يرى غاري غينسلر، رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، أن انهيار السوق بسبب الذكاء الاصطناعي خطر "لا سبيل إلى تجنبه تقريباً". ومثل مسؤولين آخرين في الهيئات التنظيمية، دعا إلى فرض لوائح جديدة تتعلق بالذكاء الاصطناعي لمنع سيناريوهات مروعة من هذا النوع.
تتسم هذه المخاوف بالمبالغة بصورة كبيرة. صحيح أن الذكاء الاصطناعي ربما يتسبب في انهيار السوق، تماماً كما أسفرت أحداث عديدة -بعضها عشوائي تماماً أو غير متوقع- عن فترات هبوط للسوق. يمكن أخذ كل ذلك بالاعتبار إلا أن الذكاء الاصطناعي ربما يحد من احتمالات الأزمة.
سلوك القطيع
يتمثل أحد تلك المخاوف في أن عدداً محدوداً من النماذج الأساسية للذكاء الاصطناعي قد تدفع المستثمرين إلى اتباع سلوك القطيع، إذ بدأ الكثير منهم يبيعون (أو يشترون) في نفس الوقت لأن نماذجهم أخبرتهم بذلك. لكن عدد النماذج الأساسية ستزداد على الأرجح بمرور الوقت، ولن تتراجع. يمر الذكاء الاصطناعي بحقبة ابتكار هائلة، إذ تأسست شركات ناشئة عديدة وتطور العديد من تكنولوجيات التداول والاستثمار الجديدة. سيهيمن التنوع وليس التطابق.
حوافز أي شركة للتداول ليست في استخدام نفس النموذج الذي يستخدمه الجميع، لأن ذلك ربما يدفعها للبيع عندما تنتاب السوق حالة من الذعر أو للشراء عند أي ارتفاع مؤقت في الأسعار، وهو بالضبط ما لا ينبغي لها أن تفعله. عوضاً عن ذلك، ستحاول أي شركة تداول كبرى تطوير نماذج أفضل من منافسيها. فإذا اكتشفت إحدى الشركات أن منافسيها يستخدمون نموذجاً مشتركاً بطريقة يمكن التنبؤ بها، فسيكون بمقدورها التعرف على نقاط ضعف هذا النموذج والتداول في اتجاه معاكس لتلك الشركات.
كلما مارست الجهات التنظيمية نفوذها وحاولت السيطرة أكثر على السوق، فإنها ترفع تكلفة الامتثال للقوانين وتفرض أعباء قانونية على الشركات. وهذا في صالح الشركات القائمة الأكبر حجماً، سواء بسوق التداول أو تقديم خدمات الذكاء الاصطناعي. بمعنى آخر، ينزع العمل التنظيمي إلى الحد من عدد وتنوع التقنيات والبرامج المستخدمة في السوق عوضاً عن توسيعها. وهذا أحد الأسباب التي تجعل من الجهات التنظيمية غير ملائمة بطريقة مثالية للتصدي لاحتمال وجود مركزية مفرطة.
التحليل الكمي
عندما يتعلق الأمر بـ"وول ستريت"، فإن تقنية الذكاء الاصطناعي، -أو التقنيات الكمية بصفة عامة- ليست جديدة. ومن غير الواضح أن التطورات الأخيرة في النماذج اللغوية الكبيرة ستغير بطريقة جذرية الحالة الأساسية في أسواق الأوراق المالية.
على صعيد كافة التقنيات الكمية في "وول ستريت"، كان تقلب أسعار الأسهم في الأعوام الأخيرة محدوداً. ربما وقعت بعض التقلبات خلال الأعوام الأخيرة جراء وباء كورونا وتداعياته أكثر من كونها جراء تقنيات التداول أو التحليل الكمي.
ربما تسببت تقنيات التحليل الكمي في "انهيار سريع" خلال 2010. رغم ذلك، تُبين تلك الحادثة أيضاً الطبيعة المحدودة ذاتياً لانهيارات السوق ذات الطابع "التقني" الخالص. فقد هبط مؤشر "داو جونز" ألف نقطة تقريباً، لكن الواقعة بأكملها استمرت 36 دقيقة فقط، إذ تدخل مضاربون آخرون للشراء بأسعار منخفضة مؤقتاً. علاوة على ذلك، ربما كان العامل الأولي وراء الانهيار هو تقنيات "التحايل الإلكتروني" لمتداول واحد، حاول خداع السوق للمبالغة في توجيه رد الفعل باتجاه معين. يعد هذا التكتيك غير قانوني بموجب القانون الحالي، كما هو مفترض.
تطور تقني
من الممكن دائماً أن يسفر بعض التطوير المستقبلي في الذكاء الاصطناعي عن تغيرات جذرية بالأسواق وينجم عنه بعض الانهيارات المفاجئة. ورغم ذلك، فإن النقطة الأكثر عمومية تتمثل في أن المشاركين في السوق سيستخدمون تقنيات التحليل الكمي سعياً لاكتشاف تحركات الأسعار المؤقتة أو غير المبررة. لا يعني ذلك أن الذكاء الاصطناعي سيعمل دائماً بطريقة أفضل، ولكن توجد بعض الخصائص الأساسية لتحقيق الاستقرار في الأسواق العامة.
تتمثل أحد الأنباء السارة في أن الذكاء الاصطناعي سيعزز الإنتاجية على الأرجح وبالتالي سيكون مفيداً لأسعار الأسهم. وتنزع الأسواق في موجة صعودها إلى أن تكون أقل تقلباً من موجة الهبوط، وحتى إذا حدثت بعض التقلبات، فقد يجد المستثمرون أنه من الأيسر تحملها لأنهم ربحوا أموالاً.
يعكس الذكاء الاصطناعي -والبرمجيات بصورة عامة- وجود بعض المشكلات مع النموذج الحالي للعملية التنظيمية. صُممت المنظومة الأميركية بصفة أساسية من أجل تنظيم عمل وسطاء محددين بطريقة جيدة. وتنظم لجنة الأوراق المالية والبورصات دور الوسطاء، وينظم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عمل المصارف، وتنظم إدارة الغذاء والدواء أنشطة شركات الأدوية، وهكذا.
جهود تنظيمية
تتفاقم صعوبة العملية التنظيمية جراء الدور النشط المستقل الذي تلعبه البرمجيات على صعيد نتائج السوق. فالبرمجيات لا تكون شفافة فوراً بالنسبة للغرباء عن المجال، أو في بعض الأحيان حتى العاملين فيه. ويصعُب تقييم ما إذا كان برنامج معين سيؤدي دوره بنجاح. فإذا كان هذا هو مصدر القلق، فإن أفضل تعامل هو زيادة متطلبات رأس المال، بحيث تتمتع الجهات الفاعلة بالسوق بمزيد من الحماية في حال ارتكاب أي خطأ.
لا يمكن توقع أن تحدد الجهات التنظيمية إلى أين يتجه الذكاء الاصطناعي، مثلها مثل غالبية الأشخاص. وبالتالي لا يمكن أيضاً توقع تدخلهم الاستباقي باستخدام اللوائح لجعل كل شيء يسير على ما يرام. من الأفضل للغاية التركيز على سبل اتخاذ تدابير صحيحة بصفة عامة لحماية الملاءة المالية للجهات الوسيطة.