الشرق
"تقنية جديدة كلفتها عالية"، هكذا وصف غالبية الخبراء الذين تحدثت "الشرق" معهم الهيدروجين ودوره في مزيج الطاقة النظيفة.
هذا الغاز ليس جديداً، إذ تم تصنيفه كعنصر متميز للمرة الأولى عام 1766، عندما وصفه الفيزيائي البريطاني هنري كافنديش بـ"الهواء القابل للاشتعال".
منذ ذلك الوقت، بدأ العمل على تطويره واستخدامه بشكل رئيس في الصناعات، مع بعض المحاولات في مجال توليد الطاقة.
اليوم، ينتج العالم ملايين الأطنان من الهيدروجين، وبلغ الطلب عليه نحو 94 مليون طن في عام 2021، وفق تقديرات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، بما يعادل نحو 2.5% من إجمالي الطلب العالمي على الطاقة. هذا الإنتاج دخل في صناعات يصعب فيها التحول إلى الطاقة النظيفة المنتجة من الشمس أو الرياح وحدها، مثل تكرير المنتجات البترولية والتطبيقات الصناعية الثقيلة وغيرها.
أنواع الهيدروجين
ينقسم الهيدروجين إلى عدة أنواع، وفقاً للطريقة التي يتم استخراجه فيها. فالهيدروجين الأخضر يُستخرج من خلال فصل جزيئات الماء اعتماداً على الطاقة المتجددة. أما الهيدروجين الأزرق، فيُستخرج عبر استخدام الغاز الطبيعي حيث يتم احتجاز الكربون الناتج عن العملية، في حين أن الرمادي يشبه الأزرق، ولكن انبعاثات الكربون يتم إطلاقها في الهواء. ويوصف بالرمادي بأنه لا يتوافق كثيراً مع المعايير البيئية، لأن كمية الكربون الناتجة عن العملية تعادل تسعة أمثال كمية الهيدروجين المنتجة.
كلفة الإنتاج
تختلف كلفة الهيدروجين وفقاً لطبيعة الاستخراج. تبلغ كلفة إنتاج الكيلوغرام الواحد من الهيدروجين الرمادي ما بين 0.70 – 2.90 دولار. بينما تبلغ تكلفة إنتاج كيلوغرام الهيدروجين الأزرق بين 1.5 و3.5 دولار. أما الهيدروجين الأخضر، فتكلفة إنتاج الكيلوغرام الواحد منه تتراوح حالياً بين 2 إلى 10 دولارات.
وضمن محاولات تعزيز إنتاجه، يجري العمل على خفض تكلفة إنتاج كيلوغرام الهيدروجين الأخضر إلى ما بين دولار واحد إلى 3 دولارات بحلول 2030.
يقول أنتوني دي باولا، مراسل "بلومبرغ" لشؤون الطاقة، بمقابلة مع "الشرق" في إطار وثائقي بعنوان "الهيدروجين.. طاقة المستقبل؟"، إن هذه مجرد تقديرات لتكلفة الإنتاج لأنها تقنية جديدة، لا تزال في أولى مراحلها، منبهاً إلى أن تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر ستبقى الأعلى لسنوات عدة.
أسامة بشاي، الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لـ"أوراسكوم كونستركشون"، اتفق على حداثة هذه التكنولوجيا، معتبراً في مقابلة مع "الشرق"، أنها صناعة حديثة، ولا تزال التكنولوجيا الخاصة بها تحت الاختبار في كل أنحاء العالم، ما يعني "عدم وجود قدرة على خلق تلك التكنولوجيا بالحجم التجاري".
استثمارات ضخمة
رغم هذه الحداثة، إلا أن الكثير من الدول والمؤسسات ضخّت الكثير من الاستثمارات في هذا القطاع. وحتى الآن، أصدرت 17 حكومة استراتيجيات وخططاً للهيدروجين، وأعلنت أكثر من 20 حكومة أخرى أنها تعمل على تطوير استراتيجياتها الخاصة في هذا المجال.
منظمة "مجلس الهيدروجين" كشفت أن حجم الاستثمارات المعلنة في القطاع بين مايو 2022 ويناير 2023، بلغ 320 مليار دولار، معتبراً أن الحجم المستهدف للاستثمارات بحلول عام 2030 سيصل إلى 500 مليار دولار.
وأشار دي باولا إلى هذا الاهتمام من قِبل المنتجين والحكومات والمستهلكين المحتملين الذين أعلنوا عن مشاريع عديدة. مشيراً إلى أنها "تقنية مكلفة، لكن العمل جارٍ على تطويرها، وما يتطلبه الأمر هو سلسلة كبيرة من الإنتاج والنقل ثم الاستخدام، لضمان أن تكون هذه الاستثمارات مثمرة".
وجهة النظر هذه توسع بها ديفيد إدموندسون، الرئيس التنفيذي لـ"نيوم هيدروجين" في مقابلة مع "الشرق"، قائلاً إن الكلفة تمثل تحدياً حالياً، ولكن ثمة عدة طرق للتغلب على ذلك، كاعتماد أفضل تكنولوجيا متوفرة، والعمل على نطاق واسع للاستفادة من المزايا التي تنجم عن العمل الموسع.
وأشار إلى أن التحدي الأكبر كان دمج توليد الطاقة مع إنتاج الهيدروجين، بدلاً من شراء الطاقة ثم استخدامها لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
لذا، تم تأسيس مشروع "نيوم" الذي يُعتبر أكبر مشروع للهيدروجين في العالم، حيث سيولد من خلاله 4 غيغاواط من الطاقة المتجددة و2.2 غيغاواط من إنتاج الهيدروجين بالكهرباء. وأشار إلى أن هذا التكامل بجانب اعتماد أحدث التقنيات، سيمكّن من "توفير الهيدروجين بسعر تنافسي".
كلفة النقل
الكلفة لا تقتصر حصراً على الاستخراج، بل يلعب النقل دوراً رئيساً في زيادة هذه التكلفة. ويقول مايكل ليبرايك، الرئيس التنفيذي لـ"ليبرايك" للاستشارات ومؤسس "بلومبرغ NEF" في مقابلة مع "الشرق"، إن كلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر "ليست باهظة بل مرتفعة، خصوصاً أننا نقوم بإنتاج كميات محدودة".
وعند توسيع الإنتاج، ستكون كلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر أقل. لكن المشكلة الأساسية تتمثل في نقله واستخدامه، و"هو ما سيكون باهظ الكلفة" بحسب ليبرايك، و"يمكن أن تصل إلى 5 أضعاف كلفة إنتاجه. إذاً، الصعوبة في نقله وأيضاً، عند جانب الطلب، في كيفية استخدامه".
محمد عبد القادر الرمحي، الرئيس التنفيذي لـ"مصدر هيدروجين"، يتفق مع ليبرايك على وجود هذا التحدي، مشيراً إلى أن تطوير الإنتاج يجب أن يترافق مع تطوير في البنية التحتية، وخاصة أنابيب نقل الغاز، لأن نقل الهيدروجين من مكان الإنتاج إلى موانئ استخدامه، يحتاج إلى تحويله لـ"وسيلة ذات كفاءة وذات معايير سلامة لنقله"، منبهاً إلى أن الوسائل التي نستخدمها حالياً "مكلفة وتستهلك الطاقة بشكل كبير".
ليبرايك والرمحي اتفقا على أن أفضل وسيلة الآن لنقل الهيدروجين هي الأنابيب، ولكن ذلك يتطلب قرب أماكن الإنتاج والاستخدام من بعضهما.
الرمحي أشار إلى أن وجود البنية التحتية سيسهم في تسريع وتيرة نقله من أماكن الإنتاج إلى الاستخدام، لافتاً إلى ضرورة وجود البنية التحتية اللازمة في الدول التي تؤهل نفسها لتصبح مصدر للتصدير.
من جهته، فسر ليبرايك أسباب صعوبة نقل الهيدروجين بالطريقة نفسها التي ينقل فيها الغاز المسال. وأوضح أن نقله كسائل يتطلب تجميده على حرارة 20 كلفين (250 درجة مئوية تحت الصفر). وهذا يعني أن استبدال سفينة واحدة من الغاز المسال يتطلب ثلاث سفن محملة بالهيدروجين، نظراً لأن مساحته أكبر. وأثناء الإبحار، يتشبع جزء من الهيدروجين بالحرارة وجزء آخر يتبخّر، ما يعني خسارة 20% من الهيدروجين أثناء النقل بحراً، مع الإشارة إلى أن كلفة تسييله أساساً مرتفعة.
دور مستقبلي
رغم هذه التحديات الجوهرية، إلا أن كل الخبراء اتفقوا على إمكانية أن يكون للهيدروجين وخصوصاً الأخضر، دوراً في مزيج الطاقة النظيفة مستقبلاً، لكن ذلك قد يستغرق بعض الوقت للوصول إلى التكنولوجيا التي تساهم في خفض الكلفة وتحقيق إمكانية النقل الآمن والسهل بين الدول المنتجة والمستهلكة.
وفي هذا الإطار، أشار إدموندسون إلى أن نسبة كبيرة من الوقود المستخدم حول العالم قد تكون من الهيدروجين الأخضر، مشيراً إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لديها ميزة تتمثل في مساحات كبيرة من الأراضي وأشعة شمس قوية، ما يمكّنها من المساهمة بقوة في الإنتاج.
ولكنه لفت إلى أن ذلك سيستغرق وقتاً، ومع مرور الوقت وتطور التقنيات قد يصبح الهيدروجين الأخضر الوقود الأنقى في المستقبل، ولكنه لن يكون الوحيد، متوقعاً أن يشكل حصة الأسد من الوقود بحلول 2050.
أمّا أرتشيلي، فاعتبر أن استخدام الهيدروجين الأخضر في الحياة اليومية أمر قابل للتحقق، وسيتم إنتاجه في المراحل الأولى بشكل محلي، مشيراً إلى أنه ما سيتم تداوله عالمياً في السنوات القليلة الأولى سيكون الأمونيا الخضراء، التي يمكن تحويلها مرة أخرى إلى الهيدروجين الأخضر.
من جهته، توقع فرانشيسكو لا كاميرا، مدير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، في مقابلة مع "الشرق"، أن يكون الهيدروجين أحد مكونات نظام الطاقة الجديد، مقدّراً أن يؤمّن الهيدروجين ما بين 40% إلى 60% من إجمالي استهلاك الطاقة في العالم بحلول عام 2050.