الشرق
لم تمر بضعة أشهر على زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية حيث جرى توقيع اتفاقيات استثمارية بقيمة 50 مليار دولار، حتى أعلنت المملكة عن 50 اتفاقية استثمارية مع الهند.
جاءت هذه الاتفاقيات الجديدة، على هامش مؤتمر الاستثمار السعودي الهندي الذي شارك فيه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في نيودلهي، بعد انتهاء قمة مجموعة العشرين التي انعقدت السبت.
تشي هذه الاتفاقيات، وتلك التي جرت خلال ديسمبر الماضي أثناء زيارة الرئيس شي إلى السعودية، بأن المملكة تمكنت من المحافظة على توازن في علاقاتها الاقتصادية مع أبرز شركائها التجاريين، على مبدأ كشفه وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان في أكتوبر الماضي، مفاده أن "السعودية لا تنحاز إلى جانب"، وتعمل لمصلحة المملكة وشعبها.
تغيّر المعطيات
منذ إعلان الرئيس الصيني عن مبادرة الحزام والطريق في 2013، تغيّرت الكثير من المعطيات السياسية والاقتصادية في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط والعلاقة مع الصين.
فالصين خلال 2013 ليست نفسها الصين اليوم، والشرق الأوسط خلال ذلك العام ليس نفسه أيضاً. وبالتزامن مع زيادة انخراطها في المنطقة خلال هذه السنوات، دخلت بكين في صراع سياسي – اقتصادي مع الولايات المتحدة؛ في حين انخرطت السعودية بقيادة الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بأكبر حملة لتنويع مصادر الدخل، بالتزامن مع زيادة التعاون الاقتصادي والسياسي مع الكثير من الدول الأخرى وعلى رأسها الصين والهند.
رابح - رابح
اللافت في علاقات السعودية الآنية أنها لم تلجأ إلى طرف على حساب طرف آخر، رغم الدعوات الأميركية بشكل رئيسي إلى الابتعاد عن الصين.
ولعل قمة مجموعة العشرين في الهند شكلت خير مثال على ما سبق. فبالإضافة إلى التعاون السعودي الكبير مع الصين، شهدت القمة إطلاق ممر اقتصادي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا؛ والسعودية طرف فيه.
يفترض أن يمر هذا الطريق الجديد من السعودية والإمارات وعُمان، وفقاً لتصريحات صحفية لوزير الاستثمار السعودي خالد الفالح على هامش مؤتمر الاستثمار السعودي الهندي.
الوزير السعودي قال إن المشروع سيوازي "طريق الحرير وطريق التوابل مجتمعين، لما سيقدّمه من ترابط على مستوى البيانات والطاقة والموادّ الخضراء والسلع المعالجة والجاهزة للاستخدام"، بهدف "إعادة التوازن إلى التجارة العالمية".
يشار إلى أن "طريق التوابل" هو طريق تجاري جمع القارات في حضارات العالم القديم، وبدأ من الهند، في حين أن "طريق الحرير" ربط آسيا بداية من الصين، بأوروبا.
اتفاقيات عدة
المشروع لم يكن وحيداً، إذ وقعت السعودية أكثر من 50 اتفاقية مع الهند خلال زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى نيودلهي بعد مشاركته في القمة.
هذه الاتفاقيات تنوعت بين الطاقة والعديد من المجالات الأخرى على غرار الطاقة الخضراء والمتجددة، والتقنية، والاتصالات، والتصنيع، والدفاع، والأغذية، والثقافة، والأفلام. ورغم عدم وجود قيمة نهائية للمشاريع، إلا أن ما تم تحديده، تقترب تكلفته من 3 مليارات دولار، وفقاً لوزير الاستثمار السعودي خالد الفالح، الذي اعتبر أنها "بداية سلسلة من الأخبار السارة".
اقرأ أيضاً: السعودية وأميركا تتفقان على تأسيس ممرات خضراء عابرة للقارات
وزير التجارة والصناعة الهندي شري بيوش غويال قال على هامش المناسبة نفسها في تصريح لوسائل الإعلام، إن البلدين ملتزمان بـ"الاستفادة من كل الفرص التي نراها أمامنا"، منبهاً إلى أن "العائد الديمغرافي الكبير الذي تقدّمه الهند، والفئة الشابة من المجتمع، وأصحاب الطموح البالغ عددهم أكثر من مليار، كلّهم يشكّلون فرصة هائلة يجب على المستثمرين ألّا يفوّتوها".
من جهته، نبّه الفالح إلى أن كل القطاعات في البلدين جاذبة للاستثمار، مشيراً إلى أن السوق السعودية كبيرة الحجم وتمتاز بوجود رؤى طموحة، ولكنها "لا تزال تعاني نقصاً في الخدمات، وتقتضي خطّتنا ونيّتنا بجعل السعودية منصّة تلبّي حاجات المنطقة بكلّ تأكيد"، في حين أن السوق الهندية لديها الديمغرافيا والموقع والرؤية الجاذبة للأعمال.
الشركات الناشئة وريادة الأعمال
لم يغفل البلدان أهمية الشركات الناشئة، خصوصاً في ما يخص الاستفادة من خصائص المجتمعات في البلدين. واتفقت السعودية والهند على التعاون بشأن الشركات الناشئة، لتشجيع رواد الأعمال من البلدين، وتأمين الدعم ورأس المال لهم، بهدف الاستفادة من السوق الضخم في كلا البلدين.
في هذا السياق، اقترحت الهند فتح مكتب في الرياض تابع لوكالة الاستثمار الهندية، كما وجهت دعوة لصندوق الاستثمارات العامة والشركات السعودية لافتتاح مكاتب في مدينة غوجارات المالية التقنية الدولية. وأفاد الوزير الهندي بأنه اتفق مع وزير الاستثمار السعودي على ترجمة المشروعين على أرض الواقع، خلال 6 أشهر.
تحديات
رغم الاتفاقيات والفرص، إلا أن هناك بعض الملفات العالقة بين البلدين، وخصوصاً ما يخص مشروع "أرامكو السعودية" لبناء مصفاة نفط عملاقة ومشروع بتروكيماويات في مدينة راتناجيري في ولاية ماهاراشترا، والذي يحظى باعتراض آلاف المزارعين في المنطقة.
الفالح أشار في هذا الخصوص إلى أن هذه الأزمة "لن توقف شهية الاستثمار السعودي" في النفط والغاز والبتروكيماويات والقطاعات الأخرى، رغم "أننا ننتظر من الحكومة الهندية حل مشكلة الأراضي والشركاء".
في 2018، أعلنت "أرامكو" اتفاقاً مع تحالف شركات هندية مؤلف من "مؤسسة النفط الهندية"، و"هندوستان بتروليوم"، و"بهارات بتروليوم"، لبناء المصفاة والمشروع بقيمة 44 مليار دولار.
ويرفض آلاف المزارعين تسليم الأرض التي يفترض أن يقام عليها المشروع، وتظاهروا ضد قرار الحكومة الاستحواذ على الأراضي. وفكرت الهند في نقل هذا المشروع إلى مكان لا يلقى اعتراض السكان المحليين، أو تقسيم المصفاة إلى عدة منشآت، وفقاً لما نقلته "رويترز" عن مصادرها العام الماضي.
تعزيز المكانة مع السعودية
عززت الهند التي تواجه أزمة حدودية مع الصين تحولت في بعض الأحيان إلى مناوشات مسلحة، من تعاملها مع العالم العربي عموماً، والسعودية على وجه الخصوص.
دخل العديد من الشركات إلى السوق السعودية التي تعد الأكبر عربياً، ففي 2021 كشف سفير الهند لدى السعودية آنذاك أوصاف سعيد في حوار مع "الاقتصادية"، وجود أكثر من 500 شركة هندية في السعودية باستثمارات بلغت 1.5 مليار دولار.
وبعد عامين، أشار سفير الهند لدى السعودية سهيل إعجاز خان في حوار مع "إندبندنت عربية" إلى ارتفاع كبير في هذا العدد، ليزيد عن "2000 شركة هندية تنشط في السعودية".
ومن بين هذه الشركات، "لارسن آند توبرو"، و"تاتا للخدمات الاستشارية"، و"تاتا موتورز"، و"بنك الدولة الهندي"، و"شابورجي بالوني غروب" للانشاءات والعقارات.
باتت بلاد المهراجا ثاني أكبر شريك تجاري للسعودية، في حين تعتبر الرياض رابع أكبر شريك لنيودلهي. وخلال السنة المالية 2023 بلغت قيمة التجارة الثنائية 52.76 مليار دولار، ونمت واردات الهند من الرياض بنسبة 23.47% لتصل إلى 42.03 مليار دولار.
اقرأ أيضاً: ماذا تعني سياسة "السعودية أولاً" للنفط والسُّلطة؟
كما بلغت قيمة الصادرات إلى السعودية 10.72 مليار دولار أميركي مسجلة زيادة بنسبة 22.48%، وشكل إجمالي التجارة مع الرياض 4.53% من إجمالي تجارة الهند في السنة المالية 2022-2023، وفقاً لمقابلة مع السفير الهندي لدى السعودية سهيل إعجاز خان أجرتها "إندبندنت عربية)".
العلاقات مع الصين
رغم الخلافات الصينية-الأميركية والعقوبات التي فرضت على الكثير من الشركات خصوصاً تلك العاملة في مجال صناعة الرقائق وأشباه الموصلات، إلا أن السعودية حافظت على وتيرة العلاقة الاقتصادية مع بكين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين الصين التي تعتبر أكبر دولة مستهلكة للنفط، والسعودية نحو 106 مليارات دولار عام 2022، بنمو نسبته 30% مقارنة بالعام الذي سبقه، وفقاً لهيئة الإحصاء السعودية.
وفي العام الماضي، قام الرئيس الصيني بزيارة تاريخية إلى السعودية وشارك في 3 قمم سعودية وخليجية وعربية، أسست لانطلاقة جديدة في العلاقات مع الرياض ودول المنطقة.
بلغت حصيلة الاتفاقيات الاستثمارية التي وقعت خلال هذه القمم نحو 50 مليار دولار، "تخطت بشكل كبير المجالات التقليدية التي تعودنا عليها في الشراكات بين المملكة العربية السعودية والصين"، وفقاً لما قاله الوزير الفالح آنذاك في تصريح لـ"اقتصاد الشرق".
الطاقة كانت حاضرة بقوة من خلال الطاقة المتجددة تحديداً. لكن أيضاً كانت هناك اتفاقيات في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، في الخدمات الصحية، في تقنيات البناء ومواد البناء الحديثة والمتقدمة، في المعادن والتعدين، وصناعات المواد المتقدمة مثل الألمنيوم.
تحتضن السوق السعودية العديد من الشركات الصينية العاملة في مختلف المجالات بدءاً من الاتصالات على غرار "هواوي"، وصولاً إلى الطاقة الكهربائية على غرار "باور تشاينا نيوكلير إنجنيرينغ" لإنشاءات الطاقة الكهربائية.
"هواوي" تتطلع لنقل مقرها الإقليمي إلى السعودية
وتم تدشين أول مشروعات التعاون السعودي الصيني في مبادرة "الحزام والطريق"، عام 2019، وهو مشروع مصنع شركة "بان آسيا" الصينية للصناعات الأساسية والتحويلية بمدينة جازان جنوب غربي السعودية، وهو باكورة الاستثمار الصيني في هذه المنطقة على وجه التحديد، باستثمار قيمته 1.15 مليار دولار في مرحلته الأولى.
كما يمتد التعاون الثنائي إلى مجالات جديدة مثل الثقافة والتعليم والتكنولوجيا، حيث أعلنت السعودية سابقاً عزمها إرسال عدد كبير من الطلاب إلى الصين للدراسة خلال السنوات المقبلة، كما أدرجت اللغة الصينية في مراحل التعليم المختلفة بالمملكة، في حين بذلت الجامعات الصينية جهودها في تعزيز دراسة اللغة العربية، بحسب وكالة "شينخوا" الصينية.
وكما أفاد تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال"، بأن المملكة تدرس عرضاً صينياً لبناء محطة نووية للاستخدام السلمي.
في هذا السياق، اعتبر وكيل وزارة الاستثمار للعمليات الاستثمارية صالح الخبتي على هامش مشاركته في "معرض الصين الدولي للاستثمار والتجارة"، أن "رؤية المملكة 2030" تتوافق مع مبادرة "الحزام والطريق"، وفقاً لما نقلته "شبكة الصين" الرسمية الأربعاء الماضي.
المسؤول السعودي الذي تخرج من جامعة شيامن التابعة لمقاطعة فوجيان جنوب شرقي الصين، توقع أن تساعد المبادرة في تسريع تنفيذ رؤية المملكة، وأن يتحول البلدان في المستقبل من العلاقات التجارية إلى المزيد من التفاعلات الاستثمارية.
والحال، أن خيار السعودية يقتضي بالحفاظ على مصالحها الرئيسية سواء على الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية، وهذا ما قد يعني الحفاظ على مسافة واحدة من الجميع وخصوصاً في ما يتعلق بالأزمة بين الصين أكبر شركائها التجاريين وثاني اقتصاد في العالم، والولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر شركائها الأمنيين.
الحفاظ على المصالح سياسة واضحة المعالم فرضها ولي العهد السعودي، وكشف عنها في حوار له مع مجلة "أتلانتيك" في مارس 2022، قائلاً: "أعتقد أن أي دولة في العالم لديها مصالح أساسية: اقتصادية، وسياسية، وأمنية، وهذا هو الأساس الرئيس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية لأي دولة. كيف يمكنني دفع عجلة اقتصاد دولتي؟ وكيف يمكنني تعزيز أمنها؟ وكيف يمكنني تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية، للتأكد من أن دولتي آمنة، وللتأكد من أن دولتي تنمو، ولديها المزيد من فرص الاستثمار والتجارة؟".