بلومبرغ
وصلت نحو 200 دولة إلى المرحلة الحاسمة من المفاوضات الشاقة في مؤتمر الأمم المتحدة الـ28 لتغير المناخ (كوب 28) التي تركز على الخطوات التي يتعين أن يتخذها العالم لمكافحة التغير المناخي. ويدور الجدل الأساسي حول ما إذا يجب التخلّص سريعاً من الوقود الأحفوري، أو الاستمرار بحرقه مع استخدام تقنيات قادرة على التخفيف من الانبعاثات.
يعتمد هذا الرهان على تقنية التقاط الكربون وتخزينه، وهي عملية يتم خلالها احتجاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث من المصانع ومحطات الكهرباء ودفنه بعيداً. تستخدم شركات النفط هذه التقنية منذ عقود، إلا أنها كانت في الأغلب تضخ ثاني أكسيد الكربون المحتجز مجدداً إلى الأرض لاستخراج المزيد من الوقود الأحفوري. ولكن اليوم، زاد الاهتمام باستخدام هذه التقنية لخفض كثافة انبعاثات الكربون خلال عمليات إنتاج مواد مثل الأسمنت والصلب، أو حتى من أجل امتصاص ثاني أكسيد الكربون مباشرة من الهواء.
الصين وأميركا تعملان للوصول إلى اتفاق مناخي في "كوب 28"
العبرة في التجربة الأميركية
ترى إيميلي غروبرت، الأستاذة في جامعة "نوتر دام" أن استخدام تقنية التقاط الكربون واحتجازه يستهلك الكثير من الطاقة وعالي التكلفة، مشددة على أنه "إذا لم تكن مُلزماً باستخدامها، فلن تستخدمها".
تعتقد الحكومات أنها قادرة على إحداث الفرق على هذا الصعيد بالذات. فقد تعهدت الاقتصادات العالمية الكبرى في قمة الأمم المتحدة في دبي بمضاعفة جهود التقاط الكربون واحتجازه من خلال تقديم إعانات حكومية لمثل هذه المشاريع. وقد أُعلن حالياً عن مشاريع التقاط الكربون في كلّ القارات المأهولة على الأرض. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو إذا ما سيكون ذلك كافياً من أجل وقف الارتفاع الخطير في حرارة الكوكب؟
تقدّم الولايات المتحدة مثالاً للعبرة، فقد أنفقت الحكومة الفيدرالية مليارات الدولارات على شكل منح وتخفيضات ضريبية لدعم مشاريع التقاط الكربون في معامل الكهرباء والمرافق الصناعية، إلا أن إنجازاتها على هذا الصعيد لا تزال متواضعة. فـ14 فقط من تلك المشاريع لا تزال سارية اليوم، ويرتبط نصفها بأرخص التطبيقات، مثل معالجة الغاز وإنتاج الإيثانول، بحسب قاعدة بينات المنظمة غير الحكومية (Clean Air Task Force).
هل يمكن لتقنية احتجاز الكربون أن تحل مشكلة الانبعاثات؟
وقالت جيسي ستولارك، المديرة التنفيذية لمجموعة "تحالف التقاط الكربون" الأميركية إن توسيع الإعفاءات الضريبية بموجب قانون مكافحة التضخم زاد الاهتمام بالقطاع. ولكن في حين أُعلن عن أكثر من 150 مشروعاً جديداً، إلا أن بناء مثل هذه المشاريع قد يستغرق خمس إلى سبع سنوات، والكثير منها قد لا يتحقق أصلاً على أرض الواقع.
حوافز غير كافية
طوال سنوات، اضطر أي طرف يحاول التسويق لمشروع التقاط كربون في الولايات المتحدة أن يخوض مساراً معقداً ومكلفاً للاستفادة مالياً من الحسومات الضريبية. ومن أجل استقطاب التمويل للمشاريع، من سوق الحسومات الضريبية مثلاً، كان المستثمرون غالباً يتنازلون عن 30% من حقهم بالحسم الضريبي منذ البداية، أي يتخلون عمّا يصل إلى 15$ من أصل الحدّ الأقصى للحسم الضريبي البالغ 50 دولاراً للطنّ في نهاية عام 2018.
رفع قانون مكافحة التضخم الحسم الضريبي إلى 85 دولاراً للطنّ، متيحاً دفع بعض الحسومات نقداً. وعلى الرغم من أنه ما يزال من الصعب جمع رأس المال، إلا أن الوضعية المالية باتت أوضح للمستثمرين والمطوّرين على حدّ سواء.
إنفوغراف: انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تواصل الارتفاع
ويرى المدير الدولي لالتقاط الكربون في (Clean Air Task Force) بن لونغستريث، أن المشكلة الأساسية تتمثل في أن الولايات المتحدة قوّضت سخاءها في مجال التقاط الكربون واحتجازه من خلال اعتمادها نهجاً قائماً حصراً على الحوافز. وقال تعليقاً على التخفيضات الضريبية وغيرها من الحوافز التي تقدمها الحكومة "إن الحوافز قليلة جداً بالنسبة لمعظم تطبيقات التقاط الكربون".
ما تزال الولايات المتحدة في المراحل التجريبية لتنظيم عمليات التقاط الكربون، وقد عرضتها على شكل مقترح يقوم على إلزام وكالة حماية البيئة لبعض محطات الكهرباء العاملة على الغاز الطبيعي بتبني هذه التكنولوجيا بحلول نهاية العقد المقبل. إلا أن هذا الإلزام لن يشمل إلا جزءاً بسيطاً من المحطات العاملة على الغاز، حيث قد يعمد بعض المالكين لإغلاق منشآتهم، أو يحدّون من عملياتهم ببساطة من أجل تجنّب الخضوع لهذا القانون.
معارضة مالكي الأراضي
يواجه المطوّرون عوائق كبرى على صعيد اللوجستي وصعيد التراخيص، في ظلّ نزاعات شديدة يمكن أن تقضي على الخطط المقترحة لخطوط أنابيب جديدة مخصصة لنقل ثاني أكسيد الكربون، إلى جانب آبار حقن تحتجز الغاز تحت الأرض. فقد استغرقت الحكومة الفيدرالية ستّ سنوات قبل موافقتها على أولى هذه الآبار. ولدى وكالة حماية البيئة اليوم قائمة تضمّ نحو 200 بئر تنتظر المراجعة، وعددها يزداد بشكل متواصل.
تأمل بعض الولايات، منها لويزيانا، أن تلعب دوراً رائداً في التحقق من بعض آبار تخزين الكربون المحتملة ضمن حدودها، ما يساعد في التخفيف من مدة الانتظار. ولكن هذه الخطط تضع سلطات الولايات في مواجهة السكان الذين قضوا حياتهم في العيش بالقرب من منشآت بتروكيميائية ويشككون في فعالية الإشراف المحلي كما يتخوفون من مخاطر السكن في جوار أراض يُخزّن فيها ثاني أكسيد الكربون.
يطرح نقص أنابيب النفط مشكلة أكبر، بالأخص بالنسبة لمعامل الإيثانول في منطقة الغرب الأوسط الريفية في الولايات المتحدة التي يمكنها احتجاز الغاز بأسعار منخفضة نسبياً، ولكنها تفتقر إلى ما يكفي من أماكن التخزين تحت الأرض. بالتالي، ستعتمد هذه المنشآت على الأنابيب من أجل نقل الغاز إلى مستوعبات بعيدة عند ساحل الخليج أو أكثر نحو الشمال.
واجهت خطوط أنابيب ثاني أكسيد الكربون في المنطقة معارضة شرسة من قبل ملّاك الأراضي المحليين، ما دفع بإحدى مجموعات المطوّرين لإلغاء مشروع "نافيغيتور هارتلاند غرينواي" (Navigator Heartland Greenway) البالغة قيمته 3.5 مليار دولار في أكتوبر. كما أن التوقعات متشائمة فيما خصّ مشاريع الأنابيب الأخرى التي لا تزال في الانتظار، بحسب جيمس لوسيير، المدير الإداري في المجموعة البحثية "كابيتال ألفا بارتنزر" (Capital Alpha Partners).
وقال لوسيير لعملائه في ملاحظة بحثية توقعت منطقياً عدم بناء أي خطوط أنابيب جديدة لثاني أكسيد الكربون في الولايات المتحدة قبل 2026 إنه "حتى لو بلغت الإعفاءات الضريبية عشرات مليارات الدولارات مقابل تخزين الكربون، فإن ذلك لن يسرّع بناء خطوط الأنابيب".
مشروع نرويجي
بالنسبة للكثير من المعارضين، فإن شبكة البنية التحتية الضخمة اللازمة لدعم التقاط الكربون وتخزينه سبب كاف لعدم السير بالمشروع. وقال ستيفن فيت، كبير المحامين في مركز القانون البيئي الدولي "نحن نتحدث عن بنية تحتية تستغرق عقوداً، وعن أشياء حياتها الاقتصادية المتوقعة طويلة ولديها فترات سداد وتمويل تمتد من سنوات لعقود".
تمتلك الولايات المتحدة بالفعل واحدة من أفضل البيئات المهيئة لالتقاط الكربون وتخزينه، فهي لا تفتقر للمنشآت حيث يمكن التقاط الكربون، كما تضمّ بعض خطوط أنابيب ثاني أكسيد الكربون القائمة فعلاً، وتمتلك مواقع عند اليابسة حيث يمكن امتصاص ثاني أكسيد الكربون في الأعماق تحت الأرض والعديد من العمّال المهرة القادرين على العمل على مثل هذه المشاريع.
ولكن هذا الأمر لا ينطبق على مناطق أخرى، فإحدى أكبر الاستثمارات في التقاط الغاز والتخزين تجري في النرويج. حيث من المتوقع أن يسهم مشروع "أضواء الشمال" المشترك بين "إكينور شل" و"توتال إنرجيز" بالتقاط الانبعاثات من المرافق الصناعية ومحطات الكهرباء. وفي حال سارت الأمور على ما يرام، سيتم تحميل ثاني أكسيد الكربون المسال على متن سفن وإرساله إلى شمالي البلاد، حيث سينقله خطّ أنابيب لطمره عميقاً تحت الأرض.
يسعى "أضواء الشمال" للعثور على عملاء خارج النرويج أيضاً من أجل تغطية تكلفة المشروع، مع وجود خطة لفتح منشأة التخزين أمام أي طرف يبحث عن مكان لتخزين ثاني أكسيد الكربون المحتجز. إلا أن مستوى التنسيق اللازم لإنجاح مثل هذا المشروع بين عدّة دول وشركات على مدى منطقة جغرافية واسعة سيكون معقداً أكثر من أي مشروع في الولايات المتحدة.
التقاط الكربون ليس الأساس
كان العديد من المشاريع الكبرى واجهت عثرات في السابق، فمشروع "غورغون" (Gorgon) في أستراليا بقيادة "شيفرون" المصمّم لاحتجاز الكربون فيما يعالج الغاز الطبيعي لم يتمكّن قطّ من تشغيل أكثر من 70% من سعته منذ بدء العمل عام 2019.
تتصل منشأة "سنتشوري" (Century) وهي أكبر مشروع لالتقاط الكربون واحتجازه في العالم بمنشأة لمعالجة الغاز الطبيعي في تكساس. فالمشروع الذي كانت تملكه يوماً مجموعة "أوكسيدنتال بتروليوم" (Occidental Petroleum Corp) لم يواجه أي عوائق فنية تذكر، ولكنه كان يرتبط اقتصادياً بأسعار الغاز الطبيعي التي انهارت قرابة وقت بدء العمل فيه عام 2010.
يرى موريس بيرنز، رئيس مركز تأثير الطاقة التابع لمجموعة للاستشارات "بوسطن كونسلتينغ" أنه من بين الركائز الخمس الأساسية لخفض الانبعاثات، أي الطاقة الشمسية والرياح والبطاريات والهيدروجين والتقاط الكربون، الثلاثة الأولى هي المدرّة للربح والتي على العالم تحقيق تقدّم سريع فيها. وقال "فيما نحتاج للنظر إلى التقاط الكربون والهيدروجين، إلا أن الإفراط في التركيز عليهما يهدد بتشتيت النظر عن أمور أخرى".