بذلت حكومة الولايات المتحدة جهوداً كبيرة على مدى العقد الماضي حتى تمنع الأمريكيين من إخفاء حسابات مصرفية خارج الحدود بهدف التهرب الضريبي. لكن تلك الجهود لم تكن كبيرة بما يكفي. لقد بات الاحتفاظ بحسابات مصرفية سرية أشد صعوبة مما مضى، لكنَّه ما زال يحدث كما يتبين من الأمثلة الحديثة على ذلك.
فالأشخاص الذين يحملون جنسية مزدوجة، وارتباطهم بالولايات المتحدة في أقل الحدود، ويعرفون شخصاً متواطئاً في أي بنك، ويكون مستعداً لمعاونتهم؛ تكون الفرصة سانحة أمامهم.
بل حتى أولئك الذين لا يحملون سوى الجنسية الأمريكية يستطيعون أن يحصلوا على حسابات خارج البلاد عبر استخدام صناديق معقدة، أو الاستعانة بأفراد من عائلاتهم في الخارج. إنَّ امتلاك حساب مصرفي في الخارج ليس مخالفاً للقانون، غير أنَّ عدم الإفصاح عنه أمام وكالة الإيرادات الداخلية يعدّ مخالفة قانونية.
مؤخراً، اتهم مصرفيون سابقون لدى "كريدي سويس" المجموعة المصرفية بالاستمرار في مساعدة عملائها الأمريكيين على إخفاء حساباتهم عن وكالة الإيرادات الداخلية، برغم سدادها غرامة كبيرة في عام 2014، ووعودها بالتوقف عن ذلك.
وقامت أيضاً حفنة من المصارف السويسرية الأصغر حجماً بتحديث اتفاقاتها مع وزارة العدل الأمريكية، وسداد غرامات إضافية بعد الكشف عن مزيد من الحسابات غير المعلنة.
أرقام ضخمة
ربما تتسلل حالات أخرى من بين الشقوق؛ فوفق تقرير أصدرته وزارة الخزانة في مايو الماضي، تعد فجوة الضرائب في أمريكا (أي الفارق بين مستحقات الحكومة من الضرائب وما يتم تحصيله فعلاً) أعلى بكثير من الرقم التقديري البالغ 600 مليار دولار، نظراً لأنَّ بعض دافعي الضرائب يقللون قيمة دخلهم من خارج البلاد.
قبل أن نتعرض لمدى قصور السياسات الحالية، من المفيد أن نعرف ما فعلته الأجهزة الرقابية في الولايات المتحدة لملاحقة من لا يحترمون القانون منذ عام 2008، عندما تم اكتشاف أنَّ عشرات الآلاف من الأمريكيين يستخدمون المصارف السويسرية للتهرب من التزامات ضريبية بالمليارات.
وقد طرحت هذه الأجهزة البرامج للإفصاح طواعية، وطالبت المصارف التي تعمل في الملاذات الضريبية بإمدادها بمزيد من المعلومات، لتجبر بذلك بعض المصارف الكبرى المخالفة للقانون على الكشف عن معلومات عملائها التفصيلية.
يفرض قانون الالتزام الضريبي للحسابات الأجنبية (فاتكا)، الذي أقره الكونغرس في عام 2010، على المواطنين الأمريكيين الإفصاح عن أصولهم الأجنبية فوق مستوى معين، وعلى المؤسسات المالية غير الأمريكية أن تكشف عن الأصول المملوكة لعملائها الأمريكيين.
من الناحية النظرية، يفترض أن تقارن وكالة الإيرادات الداخلية ما تقدِّمه المؤسسات المالية إليها من سجلات مع المعلومات التي يفصح عنها دافعو الضرائب حتى ترصد مواضع الاختلاف.
غير أنَّ نقص المعلومات التي تقدمها المصارف يواجه وكالة الإيرادات الداخلية بصعوبة حالة اكتشاف أوجه الغش والتهرب الضريبي، كما تبيَّن من تحقيق في عام 2019 أجراه مكتب المساءلة الحكومية، وقد تخلت الوكالة عن وضع أي "خطة شاملة" من شأنها تعزيز البيانات المتعلقة بقانون الالتزام الضريبي للحسابات الأجنبية بهدف تحسين الامتثال للنظام الضريبي.
ثم تأتي مشكلة ازدواج الجنسية؛ فقد قامت الأجهزة الرقابية بتصعيد الضغوط على المصارف حتى تعرف هوية عملائها، غير أنَّه بالنسبة للعملاء الذين يستطيعون إخفاء صلتهم بالولايات المتحدة، بما في ذلك امتلاك عقارات أمريكية عبر شركات ذات مسؤولية محدودة، يجعل المصارف أحياناً في حالة جهل بهذه المعلومات.
علاقة مُعقدة
في أوائل العام الحالي، بدأ تطبيق قانون جديد سوف يلزم الأشخاص الذين يؤسسون شركة ذات مسؤولية محدودة بالكشف عن المالك المستفيد، غير أنَّ المصارف سوف تحتاج وقتاً حتى تنفذ هذه الإجراءات.
العلاقات بين المصارف وعملائها تعقد الأمور؛ فعندما يكون لدى أحد العملاء حساب كبير، ربما لا يرغب مدير البنك أن يسأل أسئلة أكثر مما ينبغي.
فتح بنك "كريديه سويس" حسابات، بعضها كان يحوي عشرات الملايين من الدولارات، لصالح عملاء من أمريكا الجنوبية يحملون جنسية مزدوجة، غير أنَّ مستندات البنك أخفقت في ذكر أنَّهم من مواطني الولايات المتحدة أيضاً، وفق تقرير نشرته "بلومبرغ نيوز" عن مصادر مطلعة.
الصناديق الأجنبية هي آلية يستخدمها الأفراد في تكديس الأموال خارج الحدود أيضاً. وهذه الصناديق معقدة من حيث هياكلها، ولها أشكال وأنواع كثيرة، غير أنَّها بالأساس تسمح لمواطني الولايات المتحدة أن يخفوا أموالهم تحت إدارة كيان أجنبي. ويبدو أنَّ أفضل موطن لهذه الصناديق يكون في البلاد التي لم تدخل بعد في اتفاقيات تبادل للمعلومات مع الولايات المتحدة.
المثال اللافت على ذلك هو روبرت بروكمان، وهو ملياردير يعمل في مجال البرمجيات بولاية تكساس، وتقول سلطات الولايات المتحدة، إنَّه قام بإخفاء ملياري دولار من دخله منذ عام 2000 حتى 2018 عبر استخدام صناديق أجنبية، وكيانات في "برمودة"، و"نيفيس" في أكبر قضية احتيال ضريبي في تاريخ الولايات المتحدة.
وسائل التهرب
آخر طرق التهرب الضريبي هو استخدام ما يعرف بالواجهة ، وهم من الأقارب، أو عبر أطراف ثالثة أخرى من مواطني بلد آخر، إذ يفتحون الحسابات المصرفية بأسمائهم. كما قال الكثير من دافعي الضرائب الذين استفادوا من فرصة الإفصاح الطوعي التي طرحتها وكالة الإيرادات الداخلية، إنَّهم استخدموا هذه الواجهات الاسمية.
غير أنَّ هذا الأسلوب إذا لم يعترف بانتهاجه دافعو الضرائب، يصعب على وكالة الإيرادات الداخلية أو المصارف اكتشافه، خاصة إذا لم يحدث أي تحويل للأموال إلى الولايات المتحدة، وفق سكوت ميتشيل، محامي الضرائب لدى شركة " كابلين ودرسديل" (Caplin and Drysdale).
في إطار تضييق الولايات المتحدة الخناق على أعمال التهرب الضريبي خارج الحدود، تم تكليف المصارف بمهمة متابعة أي إشارات على أنَّ الحسابات لديها تابعة لدافعي الضرائب من مواطني الولايات المتحدة. ومع ذلك؛ إذا استندنا إلى ما تدل عليه الحالات الأخيرة، فإنَّ بعض هذه المصارف لا ترى هذه الإشارات، أو هي تختار ألا تراها.