بلومبرغ
خلال دورة الأولمبياد الشتوية التي تقام في العاصمة بكين هذا الشهر؛ تتنافس الصين على أكثر من مجرد أعداد الميداليات التي تُحققها. إذ إنَّها أيضاً تسعى بشكل هادئ لتحديد مستقبل النقود. فصحيح أنَّه من الممكن للحضور الدفع مقابل حصولهم على الطعام والهدايا التذكارية باستخدام بطاقات "فيزا" البنكية، أو من خلال الدفع نقداً؛ إلا أنَّهم يمتلكون خياراً إضافياً كذلك. يتمثل بالدفع من خلال مسح ضوئي لـ"باركود" موجود على هواتفهم، مستخدمين رصيدهم من (e-CNY)، أو عبر اليوان الرقمي، وهو العملة الرقمية الوحيدة التي تصدر عن إحدى الاقتصادات الكبرى ضمن ما يُعرف بعملات البنوك المركزية الرقمية.
داخل المركز الإعلامي الرئيسي قبل بداية الألعاب، استخدم الإعلامي كاي كياني صاحب الـ42 عاماً، هاتفه "الأندرويد" لشراء وجبة من الدجاج المشوي والبروكلي. يقول كاي: "إنَّه أمر عملي للغاية، مقارنة باستخدام النقود، إذ أتجنّب لمس الأوراق النقدية".
بالنسبة لكثير من المستهلكين؛ يبدو الدفع باستخدام الهاتف أمراً عادياً للغاية. فمن منا لم يُجرِ عملية شراء بهذه الطريقة في وقت ما؟ لكن، بالنسبة لواضعي الأنظمة في جميع أنحاء العالم، وبعض المصرفيين في البنوك المركزية؛ تبدو تجربة الصين هذه كانتصار مبكر فيما يسميه بعضهم بالسباق الرقمي بين الدول لإنشاء صيغة إلكترونية من الأوراق النقدية.
يقول الخبراء، إنَّ العملة الرقمية يمكن أن تمنح بكين ثروة من البيانات عن المعاملات في وقت حدوثها الفعلي، وتمنحها الأدوات اللازمة أيضاً لوضع السياسات، وتوسيع أساليب المراقبة من خلال إمكانية الوصول مباشرة إلى المحافظ الرقمية لمواطنيها. وعلى الرغم من أنَّ اليوان الرقمي ما يزال في مراحله المبكرة، إلا أنَّ إجمالي المعاملات به حتى نهاية عام 2021 بلغت 14 مليار دولار، كما أنَّ وضع معايير نموذجية للعملات الرقمية قد يمثل بالنسبة للصين في نهاية الأمر، وسيلة لتستعرض بها قوتها الجيوسياسية.
عن ذلك، يقول يايا فانوسي، وهو محلل سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية: "يحاول البنك المركزي الصيني وضع نظام جديد للمدفوعات عالمياً"، ويعمل "فانوسي" حالياً كزميل في "مركز الأمن الأمريكي الجديد"، وهو مركز فكري يركز على الشؤون الخارجية والدفاع الوطني.
العملة الرقمية المدعومة من الدول
في الولايات المتحدة، أدى المزيج من القلق إزاء الصين من جهة، والحماس تجاه الاحتمالات التي تحملها العملات الرقمية من جهة أخرى، إلى إثارة اهتمام المشرعين في كلا الحزبين. كما أنَّ الاحتياطي الفيدرالي كان يدرس هذه الفكرة أيضاً. وفي حين أنَّه لا توجد فوارق كثيرة بين استخدام العملة الإلكترونية، والدفع باستخدام تطبيقات مثل: "أبل باي"، أو "زيلا"، إلا أنَّ إصدار عملة مدعومة من البنك المركزي يبقى الأمر الجديد بشكل كلّي .
وفي الواقع؛ فإنَّ معظم الأموال التي تتعامل بها لا تكون أبداً على شكل أوراق ورقية. لأنَّها بدلاً من ذلك؛ تشكل جزءاً من شبكة الائتمان المعقدة للنظام المصرفي، فالنقود الموجودة في حسابك الجاري هي قرض تقدمه إلى مصرفك. في حين تعد العملة الرقمية المدعومة من البنوك المركزية أكثر شبهاً بنظيرتها الورقية. وبحسب التكنولوجيا التي تستخدمها؛ من الممكن أن تكون رمزاً إلكترونياً، أو حساباً مدعوماً بالكامل من قبل البنك المركزي للحكومة، لذلك لن يكون هناك سبب للقلق بشأن فشل البنك أو الحاجة إلى التأمين على الودائع. ونظرياً؛ فإنَّه سيكون باستطاعتك تلقي وحفظ وتحويل العملة الرقمية المدعومة من البنك المركزي دون أن يكون لديك حساب مصرفي، مما يستبعد طبقات كثيرة من الوسطاء.
يمكن أن يكون هذا الشكل الجديد للنقود أقل تكلفة من سك العملات المعدنية أو طباعة الأوراق النقدية، ومن المفترض أن يكون تزويره أصعب. ويعتقد مؤيدو العملات الرقمية أنَّ إرسال عملات البنوك المركزية الرقمية يمكن أن يكون أسرع وأقل تكلفة من إرسال العملات التقليدية، خاصة فيما يخص التحويلات الدولية، التي تمر اليوم عبر بنوك متعددة.
يقول شيرود براون، السيناتور الديمقراطي عن ولاية أوهايو، والذي يرأس اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ، إنَّ العملة الرقمية المدعومة من البنوك المركزية يمكن أن توفر إمكانية الوصول إلى المدفوعات الرقمية للأمريكيين الذين لا يحظون بخدمات المصارف التقليدية.
أسرع ولكن ماذا عن الأمان
كذلك، فَكِّر في الكيفية التي كانت ستعمل بها العملات الرقمية للبنوك المركزية خلال الوباء. فبدلاً من أن تستغرق مدفوعات التحفيز التي بلغت 1400 دولار في مارس الماضي، بضعة أسابيع في بعض الحالات لتصل إلى الحسابات المصرفية للمتلقين من خلال الإيداع المباشر، أو حتى تستغرق فترة أطول بالنسبة للأشخاص الذين يتلقونها في البريد على شكل شيكات ورقية، أو من خلال بطاقات خصم مباشر مسبقة الدفع؛ يمكن أن تظهر الدولارات الافتراضية في محفظة المستهلك الرقمية في غضون ساعات. وذلك بحسب ما يقول جوش ليبسكي، رئيس مركز رئيس مركز "جيوإيكونومكس" في مؤسسة "المجلس الأطلسي" البحثية، ومقرها واشنطن. يضيف ليبسكي: "هي طريقة أسرع وأرخص، وأكثر أمناً لتحويل الأموال بين الناس، وبين الحكومة والمواطنين".
يواجه صانعو السياسات أيضاً مخاوف من تفويتهم للفرص؛ فإذا لم تقدّم الولايات المتحدة العملة الرقمية الخاصة بها، قد يعتاد الناس على التعامل مع بدائل الدولار. وصحيح أنَّ العملات التي يمكنها أن تضاهي المزايا التي يتمتع بها الدولار الأمريكي هي قليلة، سواء من استقرار الاقتصاد الأمريكي إلى عمق أسواق رأس المال؛ إلا أنَّ انتشار عملات البنوك المركزية الرقمية الصادرة من دول أخرى قد يسهّل في مرحلة ما من عملية إرسال الأموال عبر الحدود، دون التعامل مع النظام المصرفي الأمريكي، ويقلل من احتمالية التعرض للعقوبات الأمريكية. ومن ثم؛ هناك جميع العملات المشفَّرة الخاصة، التي يستخدمها الناس بالفعل، والتي إذا تم تبنيها على نطاق واسع؛ ستصعّب على البنوك المركزية إدارة السياسات، وضمان الاستقرار المالي.
لكن على الرغم من كل هذا الصخب المُثار حول العملات الرقمية للبنوك المركزية؛ كان بعض محافظي البنوك المركزية متشككين بشدة حيالها. في أواخر عام 2019، رفضت عدة حكومات عالمية المضي قدماً في العملات الرقمية الخاصة بها. وفي مايو من ذلك العام، نشر مجلس الاستقرار المالي، الذي يساعد في تنسيق السياسات المالية لأكبر الاقتصادات في العالم، تقريراً يقول فيه، إنَّ البنوك المركزية قد وجدت مخاطر عديدة لإنشاء عملات رقمية للبنوك المركزية، ولكنَّها لم تجد فوائد كثيرة.
وذكر التقرير أنَّ العملات الرقمية بشكل عام لا تشكل تهديداً للاستقرار المالي. يقول راندال كوارلز، الذي رأس مجلس الاستقرار المالي في ذلك الوقت حتى ديسمبر، وكان عضواً في مجلس محافظي البنك الاحتياطي الفيدرالي: "كانت نتيجة تلك المراجعة أنَّ العملات الرقمية لم تكن ذات أهمية. إنَّها عناصر كمالية، ويمكن أن تكون المكافئ المالي لألعاب الزينة".
ثم بعد أقل من شهرين من التقرير؛ أعلن اتحاد من شركات التكنولوجيا، بما في ذلك "فيسبوك"، وأنظمة دفع رئيسية مثل "باي بال"، و"فيزا"، عن تطوير عملة رقمية تسمى "ليبرا". وبعد ذلك بوقت قصير؛ قالت الحكومة الصينية، إنَّها ستسّرع من جهودها لتطوير عملتها الرقمية. وأتى وقع التصريحين قوياً على الكونغرس، وعلى صانعي السياسات المالية حول العالم.
مزايا ومخاطر
يقول كوارلز، الذي يشغل الآن منصب رئيس مجلس إدارة شركة الأسهم الخاصة "سينوشور" (Cynosure Group): "فجأة اضطربت البنوك المركزية حول العالم، وخاصة وزراء المالية، وقالوا: علينا أن نكون في طليعة هذه الموجة، يجب أن نكون نحن من يصدر عملات رقمية من البنوك المركزية".
لكن، سرعان ما واجه مشروع "ليبرا" الذي أُعيدت تسميته بـ"ديم" ردود فعل سلبية من الجهات التنظيمية، وأعلن قادته في يناير إنهاء المشروع، مع ذلك؛ فإنَّ تأثيره استمر. ووفقاً للمجلس الأطلسي، حتى ديسمبر الماضي، كانت هناك 87 دولة تستكشف العملات الرقمية للبنوك المركزية، في حين بدأت 14 دولة، من بينها الصين، بمباشرة المرحلة التجريبية لها، في حين أطلقت تسع دول، بما فيها نيجيريا، عملاتها الرقمية بشكل كامل.
في يناير، أصدر الاحتياطي الفيدرالي ورقة مناقشة من 35 صفحة تحدد بعض المخاطر والمزايا التي وجدها في عملات البنوك المركزية الرقمية، وطلب إرسال الردود عليها بحلول مايو. ومن الناحية الإيجابية؛ قال الفيدرالي، إنَّ الدولار الرقمي يمكنه تسريع المدفوعات عبر الحدود، وتسهيل استخدام الدولار في التكنولوجيا الحديثة. في حين نجد من جهة أخرى أنَّ محاولة إبقاء العملة الرقمية آمنة يمكنها أن تستنزف الأموال من البنوك، وترفع تكلفة الدين.
وكتب الاحتياطي الفيدرالي: "وجود عملات رقمية من البنوك المركزية متاحة على نطاق واسع؛ سيكون بمثابة [RA9] بديل قريب للأموال في البنوك التجارية، أو في حالة وجود فائدة على هذه العملات؛ فإنَّها ستشكل بديلاً شبه مثالي[RA10] لها". وأضاف البنك أنَّه يمكن التحكّم في هذه المخاطر عن طريق الحد من كمية الدولارات الرقمية التي يمكن للمستخدمين الاحتفاظ بها، أو ألا يدفع البنك المركزي أي فوائد عليها، إذ يبقى لدى الناس الدوافع لاستخدام الحسابات المصرفية التقليدية. وقال البنك أيضاً، إنَّه سيكون من الأفضل لو كان وصول الناس إلى الدولارات الرقمية من خلال وسطاء خاصين، مثل الشركات التي تقدم المحافظ الإلكترونية.
أعرب بعض المشرعين عن قلقهم من كون الدولار الرقمي للاحتياطي الفيدرالي قد يمنح الحكومة مساحة واسعة لمراقبة معاملات الأمريكيين اليومية. وفي جلسة استماع اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ خلال شهر يناير لتعيين لايل برينارد في منصب نائبة رئيس مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي، قالت سينثيا لوميس، النائبة الجمهوريّة عن ولاية وايومنغ، إنَّ اليوان الرقمي الصيني سمح "للحزب الشيوعي الصيني بمراقبة معاملات عملته الرقمية المدعومة من البنك المركزي". وأضافت برينارد أنَّ الاحتياطي الفيدرالي كان ينتظر توجيهات من الكونغرس، وأنَّ "حماية الخصوصية مهمة جداً في أي منهج يتم اتباعه".
يحاول معارضو فكرة الدولار الرقمي إبطاء الأمر، أو حتى القضاء عليه. كما وصف "بنك بوليسي إنستيتيوت" (Bank Policy Institute)، وهو اتحاد تجاري للمصارف، إمكانية وجود عملة رقمية للبنك المركزي على أنَّها "أكبر تغيير في السياسات بالنسبة لمجتمعاتنا، من أي تشريع في الذاكرة الحية".
سباق عالمي
من المحتمل أن تجد البنوك حليفاً غير متوقَّع في قطاع العملات المشفَّرة. فبدلاً من الدولار الرقمي الرسمي للولايات المتحدة؛ أنشأت الشركات الخاصة مثل: "سيركل إنترنت فايننشال" (Circle Internet Financial) إصداراتها الخاصة، فيما يسمى العملات المستقرة. والتي لديها أكثر من 179 مليار دولار قيد التداول، ويفترض أن تكون مدعومة بأصول مقيّمة بالدولار يُحتفظ بها بشكل احتياطي.
وعلى الرغم من أنَّ هذه العملات تُستخدم إلى حد كبير للمضاربة على العملات المشفَّرة الأخرى، إلا أنَّ المسؤولين في الصناعة يطمحون كي تستخدم في المدفوعات اليومية. وكما هو الحال مع العملات الرقمية للبنوك المركزية؛ فإنَّ "العملات المستقرة" تتنافس بالفعل مع البنوك على الودائع، على الرغم من أنَّها لا تستطيع تقديم مستوى الأمان الذي يقدّمه دعم البنك المركزي للعملات الرقمية. وفي الواقع، قال كبار المراقبين الماليين في الولايات المتحدة، إنَّهم قلقون بشأن هشاشة "العملات الرقمية المستقرة" أمام عمليات تشغيل البنوك الافتراضية، وحثّوا الكونغرس على إصدار قوانين لتنظيمها.
بالنسبة لشركات "العملات المستقرة"؛ يمكن أن تكون العملة الرقمية المدعومة من البنك المركزي الأمريكي منافساً قوياً. وتحاول هذه الشركات إثبات أنَّ عملاتها حقّقت بالفعل العديد من الأمور التي يمكن أن ينجزها الدولار الرقمي. قال جيريمي ألاير، الرئيس التنفيذي لشركة "سيركل" في "بودكاست" أواخر شهر يناير: "غالباً ما يتحدّث الناس حول: هل يجب أن نبني شيئاً ما؟ ماذا علينا أن نفعل؟ يوجد الكثير بالفعل". وكانت شركته قد أطلقت في فبراير حملة إعلانية؛ إذ قامت بشراء إعلانات بارزة في صحيفتي "وول ستريت جورنال"، و"واشنطن بوست"، وغيرها من المنشورات لتسليط الضوء على المخاطر التي سيواجهها الاحتياطي الفيدرالي أو غيره جراء المضي قدماً في مجال النقود الرقمية.