بلومبرغ
يبدو أقوى محافظي البنوك المركزية في العالم وكأنهم ليسوا في عجلة من أمرهم للإسراع في طريقهم الجديد لمكافحة التضخم.
اتجهت البنوك المركزية في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو نحو التشديد النقدي في الأسابيع الماضية، لكنها تريد أن تأخذ الأمور بروية رغم ارتفاع الأسعار بأسرع وتيرة منذ عقود. يشير ذلك إلى أنهم ما زالوا يرون أن خنق الانتعاش والقضاء على الوظائف يشكلان الخطر الأكبر، بعد أن أدت البطالة المستمرة في العقد الماضي إلى إذكاء الاضطرابات السياسية في جميع أنحاء العالم الغربي.
ويواصل الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي إضافة المحفزات إلى الاقتصاد، ولطالما كانوا مترددين في إنهاء مشترياتهم من الأصول على الفور، أو الإشارة إلى وتيرة أسرع لرفع أسعار الفائدة، مفضلين الالتزام بنفس الإرشادات التوجيهية السياسية خطوة بخطوة التي استخدموها في سنوات التضخم المنخفض السابقة لوباء فيروس كورونا.
قال ديريك تانغ، اقتصادي في "مونيتاري بوليسي أناليتكس" في واشنطن: "هم ضمناً يتخذون خياراً حول التأثيرات التوزيعية لسياساتهم.. وهم يفضلون أن يحظوا باقتصاد ذو نشاط ساخن وتضخم أعلى بدلاً من عدد كبير من الناس خارج العمل".
ومع دراسة بعض البنوك المركزية الكبرى -مثل "بنك إنجلترا"- التحرك بوتيرة أسرع، يقول العديد من المستثمرين والاقتصاديين إن نهج المضي قدماً ببطء من قبل المؤسسات التي تدعي أنها تعتمد على البيانات لا يتوافق مع الأدلة التي تشير إلى حالة تضخم طارئة، ويتسبب عدم التوافق الواضح في اضطراب الأسواق.
قفزت عائدات سندات الخزانة الأمريكية لأجل عامين بأكثر من 70 نقطة أساس منذ ديسمبر، في الوقت الذي يراهن فيه المتداولون على أن الفيدرالي قد تخلف عن المنحنى وسيضطر إلى لعب لعبة اللحاق، وتعكس عقود الفائدة الآجلة زيادات عديدة للفائدة العام الجاري، رغم تأكيد البنك المركزي الأوروبي على أنه ليس في عجلة من أمره.
اختيار ضمني
يقر صانعو السياسات بأن تدابيرهم بحاجة إلى التغيير قريباً، وفي البنك المركزي الأوروبي، بدأ يتزايد الإجماع حول ارتفاع مرجح في الفائدة بنهاية العام، بينما لا يقاوم مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي توقعات السوق بسلسلة من الارتفاعات في الفائدة.
لكنهم أيضاً يرون جميع أنواع المخاطر من المبالغة في تصحيح المسار.
وجعل الوباء من الصعب التنبؤ حتى بالمستقبل القريب، وخلق مشكلات جديدة مثل التضخم الناتج عن اضطرابات سلسلة التوريد، والتي لا يمكن إصلاحها بسهولة باستخدام الأدوات النقدية، لكن يمكن للبنوك المركزية أن تجادل على الأقل أن أزمة تفشي البطالة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لم تتكرر، وهم يريدون المحافظة على الأمور على هذا النحو.
ويقول تانغ إنه "لا يمكنك أن تقول للناس إنهم خسروا أعمالهم" لأن أسعار الرقائق الدقيقة والسيارات كانت مرتفعة، لأن ذلك "سيتحدى مصداقية المؤسسة" حتى أكثر من الأسعار المرتفعة المستمرة.
بينما تراجعت البنوك المركزية عن فكرة أن التضخم الناجم عن الوباء "مؤقت"، فهي ما زالت تحاول النظر إلى ما وراء أزمة كوفيد الآنية، وتعاني الولايات المتحدة وأوروبا على حد سواء من شيخوخة السكان وربما تحتاجان لجذب المزيد من الأشخاص إلى القوى العاملة، وقد يؤدي تباطؤ نمو الوظائف حالياً إلى زيادة صعوبة جذب العمالة لاحقاً.
مفاجئ وشديد
إن الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر، فلا يوجد ضمان على أن البنوك المركزية تستطيع المحافظة على ثقة العامة في قدرتها على الإبقاء على التضخم منخفضاً على المدى البعيد، وللمسألة التوزيعية تأثير متناقض، يقول النقاد إن سياسات الأموال السهلة ترفع أسعار أصول مثل الأسهم والمنازل، ما يجعل فجوات الثروات أوسع.
علاوة على ذلك، إذا أثبت العقد الأول من الألفية أن البطالة تكون أرضاً خصبة للحركات الشعبوية التي تتحدى المؤسسات الحاكمة، فإن التاريخ يشير إلى أن التضخم له نفس التأثير أيضاً.
في الوقت الحالي، ما يقوله الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي هو أنهما مصممان على تحقيق أهدافهما، لكن لن يتسرعا في محاربة التضخم.
قالت ماري دالي، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو في برنامج "Face the Nation" على شبكة "سي بي إس" في 13 فبراير: "يمكن أن يكون للتحرك المفاجئ والشديد تأثير مزعزع للاستقرار الذي نحاول تحقيقه في النمو والأسعار.. وأهم شيء هو أن تكون وتيرة تحركاتنا محسوبة".
وأوضحت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، أن أسعار الفائدة الأعلى لا يمكن أن تحل مشكلات سلسلة التوريد أو تخفض أسعار الوقود.
وقالت في مقابلة بتاريخ 11 فبراير نشرت على الموقع الإلكتروني للبنك المركزي الأوروبي: "إذا تحركنا سريعاً جداً الآن، يمكن أن يكون تعافي اقتصاداتنا أضعف بكثير وسنهدد الوظائف.. وهذا لن يساعد أي أحد".
لا أهتم
قد يخضع كلا البنكين المركزيين في الأسابيع المقبلة لضغوط لتفسير أكثر دقة حول ما يعنونه بتحول سياسي ليس مفاجئاً أو سريعاً.
ولا يحصل المستثمرون على وضوح كافٍ بشأن هذه النقطة، ويسعّر متداولو العقود الآجلة ستاً أو سبع زيادات في الفائدة العام الجاري، مقارنة مع ثلاث أو أربع منذ شهر. مع ذلك، هناك الكثير من التباين بين المتنبئين، وتتوقع الأسواق الأوروبية زيادتين بمقدار ربع نقطة أساس العام الجاري، بينما لم يكونوا يتوقعون أي زيادات في منتصف يناير.
قال مارك سبيندال، مدير الاستثمار في "إم بي بي كابيتال باتنرز": "بدأت الأسواق تقول: لا أهتم بما تقولون وإنما بما ستفعلون".
في غضون ذلك، ارتفعت توقعات التضخم بنهاية العام في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو بقوة على حد سواء.
إذا وصلت زيادات الأسعار إلى ذروتها خلال الأشهر القليلة المقبلة، ثم هدأت بشكل ملحوظ بعد ذلك مع تلاشي مشكلات جانب العرض، سيستطيع محافظو البنوك المركزية الاحتفاء بلحظة القيادة.
سيكون ذلك بمثابة انتصار للسياسة التي تمجد النهج التقديري الذي يوازن بين الأهداف في السعي وراء خفض التضخم بدلاً من إعطائه الأولوية على أي اعتبار آخر، ومن المرجح أن يكتسب محافظو البنوك المركزية طبقة أخرى من الغموض النقدي.
أما إذا فشلوا، واستمر ارتفاع التضخم في الارتفاع في النصف الثاني من العام الجاري وما بعده، سيزداد الضغط - من السياسيين والأسواق - لاتخاذ إجراءات أكثر حسماً.
وهو ما قد يجبر البنوك على تشديد الأحوال المالية بأكثر مما يريدون، مخاطرين بخنق الطلب وإنهاء التعافي الاقتصادي.
تقول بليرينا أوروسي، اقتصادية في "تي رو برايس" في بالتيمور، إن البنوك المركزية "تحاول السير على حبل مشدود.. ويعرضنا هذا الغموض حول اتجاه السياسة للمزيد من التقلبات في الأشهر المقبلة".