بلومبرغ
تدفع المخاطر المتزايدة على إمدادات الغاز الأسعار العالمية إلى الارتفاع، فيما يسيطر الخوف على السوق قبيل أولى بوادر الشتاء.
قفزت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا وآسيا إلى أعلى مستوياتها في 6 شهور هذا الأسبوع، مدفوعة بالحرب بين إسرائيل وحماس، والإضرابات المحتملة بمنشآت التصدير الرئيسية، وتعرض البنية التحتية للخطر، ومنها التسرب الذي حدث في خط أنابيب في بحر البلطيق والمشتبه في تخريبه.
توضح المخاطر المتعددة هشاشة السوق، لا سيما في أوروبا، التي بدأت ثاني شتاء لها دون تدفقات كبيرة من الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب من روسيا، والذي اعتبرت القارة توفره أمراً مفروغاً منه ذات يوم. واصلت عقود الغاز المستقبلية المرجعية في أوروبا صعودها يوم الخميس، مرتفعة بنحو 11%.
النبأ السار هو أن سوق الغاز في وضع أفضل مما كانت عليه خلال الفترة نفسها في العام الماضي، فالمخزون مرتفع، والطلب الصناعي منخفض، وأُضيف العديد من منشآت الاستيراد الجديدة، فضلاً عن ذلك، تشير بعض التوقعات إلى أن أوروبا ستشهد شتاءً دافئاً نسبياً، ما يُفترض أن يخفض احتياجات الغاز.
لكن أزمة الطاقة لم تنتهِ بعد، ويُتوقع أن تضرب موجة برد أوروبا خلال الأيام المقبلة. فأي تلميح لتوقف تدفقات الغاز العالمية قد يحدث هزة تمتد آثارها في السوق، لا سيما مع زيادة استخدام التدفئة في المنازل.
قال آيرا جوزيف، الزميل في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا:" بطريقة ما، خطر وقوع مشكلة ما يفوق واقع أن كل شيء سار على ما يرام بشكل كبير. الخوف من نقص الإمدادات واحتمال ارتفاع الأسعار مرة أخرى هو المسيطر، رغم ارتفاع المخزون وتراجع الطلب".
أسباب رفعت سعر الغاز
هناك توزان دقيق بين العرض والطلب على الغاز العالمي. غزو روسيا لأوكرانيا في العام الماضي قلب السوق رأساً على عقب، وأفضى إلى خفض كبير في التدفقات من موسكو إلى أوروبا، وأجبر القارة على زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال.
ولترسيخ هذا الاعتماد الجديد، أبرمت فرنسا مع قطر اتفاقية طويلة الأجل لتوريد الغاز الطبيعي المسال، لكن لا يتوقع أن تبدأ التسليمات قبل 2026. في الوقت الراهن، ومع فائض ضئيل في السعة التخزينية، فأي حدث يشير إلى خطر على الإمدادات قد يسبب ارتفاع الأسعار.
وقعت خلال الأسبوع الماضي حوادث متعددة أدت إلى ارتفاعات جديدة في الأسعار. فقد قدّمت النقابات العمالية الأسترالية إشعاراً بأن الإضرابات ستبدأ الأسبوع المقبل في منشآت الغاز الطبيعي المسال التابعة لشركة "شيفرون" في أستراليا.
بعدها، اكتُشف تسرب في خط الأنابيب القابع تحت البحر الذي يربط بين فنلندا وإستونيا، وتستعد الدولتان اللتان تتشاركان الحدود مع روسيا للتعامل مع الحادث باعتباره عملاً متعمداً، ما أجج المخاوف حول سلامة البنية التحتية الأوروبية، لا سيما بعد الانفجارات التي وقعت في خطوط أنابيب "نورد ستريم" الممتدة من روسيا إلى ألمانيا.
كما أجبرت الاشتباكات الجارية في إسرائيل وقطاع غزة شركة "شيفرون" على إغلاق حقل غاز بحري ووقف الإمدادات إلى مصر، في خطوة قد تضر بصادرات الغاز الطبيعي المسال من الدولة إلى أوروبا.
التأثير المشترك لهذه الحوادث دفع أسعار الغاز في أوروبا إلى الارتفاع بنحو 40% منذ أواخر الأسبوع الماضي. جرى تداول العقود الآجلة الهولندية تسليم الشهر التالي، المؤشر المرجعي للمنطقة، بارتفاع 10% أثناء التداول يوم الخميس لتبلغ 50.72 يورو للميغاواط/ ساعة في بورصة أمستردام.
قال توبي كوبسون، مدير قطاع الطاقة بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ بشركة "ماريكس" (Marex): "الصراعات العسكرية تثير خوف الأسواق. المتعاملون في السوق يتخذون مراكز استثمارية في الفترة الحالية؛ إذ قد يؤثر توقف الإمدادات في الشرق الأوسط في التدفقات، من حيث عدد الشحنات وحجمها".
شراء عقود الغاز
يتمثل جزء من المشكلة في تزايد عدد الجهات المالية التي تدخل سوق عقود الغاز الآجلة في أوروبا، بعدما أغرتها شدة تقلبه، وأن المنطقة فرضت الأسعار العالمية في العام الماضي. قد يتزاحم متداولو المشتقات على شراء العقود قبل ارتفاع آخر مفاجئ في الأسعار، بحسب كوبسون.
مما لا شك فيه أن هناك عوامل ستساعد في السيطرة على الأسعار؛ منها المخزون الممتلئ في أوروبا وتوقعات الشتاء الدافئ، والطلب الصيني على الغاز الذي لم يتعافَ بشكل كامل، إضافة إلى أن أوروبا ستضيف مزيداً من منشآت استيراد الغاز الطبيعي المسال العائمة خلال هذا الشتاء.
في غضون ذلك، اتضح أن اهتمام المنطقة بالغاز فرصة ذهبية للمصدرين المتنافسين على الفوز بحصة من السوق التي سيطرت عليها شركة "غازبروم" الروسية العملاقة ذات يوم.
سيمتد أجل صفقة الغاز الطبيعي المسال بين فرنسا وقطر لما بعد 2050، أي بعد أهداف الحياد الكربوني للدولة، ما يوضح أهمية أمن الطاقة في الأجندة السياسية.
الولايات المتحدة أكبر مصدر للغاز
تجمع الولايات المتحدة أيضاً الصفقات لتمويل زيادة إنتاجها، فتجاوزت أستراليا وقطر وروسيا لتصبح أكبر مُصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وفقاً لبيانات "بلومبرغ إن إي أف"، وهي مصدر معظم الإمدادات الموجهة إلى أوروبا منذ غزو أوكرانيا في مطلع 2022.
شهدت الشركات التي تضغط لتوسيع مشروعات الغاز الطبيعي المسال أو إنشاء مشروعات جديدة في الولايات المتحدة تزايد الاهتمام بالعقود طويلة الأجل في أعقاب حرب أوكرانيا، وتنافست مع دول أخرى لإبرام صفقات مع المشترين في أوروبا.
الخطر المتجدد على البنية التحتية للغاز في أوروبا قد يدفع المستوردين العالميين إلى تعزيز الحاجة إلى تأمين الإمدادات، ما سيوفر مزيداً من العمل للولايات المتحدة والموردين الآخرين.
أما عن الإمدادات الروسية، فالتجار على أهبة الاستعداد ويراقبون تدفقات الغاز المتبقية المنقولة عبر خط أنابيب يجتاز أوكرانيا ليصل لأوروبا، إلى جانب تسليمات الغاز الطبيعي المسال. فيما قال بعض الساسة إنه لا بد أن تحظر أوروبا واردات الغاز الطبيعي المسال، رغم أن العثور على إمدادات بديلة كافية سيمثل مشكلة، في الفترة الحالية على الأقل.
وقالت ليزلي بالتي-غوزمان، مديرة استخبارات السوق لدى "سينماكس" (SynMax)، وهي شركة لتحليل بيانات الأقمار الصناعية مقرها في هيوستن: "مشهد الطاقة في أوروبا محفوف بالتحديات. التيارات الجيوسياسية الخفية المعاكسة تتزايد، ما يضخم مواطن ضعف تأمين الإمدادات في أوروبا".