مكانة الدولار تهددها اضطرابات في الولايات المتحدة وخارجها

وضع أميركا المتميز في مركز النظام المالي العالمي يواجه تحديات متزايدة من جانب الحلفاء والأعداء

time reading iconدقائق القراءة - 11
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تحت غمام أمسية خريفية في واشنطن، توقفت سيارة "شيفروليه سوبربان" سوداء أمام قصر قديم مبني من الحجر في الشارع السادس عشر. كانت أعمدة البيت الأبيض تبدو في الأفق على بعد مربع سكني واحد فقط إلى الجنوب. خرج من السيارة رجل يرتدي بزة داكنة وسماعة أذن كان جالساً في المقعد الأمامي ثم فتح باب الراكب بعد أن وضع تحته درجة صغيرة ليسهل الترجل من المركبة.

ترجلت من السيارة رباعية الدفع امرأة بشعر أبيض طولها 160 سنتيمتراً وكان لون ياقة سترتها الأرجواني ملفتاً. ثم دخلت مسرعة إلى فندق "هاي-أدامز" (Hay-Adams) ولحق بها ضابط الخدمة السرية.

كان المبنى، الذي صُمم على طراز عمارة الفنون الجميلة ما يزال قائماً منذ 136 عاماً وسبق أن سكنه سليل أحد آباء البلاد المؤسسين، قد استقبل عدداً من الأدباء مثل مارك توين وعمالقة سياسيين مثل هنري كيسنجر. في ليلة 20 أكتوبر 2021، شهد الفندق تجمعاً خاصاً للترحيب بوزيرة الخزانة الأميركية الجديدة التي كانت جانيت يلين.

كان بين الضيوف وزراء الخزانة السابقين ورئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي ورؤسائه السابقين. يُفترض أن يكون حفل العشاء، وهو تقليد بدأ في الخمسينيات، احتفاليةً بمكانة وزارة الخزانة غير الحزبية. لكن مع تغلغل الانقسام السياسي والفكري في كل مؤسسات واشنطن، لا يوجد ما يضمن أن تلك القاعدة لن تتغير في حفل العشاء التالي.

سياسات مشحونة

أضحت السياسات التي تؤثر على وزارة الخزانة مشحونة بالسياسة، من العقوبات الأميركية على روسيا إلى الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية وحتى أعباء الديون الأميركية المتضخمة. تمثل كل هذه السياسات مخاطر على الدولار الأميركي، المناط بوزارة الخزانة أن تحميه بأي ثمن لكونه من الأصول الوطنية.

قال إسوار براساد، الأستاذ بجامعة كورنيل والزميل الأول في مؤسسة "بروكينغز" (Brookings Institution): "ساهم كل من الارتفاع غير الخاضع لضوابط في الدين الحكومي وخلل صنع السياسات في واشنطن، واستعمال الدولار كسلاح من خلال التوسع في استخدام العقوبات المالية، في بناء تصور بأن هيمنة الدولار الأميركي ينبغي أن تكون مهددة".

الدولار يواصل تراجعه و"وول ستريت" تستبعد مزيداً من الانخفاض

من السابق لأوانه أن نحدد ما إذا كانت مكانة الدولار باعتباره العملة المهيمنة في العالم، مهددة بخطر وشيك، لكن ليس هناك شك أن وضع أميركا المتميز في مركز النظام المالي العالمي يواجه تحديات متزايدة من جانب الحلفاء والأعداء على حد سواء.

لم يُخف منافسون استراتيجيون مثل الصين وروسيا رغبتهم بأن يروا عملاتهم تزيح الدولار في بعض المعاملات الدولية. إن الاتجاه لعكس مسار الدولرة يحظى بدعم أيضاً من بضعة دول تعتبرها واشنطن حليفة، وهي دول تريد تأمين نفسها من احتمال أن تجد نفسها في مرمى عقوبات أميركية يوماً ما.

جنود من ورق

منذ عام 2001، الذي مثّل بداية عهد شهد توسيع الحكومات الأميركية لنطاق استخدام العقوبات الاقتصادية بشكل كبير، تراجعت حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية لدى البنوك المركزية من 73% إلى 59%، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وقد بدأت دول خليجية بتسوية صفقات نفط باليوان الصيني، كما يدرس منتجو سلع أساسية آخرون اتخاذ خطوات مماثلة.

قال تيموثي غايتنر، الذي كان وزيراً للخزانة في عهد أوباما، في مقابلة أجريتها معه لكتابي الجديد "جنود من ورق: كيف غيّر استخدام الدولار كسلاح نظام العالم" (Paper Soldiers: How the Weaponization of the Dollar Changed the World Order): "ما يهم الولايات المتحدة على مدى العقد المقبل أو ما شابه هو مدى مهارتنا في التعامل مع هذا التغير الكبير في القوة النسبية".

الدولار يتجه لأعلى مستوى في 6 أشهر

أضاف غايتنر أن "نفوذ (وزارة الخزانة) يأتي من كفاءة الأشخاص والقرارات التي يتخذونها وسمعتها في النزاهة وفكرة أنها تأخذ في اعتبارها المصالح الأميركية على المدى الأطول، بما يتخطى السياسة إلى حد ما".

لكن مارك سوبيل، المسؤول المخضرم لدى وزارة الخزانة الذي تقاعد بعد أربعة عقود من الخدمة، كان أكثر تشاؤماً، فقد قال إن "الاحتمالات ليست في صالح ممارسة الولايات المتحدة لريادة اقتصادية دولية قوية" على الإطلاق، بسبب السياسات التي توغل في الشعبوية وينتهجها كل من الجمهوريين والديمقراطيين وقد قلصت مكانة أميركا كدولة قائدة في القضايا الاقتصادية الدولية.

عملة تليق بقوة عظمى

تبدأ الانتخابات الرئاسية الأميركية بسياسة اقتصادية منفصلة عن افتراضات الجيل الماضي. لعقود، فضّلت الولايات المتحدة أن تكون عملتها قوية بما يليق بقوة عظمى. سعى وزير الخزانة الأسبق روبرت روبين، الذي ترأس الخزانة في إدارة الرئيس بيل كلينتون، إلى تهدئة أسواق العملات، التي كانت شهدت تقلبات نتيجة تدخلات حكومية على مدى أكثر من عقد، من خلال الإعلان أن الدولار القوي أمر جيد للولايات المتحدة.

الدولار يواصل الهيمنة بدعم من تحسن الاقتصاد الأميركي ونشاط الأسواق

كانت حجته باختصار هي أن المنافع التي شملت تدفق الاستثمارات الأجنبية، التي خفضت تكاليف الاقتراض المحلي وأعطت دفعة للقوة الشرائية للأسر وأنشطة الأعمال، كانت تفوق الأثر السلبي على الصادرات. بدأ روبين أيضاً يحد من تدخلات وزارة الخزانة في أسواق العملات. على مدى العقود التالية، التزم وزراء الخزانة من الإدارات الجمهورية والديمقراطية بالشعار الذي أطلقه روبين.

ساعد الدولار القوي على ازدهار الاقتصاد الأميركي في التسعينيات. بلغ متوسط النمو 3.8% بعد احتساب أثر التضخم خلال عهد كلينتون، مقارنة بـ2.8% خلال عهد سلفيه رونالد ريغان وجورج بوش.

لكن كانت هنالك أيضاً آثار جانبية خبيثة للدولار القوي، إذ ساهم في تجريد قطاع التصنيع الأميركي من قوته، وتزامن ذلك مع صعود الصين. شهدت الولايات الواقعة في منطقة حزام الصدأ إغلاقات مصانع وانهيار بلدات قائمة على عمل الشركات فيما اتجه أصحاب الأعمال إلى مناطق أقل تكلفة.

تحويل مسار السياسات

استغل الرئيس السابق دونالد ترمب المتاعب الاقتصادية في هذا الجانب المهمل من البلاد. تحت شعار حملته "اجعلوا أميركا عظيمة من جديد"، فحوّل مسار السياسات الاقتصادية إلى الداخل، وأطلق موجة تلو أخرى من الرسوم الجمركية، وأعاد التفاوض على اتفاقيات تجارية، وهاجم على "تويتر" أنشطة الأعمال الأميركية التي تحدت دعوته لإعادة الوظائف إلى الولايات المتحدة.

هيمنة الدولار تثير مخاوف التدخل في مختلف الأسواق

بات لدى البلاد فجأة رئيس ووزير خزانة، كان حينها ستيفن ومنوشين، مستعدين لدفع الدولار نحو الانخفاض من خلال تصريحاتهما. ألحّ ترمب مراراً على رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول لخفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو ولكن هدفه يشمل إضعاف الدولار أيضاً. في مرحلة ما، طرح ترمب فكرة تدخُّل وزارة الخزانة في أسواق العملات لدفع قيمة الدولار للانخفاض.

أبقى الرئيس جو بايدن على الرسوم الجمركية، فيما استبدل عبارات مثل "أميركا أولاً" بكلمات تدعم تحويل سلاسل الإمداد إلى دول حليفة، ومقولة "اشتروا المنتجات الأميركية". رغم ذلك، لم يتدخل بايدن في عمل مجلس الاحتياطي الفيدرالي حين رفع أسعار الفائدة نحو 12 مرة تقريباً لكبح التضخم، فساهم ذلك بارتفاع الدولار نحو 15% مقابل عملات رئيسية أخرى خلال رئاسة بايدن حتى الآن.

بغض النظر عمّن سيفوز بولاية ثانية هل هو ترمب أو بايدن، فإن المجموعة التالية من مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية ستكون من دعاة حماية الدولار في وقت تتنامى فيه الضغوط من بكين وحتى برازيليا للابتعاد عن الدولار.

نتيجة واحدة

قال براساد إن ترمب "سيسّرع وتيرة تآكل الإطار المؤسسي الذي ترتكز عليه ثقة المستثمرين الأجانب في الأسواق المالية الأميركية التي تعزز هيمنة الدولار"، وذلك عبر العودة إلى زعزعة عملية صنع السياسات الاقتصادية، فيما يدفع لجوء بايدن "المفرط لاستخدام الأسلحة"، وتحديداً فرض عقوبات على روسيا، حتى الحلفاء بعيداً عن الدولار.

لكن نبوءات انهيار الدولار موجودة منذ عقود. في التسعينيات، كان الين الياباني هو العملة التي تمثل تهديداً، ثم برزت عملة جديدة: اليورو. تساءل المستثمرون والحلفاء في 2008 عما إذا كان الاعتماد على الدولار يستحق العناء بعدما هزت أزمة إسكان أميركية أسواق العالم، كما طرحوا ذات التساؤل مجدداً حين شنّ ترمب حرباً تجارية على الصين في 2018.

الدولار عند أدنى مستوياته منذ يوليو مع تزايد رهانات خفض الفائدة

وقعت إحدى الحلقات الصادمة في صيف 2019 حين بدأ ترمب، وكان حينها رئيساً، يتحدث عن إضعاف الدولار مدفوعاً بإحباط من قوة سعر صرف الدولار وتلاعب الصين بعملتها، وهما أمران اعتبر أنهما مؤذيان للمصنّعين الأميركيين المتضررين. لتحقيق ذلك كان ترمب بحاجة لمسعى مشترك من وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي في بيع الدولار في الأسواق المفتوحة.

إن القول بأن خطوة كهذه مدمرة لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى على مستوى العالم لا يفي الحال حقه، إذ أن الدولار طرف في 90% من معاملات العملات على مستوى العالم، كما أن نحو ثلثي الدَّين الدولي مقوَّم بالدولار. وهو يهيمن على أسواق السلع العالمية، مثل سوق النفط. كل ذلك جعل العالم بأسره تحت رحمة تقلبات سعر هذه العملة وإدارتها، وهنا أراد ترمب التدخل.

تساؤلات حول هيمنة الدولار

أقنع منوشين ترمب بهدوء بألّا يتدخل بالدولار، ولم يغادر الحديث عن التدخُّل جدران المكتب البيضاوي ذلك الصيف. رغم ذلك، فقد كانت هذه الحلقة شرخاً آخر في درع بدأ يبدو أكثر هشاشة.

ظهرت تساؤلات حول استمرار هيمنة الدولار مجدداً في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022. كعقاب لروسيا، أشعلت يلين فتيل ما اعتُبر "الخيار النووي" من خلال العمل معاً مع نظراء أوروبيين لتجميد أصول للبنك المركزي الروسي خارج البلاد قدرها نحو 640 مليار دولار.

الدولار الأميركي يتهيأ للعام الأسوأ منذ 2020

مثّلت الخطوة نقطة تاريخية في استخدام الولايات المتحدة للدولار كسلاح. وبدأ مسؤولون حكوميون حول العالم يضعون الخطط علناً للحد من اعتماد بلدانهم على الدولار.

بغض النظر عمن سيكون وزير الخزانة المقبل الذي سيحمل الدولار القوي توقيعه، فإن دور الولايات المتحدة والدولار الأميركي معها يتغير. كانت هذه إحدى النقاط التي أكد عليها كريستوفر والر، أحد محافظي مجلس الاحتياطي الفيدرالي، في خطاب ألقاه في فبراير وركز فيه على "سيادة الدولار".

رغم أنه يندر أن يتحدث مسؤول رفيع المستوى في الاحتياطي الفيدرالي عن الدولار، قال والر: "إن دور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي يتغير، وعالم المال يتغير دوماً، وأعتقد أنه مهم لصناع السياسات أن يفكروا على الدوام في ما إذا كان دور الدولار سيتغير أيضاً وفي أسباب ذلك".

ربما ستأتي الإجابة حول كيفية التعامل في عهد جديد يعيد فيه الحلفاء والأعداء النظر بالاعتماد على الدولار، وموقف الولايات المتحدة المالي الذي يتطلب مركزاً للدولار أقوى من أي وقت مضى، من ضيف شرف حفل العشاء الترحيبي بوزير الخزانة العتيد.

تصنيفات

قصص قد تهمك