الريال الرقمي في البنك المركزي: "نريد إضافة خدمات غير موجودة بعدُ في البرازيل، مثل طرق جديدة للدفع والتسويات، فنحن ننظر إلى الريال الرقمي على أنه أساس منصة ذكية للدفع".
وسيعتمد الريال الرقمي على المشاريع الموجودة حالياً، بما في ذلك منصة المدفوعات الفورية في البرازيل "بيكس" (Pix) و"أوبن بانكينغ" (Open Banking)، وهو نظام بيانات للمؤسسات المالية يمكّن العملاء من مشاركة معلوماتهم الشخصية. وكانت "بيكس" حققت نجاحاً، إذ استخدمها أكثر من 113 مليون شخص في البرازيل، و8 ملايين شركة لإجراء مدفوعات أو تحويلات فورية. لكن الحكومة استبعدت السماح للبرازيليين بفتح حسابات مباشرة مع البنك المركزي بدلاً من البنوك التجارية.
يقول أراوجو: "نريد الحفاظ على الشراكة التي لدينا مع النظام المالي، وفتح الباب أمام أعمال تجارية وتقنيات مالية جديدة".
مع ذلك، فإن السماح بالتحوّل من الأموال الرقمية إلى الأموال المادية يُعَدّ هدفاً في البلاد، ما يعني أنه يمكن للبرازيليين الاحتفاظ بعملات رقمية مباشرة في حساباتهم المصرفية أو محافظهم الإلكترونية، مع الاستمرار في سحب النقود من أجهزة الصراف الآلي. لكن ذلك لن يحدث قبل عام 2024، لأنه يتطلب تغييرات في التشريعات للسماح بتداول الأموال الرقمية.
وفي الوقت الحالي، يتعاون البنك المركزي مع شركات خاصة في مجموعة من المشاريع التي سيجري تنفيذها في المدن الصغيرة ومواقع أخرى في جميع أنحاء البلاد. ويقول أراوجو: "نريد أن تكون للبرازيليين علاقة طبيعية جداً مع الواقع الرقمي. لا يتعلق الأمر بالقول (حسناً، أنا أستخدم الريال الرقمي الآن)، بل يتعلق الأمر بالسماح للمواطنين بإجراء معاملات كان من الصعب جداً تنفيذها في الماضي".
نيجيريا: النيرة الرقمية.
الحالة: جرى تقديمه في أكتوبر 2021.
المستخدمون: نحو 700 ألف شخص حتى نهاية يناير.
تأمل نيجيريا أن تقدم عملتها الرقمية المدعومة من البنك المركزي الخدمات المالية الأساسية لعدد أكبر من مواطنيها، لكنها تسير ببطء حتى الآن. بدأ تداول النيرة الرقمية "إي نيرة" (eNaira) في أكتوبر 2021، بهدف تحسين السياسة النقدية، وتعزيز الشمولية المالية، والسماح بزيادة التحويلات من النيجيريين الذين يعيشون في الخارج، وإجراء المعاملات بشكل أكثر كفاءة، وفقاً للبنك المركزي للبلاد. وسرّعت الهيئة التنظيمية المشروع العام الماضي، بعد منع المؤسسات المالية من التعامل بالعملات المشفرة، التي قالت إنها تشكل تهديداً للنظام المالي.
لكن، هذه الدولة الواقعة في غرب أفريقيا لم تتمكن من تحقيق هدفها المتمثل في استقطاب مزيد من المواطنين إلى النظام المالي المنظم. وفي نهاية عام 2020، لم يكن نحو 36% من البالغين في نيجيريا يمتلكون حسابات مصرفية، وفقاً لمنظمة تعزيز الابتكار المالي والوصول، وهي منظمة تنموية تتعقب البيانات. وكان هدف الحكومة لعام 2013 خفض هذه النسبة إلى 20% بحلول عام 2020.
وتكافح عملة النيرة الرقمية أيضاً لتحقيق أهدافها، فكثير من الناس لا يعرفون عنها شيئاً، خصوصاً في المناطق الريفية. وحتى الآن هي متاحة لعملاء البنوك فقط، فيما يراقب البنك المركزي مدى أمنها قبل أن يقرر متى سيجري توسيع التعامل بها لغير المتعاملين مع البنوك. ويحتاج مستخدمو هذه العملة إلى هاتف ذكي ورقم تحقق بيومتري (BVN) من البنك الخاص بهم، من أجل ضمان أمان النظام. وحتى أولئك المؤهلون لن يكونوا قادرين دائماً على ربط المحفظة الإلكترونية برقم التحقق البيومتري الخاص بهم.
وأدت ندرة المستخدمين الأفراد للعملة إلى تباطؤ تسجيل التجّار للتعامل بها. وحسب صحيفة "ذيس داي" (ThisDay)، التي تتخذ من لاغوس مقراً لها، شمل البرنامج نحو 700 ألف عميل من أصل عدد السكان البالغ 200 مليون حتى نهاية يناير. وقال غودوين إيمفييلي، مُحافظ البنك المركزي، في يناير إنّ أقل من 10% فقط من معاملات النيرة الرقمية كانت بين الأشخاص أو بين المتعاملين والتجار أو العكس، فيما كانت 90% منها خاصة بالتعاملات البنكية.
ولكي تنجح النيرة الرقمية فإنها "تحتاج إلى مزيد من المستهلكين الذين لديهم المحفظة الإلكترونية ويضيفون العملة بها، كما تحتاج المحفظة إلى حالات متعددة الاستخدامات تجذب العملاء والتجّار"، على حد قول أديسوجي سولانك، مدير الحدود وجنوب الصحراء الأفريقية والتكنولوجيا المالية في "رينيسانس كابيتال" (Renaissance Capital). وتعمل نيجيريا مع البنوك لحل المشكلات الفنية وتسهيل التسجيل، بما في ذلك تمكين النيجيريين الذين لا يمتلكون هواتف ذكية من استخدام العملة، وفقاً لمحافظ البنك المركزي النيجيري، إيمفييلي إيمفيلي. وقال المُحافظ إنّ البنك المركزي يعمل على حث مزيد من الأشخاص على فهم النيرة الرقمية، وإشراك شركات التكنولوجيا المالية لإنشاء منتجات على المنصة الافتراضية لزيادة المدفوعات وتوسيع نطاقها.
شرق الكاريبي: "دي كاش" (DCash).
الحالة: إطلاق المشروع التجريبي في 2021.
المستخدمون: أكثر من 4 آلاف شخص، و120 تاجراً.
في أبريل 2021، ثار بركان لا سوفريير، وغطى الرماد عديداً من جزر سانت فنسنت وجزر غرينادين، مجبراً أكثر من 20 ألف شخص، أي نحو خُمس السكان، على المغادرة. وانتظر الأشخاص الذين جرى إجلاؤهم لساعات في طوابير حتى يتمكنّوا من تحويل الأموال التي قد تستغرق أياماً، وتأتي مع رسوم باهظة.
وكان البنك المركزي لشرق الكاريبي، الذي يصدر دولار شرق الكاريبي الذي تستخدمه ثماني دول جزرية، يمتلك حل هذه المعضلة. فقبل ذلك بشهر أصبح البنك أول اتحاد نقدي في العالم يسكّ عملة رقمية للبنك المركزي. وسرَّع خطته الخاصة بسانت فنسنت، وبحلول يوليو أتاح للسكان الذين يعانون من أنظمة التحويل إمكانية الوصول إلى "دي كاش". ومع عملة "دي كاش" بات يمكن لأي شخص لديه هاتف محمول ومحفظة رقمية تسلُّم النقود الرقمية على الفور دون مقابل، دون أن يمثل عدم وجود حساب مصرفي مشكلة، فيما ساعد تدفق الأموال، خصوصاً من الأقارب في الجزر المجاورة، على بدء جهود التعافي. وسمحت "دي كاش" للأشخاص بالدفع مقابل الخدمات عن بُعد، عندما كانوا معزولين عن مجتمعاتهم، كما تقول شارمين باول، رئيسة مجموعة عمل التكنولوجيا المالية في البنك المركزي لشرق الكاريبي. وكما هي حال البنوك المركزية الأخرى، كان السبب الرئيسي وراء إدخال البنك المركزي لشرق الكاريبي للعملة الرقمية "دي كاش" هو جذب مزيد من الأشخاص إلى النظام المالي وتعزيز الاقتصاد الإقليمي، كما تقول باول، التي تضيف: "إذا أردت الابتكار فيجب أن يكون لديك نظام أساسي للدفع يدعم الابتكار. وإذا رغبت في دعم التنافسية والتجارة داخل البلدان فأنت بحاجة إلى طريقة دفع تمنح الناس الثقة بإمكانية الحصول على تسوية سريعة في الوقت الفعلي".
يصبح هذا صحيحاً بشكل خاص خلال حالات الطوارئ، فعندما قدمت جزر البهاما أول عملة رقمية للبنك المركزي في العالم، وهي "ساند دولار" (Sand Dollar) في عام 2020، كان أحد دوافع ذلك هو توفير القدرة على إيصال المال إلى الجزر البعيدة بعد الأعاصير. ولدى جامايكا وهايتي طموحات متشابهة بالنسبة إلى إصدار عملات رقمية للبنوك المركزية الخاصة بها.
مع ذلك، لم يكن الطرح الأولي لعملة "دي كاش" سلساً. فرغم أن أكثر من 4 آلاف شخص نزَّلوا المَحافظ، وأن أكثر من 120 تاجراً يقبلون "دي كاش"، فإنّ كوفيد ومَواطن الخلل الفنية بالعملة أعاقت اعتمادها، كما تقول باول. وفي يناير، انهارت منصة العملة، واستغرق البنك المركزي لشرق الكاريبي نحو شهرين لاستعادتها بالكامل.
ومع ذلك، يجري استخدام العملة الإلكترونية في كل من أنتيغا وباربودا، ودومينيكا، وغرينادا، ومونتسرات، وسانت كيتس ونيفيس، وسانت لوسيا، وجزر سانت فنسنت وغرينادينز. ومن المتوقع أن يصبح أقليم أنغويلا، العضو الأخير في اتحاد العملات، معتمداً للعملة الرقمية أيضاً. وتقول باول إنّ ذلك سيتبعه حملة تسويقية وتعليمية أوسع عنها.
وتتوقع باول أنه "في الأشهر الستة المقبلة تقريباً سنرى صورة جديدة كاملة من انتشار (دي كاش) عبر اتحاد العملات. سنخرج من الوضع الحالي بحال أقوى بكثير من ذي قبل".
جزر مارشال: "سوف" (Sov).
الحالة: قدمت عملة قانونية في عام 2018، وهي لا تزال قيد التطوير.
ليس سهلاً، سواء للناس أو الأموال، أن يصلوا إلى جزر مارشال التي يبلغ عدد سكانها نحو 68 ألف نسمة، يتوزعون على ألف و100 جزيرة صغيرة تنتشر فوق 750 ألف ميل مربع (الميل المربع = 2.6 كيلومتر مربع) من المحيط الهادي.
كانت الدولة أصدرت قانوناً في عام 2018، يجعل من عملة "سوف"، التي هي اختصار لكلمة "سيادية" باللغة الإنجليزية، والمستندة إلى تقنية "بلوكتشين"، عملة قانونية في البلاد. ومن المفترض أن يقتصر نمو العرض منها على 4% سنوياً للحد من التضخم. ويقول هنري أرسلانيان، رئيس العملات المشفرة في "بي دبليو سي" (PwC): "إنها أقرب ما تكون إلى (بتكوين)، كما إن كنت تريد عملة مشفرة لامركزية صادرة عن الحكومة".
وتوجد بلدان أخرى في المحيط الهادي بمجموعات سكانية مشتتة ومعزولة تعمل على مشاريعها الخاصة. ويقول سورانجيل ويبس جونيور، رئيس دولة بالاو: "لقد نفدت منا البنسات والأرباع. وفي بعض الأحيان يحصل الناس على قطعة حلوى بديلاً للعملة".
وقد أقام أرخبيل المحيط الهادي شراكة مع شركة العملات المشفرة "ريبل" (Ripple) لتطوير استراتيجية عملة رقمية. ويرى ويبس إمكانية وجود عملة مستقرة في البلاد تكون عملة مشفرة، تهدف إلى تتبع قيمة العملة التقليدية أو الأصول الأخرى، استناداً إلى الدولار الأمريكي.
يقول جوش ليبسكي، مدير مركز "جيو إيكونوميكس" (GeoEconomics) التابع للمجلس الأطلسي: "يأتي الابتكار من اقتصادات تحتاج إلى إنشاء هذه الأشياء، فيما تنظر الاقتصادات الأكبر لها بغرض معرفة ما إذا كان بإمكانهم تطبيق الأمر لديهم".