بلومبرغ
قد تبدو انتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024 وكأنما هي مباراة إياب مرهقة تجمع بين جو بايدن ودونالد ترمب في مجابهة أخرى ضرورية، رغم أنهما بلغا سن التقاعد، فيما يكون مستقبل العالم الحر معلقاً على النتيجة.
لكن هناك جانباً مختلفاً يصعب شرح هذه الكرّة. إذ لم يعد أبرز مؤيدي ترمب عمالاً غاضبين من ولايات جمهورية الهوى يتجمهرون في حملته الانتخابية فيما يعتمرون قبعات تحمل شعار "لنعد لأميركا عظمتها"، ويلوحون بيافطات تدعو إلى "تجفيف المستنقع". بل بات بعض من أنجح رجال الأعمال في البلاد من جمهوره الداعم، ويعبرون عن مظالمهم عبر الإنترنت، وتقلقهم الهجرة والحرب في أوكرانيا، كما يثيرون شكوكاً حول أداء بايدن وعمره.
إيلون ماسك، ومؤسس شركة ”سيتاديل“ (Citadel) كين غريفين، والمؤسس المشارك ورئيس مجلس إدارة شركة ”أوراكل“ لاري إليسون، من مجموعة تؤيد إما علانية أو بصمت مرشح الحزب الجمهوري الرئاسي، وبذلك احتمال العودة إلى الاضطرابات السياسية التي اتسم بها عهد ترمب.
بعبارة أخرى، فإن بعض من شهدوا نمواً ملائماً في ثرواتهم خلال السنوات القليلة الماضية واستفادوا من استقرار الوضع الراهن، أصبحوا من أعلى الأصوات التي تحاول قلب هذا الوضع رأساً على عقب.
اقرأ أيضاً: نيويورك تنبذ ترمب الذي أحبها
تغيير جذري
قال تشارلز مايرز، رئيس شركة "سيغنوم غلوبال أدفايزرز" والمستشار السياسي الديمقراطي: "يأتي عدد منهم من عالم التقنية، وجزء من نجاحهم يعتمد على إحداث تغيير… إنهم يعتقدون أن بلادنا وسياستنا بحاجة إلى تغيير جذري، وينتشون على الفوضى التي تحيط بذلك".
أصبح صعباً تجاهل الأدلة على ثورة المنتصرين هذه. يستضيف هوارد لوتنيك، رئيس شركة "كانتور فيتزجيرالد" (Cantor Fitzgerald) التنفيذي ومعه مدير صندوق التحوط جون بولسون حملةً لجمع التبرعات لترمب في أبريل، حسبما أوردت "بلومبرغ نيوز".
كما أيد نيلسون بيلتز، المستثمر الناشط المتحمس لشركة "والت ديزني"، ترمب في مقابلة مع صحيفة "فايننشال تايمز". وحتى أن أثرياء من أمثال مطور الفنادق روبرت بيغلو، الذي رفض ترمب في البداية فأصبح أكبر متبرع لحاكم فلوريدا رون ديسانتيس خلال الانتخابات التمهيدية، عكس المسار ليدعم ترشيحه.
قال غريفين، أحد مؤيدي ديسانتيس وحاكمة ولاية كارولينا الجنوبية السابقة نيكي هالي في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، على قناة "سي إن بي سي" في 12 مارس، إنه "بالنسبة للمستثمرين، بشكل عام، فإن إدارة ترمب جيدة لأسواق رأس المال لدينا. إنه يشجع الشعور بأن الحكومة متحالفة معك، وليست معارضة لك“. لكن غريفين لم يعلن صراحةً تأييد ترمب، كما فعل جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لشركة "جيه بي مورجان تشيس آند كو"، الذي وصف ترمب في يناير بأنه "شخصية سياسية مذهلة".
اقرأ أيضاً: دعاوى قضائية تهدد إمبراطورية ترمب التجارية وماله
بوادر دعم
قبل ثماني سنوات، كان صاحب رأس المال الاستثماري بيتر ثيل وحيداً بين قادة التقنية في رهانه على ترمب معاكساً التيار. أما اليوم فتأتي بعض الأصوات الأكثر إثارة للدهشة في تأييدها ترمب من وادي السيليكون، الذي كان معقلاً للتحرر والتساهل الاجتماعي، ومصدراً موثوقاً لدعم ساسة مثل هيلاري كلينتون وباراك أوباما.
جالس إليسون من شركة "أوراكل" ترمب على العشاء في عدة مناسبات حديثاً، وفقاً لتقارير من موقع ”بَك“ الإخباري، لكنه لم يتبرع بعد لحملته الانتخابية. قادة آخرون في قطاع التقنية، بينهم أصحاب رأس المال الاستثماري ديفيد ساكس ومارك أندريسن، ممن لم يدعموا رسمياً أي مرشح، ينتقدون بايدن وسياساته تكراراً عبر شبكة ”إكس“ الاجتماعية المعروفة سابقاً باسم "تويتر".
ثم هنالك ماسك، الذي تحول سياسياً من ديمقراطي أخضر من كاليفورنيا ليصبح ابن تكساس، ويناهض صراحةً الصحوة تجاه قضايا عدم المساواة العرقية والاجتماعية. قال في منشور عبر "إكس" في 6 مارس: "كي لا يكون هنالك أدنى لبس، أنا لا أتبرع بمال لأي من المرشحين لمنصب رئيس الولايات المتحدة". لكنه ينشر مقالات يومية ضد ما يسميه "فيروس العقل المتيقظ" ويتبنى نظرية مؤامرة مفادها أن بايدن يسمح بالهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة لاستحداث كتلة تصويت دائمة لصالح الديمقراطيين، وقد قال في مقابلة في منتصف مارس مع دون ليمون إنه "يميل مبتعداً عن بايدن".
اقرأ أيضاً: الذريعة الأخلاقية للكفّ عن التفاعل مع موقع X لإيلون ماسك
أسباب مادية
أبسط وأسهل تفسير لهذا الرد السلبي مادي. إنهم يتصرفون بناء على خشية بالكاد يخفونها من أن الأغلبية قد تتكالب عليهم لتنتقص من ثرواتهم. في الواقع، لقد هدد بايدن بذلك صراحةً، ففي خطابه عن حالة الاتحاد، دعا لفرض ضريبة مليارديرات بنسبة 25% على أصول أي فرد يزيد صافي ثروته عن 100 مليون دولار، وليس فقط على الدخل السنوي أو المكاسب الرأسمالية.
كما شرح خططاً لرفع ضريبة الشركات، من 21% إلى 28% وإلغاء التخفيضات الضريبية التي جلبها ترمب للأثرياء، قائلاً إنها ضخمت الدين الاتحادي.
كما ترمي خطط بايدن إلى ما هو أبعد من التخفيضات الضريبية، فهو يعمل على إلغاء التحول إلى السياسات المؤيدة لرأس المال والمناهضة للنقابات التي بدأت في عهد رونالد ريغان في الثمانينيات، والتي يعتبرها كثير من الاقتصاديين سبباً لاستفحال عدم المساواة.
زار بايدن اعتصام عمال السيارات المتحدين خلال إضرابهم المرير الذي استمر 46 يوماً في الخريف، ثم أشار إلى رئيس الاتحاد شون فاين خلال خطاب أمام الكونغرس. وقد أعلن الاتحاد حديثاً عن جهد لتنظيم عمال شركة "تسلا" لصناعة السيارات الكهربائية.
كما راجعت إدارة بايدن وحظرت اندماجات واستحواذات، وهو موقف آخر لا يخطب ودّ قادة الأعمال. قالت نيدي هيغدي، مديرة مشروع الحريات الاقتصادية الأميركية: "إنك تسمعهم يشتكون من لينا خان، رئيسة لجنة التجارة الاتحادية، ومن مسؤولي إنفاذ مكافحة الاحتكار". رغم وجود مفارقة في هذا ”فرغم أن هذه الأجندة المؤيدة للمنافسة قد اكتسبت زخماً، إلا أن كثيراً من قضايا مكافحة الاحتكار ضد شركات التقنية الكبرى حُركت في عهد ترمب".
جاذبية الصخب
هذه بعض الأسباب المنطقية التي قد تجعل بعض قادة وول ستريت وقطاع التقنية يشعرون بالارتياح تجاه شاغل منصب الرئاسة السابق، لكن ربما تكون هناك عوامل نفسية أيضاً، إذ تنطوي روحية المعاكسة وإثارة الحنق عبر وسائل التواصل الاجتماعي على إثارة حقيقية بين من يملكون موارد تكفي لشراء وتجربة أي شيء يرغبون به.
قال جيف هاوزر، المدير التنفيذي لمشروع "ريفولفينغ دور" وهي مجموعة تتابع مسيرة اعضاء السلطة التنفيذية: "إنهم يحبون إزعاج الأشخاص الذين يزعجهم أو يغضبهم ترمب".
هناك أيضاً عنصر الانتقام بين مجموعة من الناس الذين، بغض النظر عن مدى ثرائهم، أصبحوا يعتبرون أنفسهم ضحايا. أدى فوز ترمب في 2016 إلى زيادة التدقيق على شركات التقنية داخل واشنطن وخارجها، وأدى إلى إعادة تقييم لا ترحم لماسك وغيره من قادة التقنية. قال هاوزر إن "سقوط قادة التقنية من عين الثقافة الأوسع ساعد في إثارة رد فعلهم الغاضب ضد بايدن والديمقراطيين… إنهم يعتقدون أن ألسنتهم قد لجمت وأن احترامهم قد انتقص".
اقرأ أيضاً: ترمب خيار صناعة النفط والغاز المفضل لرئاسة أميركا
إن كثيراً من هذا الدعم المتزايد لترمب يبدو مشوباً بغضب حقيقي وتوتر واضح بين الأثرياء من جهة ،وبين النخب الأخرى في السياسة والأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام، وهم ينظرون إلى بعضهم بعضاً بازدراء متزايد.
لا يكتفي ماسك وأندريسن وقطب صناديق التحوط بيل أكمان، وهو مغرد صاخب آخر توقع فوزاً سهلاً لترمب، بانتقاد بايدن، بل يهاجمون وسائل الإعلام الرئيسية، التي تميل إلى الإشارة إلى أكاذيب ترمب وتهديداته للديمقراطية، وكذلك الجامعات الكبرى، التي يزعمون أنها تبنت مواقف خطيرة بشأن قضايا تتراوح بين معاداة السامية والتنوع والمساواة والشمول.
وهكذا فإن المليارديرات لا يختلفون كثيراً عن قاعدة ترمب الانتخابية الرئيسية المتمثلة في أسر الطبقة العاملة البيضاء الأقل تعليماً. وتميل المجموعتان إلى رؤية مؤامرة من تدبير نخب منعزلة تسعى لتحرمهما من النفوذ ولمصادرة أموالهما وتبديد الميزة التي تتمتع بها أميركا في الخارج.
إن دعم ترمب، وحتى الدفاع عنه وتمجيد حكمه الذي لا يمكن التنبؤ به وكذلك تورطه في الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021، هو طريقتهم في التعبير عن استيائهم تجاه هذه المؤسسة سواءً أكانت حقيقية أو من نسج خيالهم. ومن ناحية أخرى، فإن مغازلة من قد يكون الرئيس العتيد وحماية مصالحهم الاقتصادية ربما تكون محض تحوط ذكي حقاً.