طفرة الصين انقضت.. لكن هذا ليس انهياراً

رغم أن تصحيح سوق العقارات مؤلم بلا شك وضروري، فإن الاقتصاد أصبح لديه مصادر جديدة للقوة

time reading iconدقائق القراءة - 17
صورة تعبيرية عن أثر فقاعة القطاع العقاري على اقتصاد الصين - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية عن أثر فقاعة القطاع العقاري على اقتصاد الصين - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

بقلم: Tom Orlik

قطاع العقارات في الصين ينهار فيما تشهد صناعة السيارات الكهربائية فورة مبيعات، لكن عند استيعاب الوضع جيداً، يتضح أن كلا الاتجاهين يصبّان في مصلحة بكين.

صحيح أن فوائد ما يجري لن تظهر من فورها، فعلى المدى القريب، سيكون ثقل الانهيار العقاري هائلاً لدرجة تطغى على أي نقاط إيجابية تنشأ على صعد أخرى. ولكن على المدى البعيد، ستصبح الصين التي خرجت من الفقاعة العقارية غير القابلة للاستدامة نحو تعزيز صناعاتها المتطورة، أقدر على تحقيق النمو.

في حين اعتبر وول ستريت الصين "غير قابلة للاستثمار"، ووصف البيت الأبيض اقتصادها بأنه "قنبلة موقوتة"، فإن ما يجري يؤشر إلى خلاصة واحدة: التشاؤم حيال الصين مبالغ فيه.

تحديات كبرى

قبل المحاججة لصالح التفاؤل الحذر، لا بد من الاقرار بالتحدي الكبير الذي تواجهه الصين. نبدأ من القطاع العقاري ولحظة الإدراك التي تلت أكثر من عقد على الإفراط في الاقتراض والبناء. فقد سجلت مبيعات الشقق والمنازل تراجعاً حاداً (بمستوى أعلى مما تشير إليه البيانات الرسمية)، وسط انكماش في أنشطة البناء. وبحسب تقديرات بلومبرغ إيكونوميكس فإن ديون المطورين العقاريين البالغة نحو 13.6 تريليون يوان (1.9 تريليون دولار) أي ما يوازي نحو 12% من الناتج الإجمالي المحلي الصيني، تحت خطر التخلف عن السداد.

هذه فجوة هائلة جداً، يصعب حتى على بكين أن تسدها، ما سيسبب آلاماً لمالكي المنازل (بسبب انخفاض أسعار عقاراتهم) والمطورين العقاريين (بسبب الخسائر الكبرى التي سيتكبدونها) والمصارف (القروض المعدومة) وحاملي السندات (خفض قيمتها) والحكومات المحلية (تراجع الإيرادات الناجمة عن مبيعات الأراضي).

بذكر ما سبق، لم نحص المشكلات التي تواجهها الصين. فهنالك التخبط في الخروج من سياسة صفر كوفيد، والتضييق على رجال الأعمال وتعليق نشر البيانات حول بطالة الشباب وثقة المستهلك، وكل ذلك فاقم الشعور باتساع الحكم السلطوي والإخفاق الحكومي.

تزيد أزمة الهيكلية السكانية الطين بلّة، حيث يتوقع أن يتراجع عدد السكان في سنّ العمل بمقدار 240 مليوناً خلال العقود الثلاثة المقبلة. يُضاف ذلك إلى العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة التي وضعت عوائق جديدة في وجه وصول الصين إلى أسواق الصادرات وجلب التقنية إليها.

لا عجب إذاً أن تنخفض بشكل حاد توقعات النمو على المديين القصير والمتوسط في الصين.

يجمع الخبراء الاقتصاديون الذين استطلعت بلومبرغ قراءاتهم أن الناتج المحلي الإجمالي في 2023 سيتوسع بنسبة 5.1%، وذلك انخفاض عن التوقعات السابقة التي كانت ترجح نموا بنسبة 5.7%. وإذا ما استثنينا تأثير القاعدة الناجم عن تقييد التوسع في العام الماضي بسبب الإغلاق لمكافحة الوباء، فإن معدل النمو يبدو أقرب إلى 3%.

ستستمر أزمة السكان والعلاقات المشحونة مع الولايات المتحدة وتراجع الثقة بالتزام بكين بالقيام بإصلاحات لعدة سنوات، ما يبرر خفض بلومبرغ إكونوميكس لتوقعاتها حول النمو في الصين لعام 2030 من 4.3% إلى 3.5%، حتى أنه ثمّة توقعات أشد قتامةً.

الاقتراب من نهاية الأزمة

يبدو كل ما ذكرنا بائساً، ولكننا نحن نتحدث عن الصين، الدولة التي سجلت على مرّ الأربعين سنة الماضية معدّل نمو تجاوز الـ9% وأدخلت 61 عضواً جديداً إلى مؤشر بلومبرغ لأصحاب المليارات، وفازت بمقعد في مؤسسات القيادة الدولية، فهل فعلاً هي على شفير الهاوية؟

قد أكون متحيزاً قليلاً نظراً لأنني ألفت كتاباً يحمل عنواناً جريئاً هو "الصين: الفقاعة التي لا تنفقئ" (China: The Bubble That Never Pops) في 2020، مع ذلك اسمحوا لي أن أعرض الأدلة التي تؤيد وجهة نظري المتفائلة.

فلنبدأ من الأجواء القاتمة الناجمة عن انهيار القطاع العقاري، فالنصف المليء من الكأس هو على الشكل التالي: كان التصحيح في السوق العقارية حتمياً، وبينما تقع اللائمة على الحكومة الصينية في سماحها لهذه الفقاعة بالنمو إلى مستويات لا يتصورها عقل، لا بد من الثناء على محاولتها تنفيس هذه الفقاعة بدل أن تدعها تنفجر.

لا شك أن مثل هذا التصحيح في قطاع يمثل 20% من الناتج الإجمالي المحلي سيكون مؤلماً، لكنه لم يؤد حتى الآن إلى ركود اقتصادي ولم يغرق النظام المالي في أزمة شاملة، حتى أننا ربما بتنا أقرب من نهاية النفق. إذ تشير حسابات بلومبرغ إكونوميكس، إلى أن عرض الوحدات السكنية يجب أن ينخفض بنسبة 30% ليصبح منسجماً مع الطلب الأساسي، وبالفعل انخفض معدل البناء بنسبة 18% حتى الآن.

يحصل هذا التصحيح في السوق العقارية بسرعة البرق، مترافقاً مع حوافز حكومية متدرجة ولكنها ثابتة، من خفض معدلات الفائدة إلى خفض قيمة الدفعة الأولى التي يسددها من يشترون عقارات للمرة الأولى، وقد بدأت هذه الخطوات تؤتي ثمارها أخيراً، ما يعني أن نهاية الأزمة باتت قاب قوسين أو أدنى.

في غضون ذلك، تواصل الصين البحث عن موارد جديدة تساعدها على تحقيق النمو، إذ سجلت مبيعات السيارات الكهربائية ارتفاعاً هائلاً، حيث وصل إجمالي المركبات الكهربائية والمركبات الهجينة المباعة في الصين إلى 5.7 مليون مركبة في 2022، أي أكثر من نصف إجمالي المبيعات حول العالم. ويحتمل أن تتمكن الصين من تجاوز اليابان لتصبح أكبر مصدّر للسيارات في العالم في 2023. ومع إحكام الصين قبضتها على سلاسل إمداد الطاقة المتجددة وريادتها في مجال المركبات الكهربائية، فهي تحتل مكانة طليعية في الاقتصاد الأخضر الجديد.

لا انهيار وشيك

كانت شركة "هواوي تكنولوجيز" الصينية المتخصصة بصناعة أجهزة الاتصالات التي فرضت عليها الولايات المتحدة سلسلة عقوبات، كشفت أخيراً عن طرازات هواتف ذكية جديدة تستخدم أشباه موصلات متطورة محلية الصنع، في إشارة إلى أن القيود على التصدير التي فرضتها واشنطن قد تخفق في كبح تقدم الصين التقني.

مهم أيضاً أخذ المسار التاريخي في عين الاعتبار، فبرغم النمو المذهل الذي حققته الصين خلال السنوات الأربعين الماضية، إلا أن هذا النمو لم يسلك مساراً متصاعداً دائماً، بل شارف على الانهيار أربع مرات على الأقل، في 1989 عقب مجزرة ساحة تيانانمن وفي 1998 خلال الأزمة المالية الآسيوية وفي 2008 خلال الأزمة المالية العالمية وأخيراً في 2015 نتيجة الخفض الأخرق لقيمة اليوان.

في كل من هذه المناسبات، سارع محللون غربيون لإعلان دنو النهاية، حتى أن ثمة كتاباً صدر في 2001 بعنوان "انهيار الصين المقبل" (The Coming Collapse of China). وكان يتبين في كل مرة أنهم كانوا على خطأ.

يعاني المحللون الغربيون من حالة واضحة من الانحياز التأكيدي، فهم ينطلقون من فكرة أن النظام الصيني سينهار، ثم يبحثون عن أدلة تؤيد هذه الخلاصة. مثلاً، حين كان أمين عام الحزب الشيوعي السابق هو جينتاو المعروف بتفضيله للإجماع، في سدة السلطة من 2002 إلى 2012، قال أولئك المحللون إن الصين تواجه خطر الركود في غياب قائد قوي، وحين أثبت شي جين بينغ نفسه كرئيس أقوى، تحولوا للحديث عن مخاطر الدكتاتورية.

كذلك، ردد خبراء اقتصاديون على مدى أكثر من عقد أنه على الصين التوقف عن تضخيم الفقاعة العقارية، وترك المطورين العقاريين يتعثرون. وحين بدأت بكين تفعل ذلك، راحوا يحذرون من أن الانهيار أصبح وشيكاً ويتحدثون عن حاجة ملحة لمزيد من التحفيز الاقتصادي.

ربما أبالغ في التفاؤل، فقد تخيب فعلاً تنبؤات كتابي عن الفقاعة العصية مثلما خابت التوقعات المتشائمة لأولئك الذي أنذروا بقرب الانهيار في السابق، لكنني أرى أن الصين ستكسب مجدداً التحدي في وجه المشككين. فحتى قبل انهيار القطاع العقاري، كان واضحاً أن البلاد تتجه نحو مسار نمو أبطأ، ولكن الانهيار العقاري يعني أن هذا التحول حصل أسرع وكان وقعه أكثر إيلاماً.

الجيد في الموضوع أن التصحيح سينتهي سريعاً. وحين يحصل ذلك، ستدخل الصين في مرحلة نمو أبطأ ولكن أكثر استدامة، ففورة مبيعات المركبات الكهربائية من بين أمور أخرى، دليل على ذلك.

ربما لا تكون الصين على وشك الهيمنة على العالم، ولكنها ليست على وشك الانهيار أيضاً. وهذا أمر على الخبراء الاستراتيجيين الاستثماريين والجيوسياسيين أن يبقوه نصب أعينهم.

تصنيفات

قصص قد تهمك