الشرق
أصبح مصير اتفاق مصر مع "صندوق النقد الدولي" ضبابياً، بعد إرجاء المراجعة الأولى لعدم تنفيذ البلاد المتعطشة للسيولة الدولارية الطلبات التي تم الاتفاق عليها مع الصندوق، وكان أهمها سعر الصرف المرن وتنفيذ برنامج لبيع شركات مملوكة للدولة.
زاد من صعوبة الأمر تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قال فيها، إن سعر الصرف في بلاده أصبح "أمناً قومياً"، وأنه لا يمكن لحكومته الاقتراب منه إذا كان سيؤثر على حياة المصريين، الأمر الذي عقّد المشهد بصورة أكبر وأربك سوق السندات الدولية المصرية، كما الحال بالنسبة للمضاربين على العملة باستخدام عقود الجنيه المصري غير القابلة للتسليم.
تصريحات السيسي الأسبوع الماضي، كانت هي المرة الأولى التي يردّ فيها بشكل مباشر على الضغوط التي تتعرض لها بلاده من صندوق النقد الدولي من أجل "مرونة أكبر لسعر الصرف" دون أن يذكر اسم "صندوق النقد الدولي" في حديثه، لكن الإشارة كانت واضحة.
السيسي الذي يتوقع أن يخوض الانتخابات الرئاسية بعد أشهر قليلة، أكد في حديثه أن بلاده "تتحلى بالمرونة في سعر الصرف، وعندما يؤثر سعر الصرف على حياة المصريين؛ لا يمكن للحكومة تجاهله.. لا نستطيع، حتى لو كان هذا يتعارض مع... انتبهوا، وإلا سيقودكم ذلك إلى أزمة لا يمكن تصورها".
المزيد يبقى مطلوباً
رد صندوق النقد الدولي كان مكرراً، إذ قالت المديرة العامة للصندوق كريستالينا غورغييفا في حوار مع "اقتصاد الشرق"، إن المؤسسة الدولية تخوض نقاشات جيدة جداً مع السلطات المصرية التي تتخذ الخطوات المناسبة.
"هناك خطوات كثيرة صائبة أقدمت مصر على تنفيذها لكنها بحاجة إلى تقييم البيئة العالمية المتغيرة وتحديد طريقة تسمح لها بتعزيز تنافسية اقتصادها"، بحسب غورغييفا.
في ديسمبر الماضي، وافق صندوق النقد الدولي على برنامج مدته 46 شهراً لمصر الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار، على أن يخضع البرنامج لمراجعتين سنوياً حتى منتصف سبتمبر 2026، بإجمالي 8 مراجعات. المراجعة الأولى؛ التي سيصرف على أساسها الشريحة الثانية من القرض، كان يُفترض أن يتم منتصف مارس الماضي، وهو ما لم يحدث حتى الآن، نظراً لتأخر الحكومة بتنفيذ برنامج الطروحات، وعدم اتسام سعر صرف الجنيه بالمرونة اللازمة، ومن المفترض أن تتم تلك المراجعة في سبتمبر المقبل.
استلمت مصر أول دفعة من صندوق النقد الدولي في ديسمبر الماضي بقيمة 347 مليون دولار، ومن المقرر استلام الدفعات الباقية في مارس وسبتمبر من كل عام وتحديداً من 2023 إلى 2026، وهو ما لم يحدث بعد.
أحد الطرق الذي يسمح لمصر بزيادة تنافسيتها، هو تعزيز احتياطيات الدولة من العملات الأجنبية، وفق مديرة صندوق النقد التي أشارت إلى أن الصندوق تحدث مع الحكومة المصرية بهذا الشأن، و"أنا متأكدة من أننا سنحرز تقدماً.. نحن نقترب من إجراء المراجعة ونسعى إلى إنجاز المراجعة الأولى".
ترى غورغييفا أن مع وجود أسعار صرف متعددة، يحصل بعض الناس على امتيازات بينما يُحرم آخرون منها. أضافت: "كما نعلم أن دعم العملة
دون وجود ما يكفي من الاحتياطيات من العملات الأجنبية يؤدي إلى استنزاف هذه الاحتياطيات".
أكدت غورغييفا على ضرورة اتخاذ مصر الإجراءات الضرورية لحماية هذه الاحتياطيات من العملات الأجنبية، مشيرة إلى أن الصندوق سيظل جاهزاً لاستكمال النقاشات مع السلطات المصرية.. "كلّي ثقة بأن تعاوننا سيجعل (السيسي) يتخذ القرار الصائب لصالح البلد".
غموض الوضع الحالي ساهم في تعميق تراجع السندات الدولية المصرية التي هبطت 4% خلال جلستي الخميس والجمعة الماضيين، وأكملت التراجع هذا الأسبوع، لتصل خسائرها منذ بداية العام إلى 20%.
أثر تعويم الجنيه
تصريحات الرئيس السيسي تعكس الأثر السلبي لتعويم الجنيه على التضخم والمستوى المعيشي للمصريين، لذلك يمكن أن تشير إلى توقف مؤقت عن سياسة تعويم الجنيه، وفق دينا عناب محللة المخاطر السيادية في "كابيتال إنتليجنس" في تصريحات لـ"اقتصاد الشرق".
تتوقع عناب تأجيل إجراء المراجعة الأولى للتقييم لحين قيام الحكومة بإجراء الإصلاحات اللازمة مما سيعيق الحكومة المصرية من الحصول على الدفعة الثانية من القرض والبالغة 354 مليون دولار.
"لا يوجد توقيت واضح يشير إلى الإطار الزمني لإجراء المراجعة علماً أن صندوق النقد الدولي أبدى استعداده لإجرائها في الشهر الحالي"، وفق عناب.
عودة السياسات القديمة
إجراء أي تعويم على المدى القصير أصبح مستبعداً، مع توخي البنك المركزي الحذر تجاه التضخم وأسعار السلع والخدمات (الاستراتيجية)، وفق محمد عبد المجيد الخبير الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى "بي إن بي باريبا".
قال عبد المجيد لـ"اقتصاد الشرق" إن البنك المركزي عاد بشكل أساسي إلى السياسة التي كان يتبعها خلال الفترة من 2018 إلى 2020، والمتمثلة في تثبيت سعر الصرف لمحاربة المضاربة وإجبار المضاربين على بيع عقودهم غير القابلة للتسليم على الجنيه المصري.
ارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه بعقود العملة المحلية غير القابلة للتسليم لأجل 12 شهراً بعد تصريحات السيسي لتصل إلى 40.18 جنيه للدولار خلال تداولات الثلاثاء. وجرى تداول العملة المصرية خلال آخر أسبوعين بين 38-39 جنيهاً للدولار بالسوق الموازية، مقارنة مع 30.9 جنيه للدولار في السوق الرسمية.
وعلى الرغم من أن بعض الانخفاض في قيمة الجنيه لا يزال محتملًا، إلا أن هذا يشير إلى أن البنك المركزي قد لا يسمح للعملة بالتحرك كثيراً في الفترة المتبقية من العام، وفق عبد المجيد الذي استبعد اكتمال المراجعة الأولى لصندوق النقد أو الإفراج عن شريحة القرض الثانية المعلقة قبل أواخر شهر يوليو.
مسار غير صحيح
في المقابل، لا يعتقد "دويتشه بنك" أن تخفيض سعر صرف الجنيه هو المسار الصحيح لمصر الآن، لكنه مع ذلك أشار إلى أن "مرونة سعر الصرف تظل محورية بالنسبة إلى برنامج صندوق النقد الدولي وكذلك دعم دول مجلس التعاون الخليجي".
يبدو أن مصر تسير قدماً في عمليات الخصخصة، لذا يتوقع البنك تراجع الضغوط على سعر الصرف خلال الصيف. وقال إن التعويم القادم قد يتم بمجرد المضي قدماً في المراجعة الأولى المتأخرة حالياً لبرنامج صندوق النقد، على افتراض أنه لن يكون هناك تغيير في مطالب المؤسسة الدولية.
تابع: "لا يوجد جدول زمني محدد في هذا الشأن، ولكن يمكن استكمال المراجعة في أواخر الربع الثالث من 2023".
يتوقع البنك أن يستقر سعر الصرف قرب 31 جنيهاً للدولار حتى منتصف العام، وأن يصل إلى 37 جنيهاً للدولار ليعكس التخفيض المتوقع في النصف الثاني من العام الجاري.
حسن الصادي أستاذ اقتصادات التمويل في جامعة القاهرة يرى أنه حتى نهاية الانتخابات الرئاسية المقبلة "لن يكون هناك أي تحريك لسعر الصرف، وكذلك لا أتوقع أي مراجعات للصندوق أو الحصول على شرائح جديدة من القرض".
تفسيرات متباينة
هاني جنينه الخبير الاقتصادي والمحاضر بالجامعة الأميركية في القاهرة، يرى أن تصريحات السيسي "ربما تحمل رسالة ضمنية للمضاربين على الدولار من أجل تهدئة السوق وخفض الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي، التصريحات يمكن فهمها أيضاً بأنه من المحتمل أن يكون هناك خفض للجنيه، لكنه لن يكون بشكل قد يؤثر على الأمن القومي وهي العبارة الشرطية التي استخدمها الرئيس أو يزيد من توقعات التضخم".
عاود التضخم في مدن مصر مساره الصعودي مجدداً في مايو تحت ضغوط رفع الحكومة لأسعار السولار، وشح العملة الصعبة اللازمة للاستيراد، وعودة تكدس البضائع بموانئ أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان، ارتفعت أسعار المستهلكين في مصر إلى 32.7% خلال مايو على أساس سنوي، مقابل 30.6% في أبريل، أما على أساس شهري؛ فقد زادت وتيرة التضخم إلى 2.7% من 1.7% في أبريل.
إلى ذلك، استبعد علي متولي، محلل الاقتصاديات والمخاطر المتخصص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن توقف مصر خفض العملة بشكل نهائي، متوقعاً أن "تسمح الحكومة بتراجع سعر العملة المحلية بين 5 و10% خلال الربع الثالث من العام الجاري لتقليل الفجوة بين السعرين".
حرّرت مصر عملتها المحلية 3 مرات منذ مارس 2022 حتى يناير الماضي، مما دفع سعر الجنيه المصري إلى الانخفاض أمام الدولار بنحو 25% منذ بداية 2023 حتى الآن، وبنحو 50% منذ مارس من العام الماضي مع بداية الأزمة الروسية الأوكرانية.
القطاع الخاص
مسؤول حكومي كبير سابقاً في مصر، قال إن "الصندوق ليس مهتماً بتحرير سعر الصرف بقدر تطبيق مرونة في سعر الصرف، من غير المنطقي أن يظل سعر الصرف ثابتاً أمام الدولار طيلة الأشهر الماضية، الصندوق يريد أيضاً خروج الدولة من الاقتصاد لصالح مساهمة أكبر للقطاع الخاص".
يضع متولي، احتمالين لتحديد توقيت المراجعة، قائلاً إن "الاتفاقية مع الصندوق ستظل كما هي، لكن إذا استمر اشتراط المراجعة بتحرير سعر الصرف أو مرونته، فمعنى ذلك استمرار تأجيلها وأن الوصول للشريحة الثانية سيأخذ وقتاً أكبر".
ويضيف "أما إذا كانت مشروطة بتوفر سيولة دولارية بشكل أو بآخر فإن التعجيل باتفاقيات بيع أصول قد تجعل المراجعة تتم في غضون شهرين".
تسعى الحكومة لتوقيع اتفاقيات مع صناديق سيادية خليجية وجذب مستثمرين خليجيين لشراء حصص في شركات حكومية، فيما تطرح قطاعات قد تكون جاذبة لشهية الاستثمار كالحاويات والاتصالات والفنادق، ومن المفترض أن تجمع الحكومة ملياري دولار بحلول نهاية الشهر الجاري، وفقاً لاتفاقها مع الصندوق.
جنينة يؤكد على أن صندوق النقد الدولي "لن يتخلى عن تحرير سعر الصرف، الصندوق لا يقرض دولة لديها سعران للعملة، كلما سرعت الحكومة بالإجراءات تسارع حصولها على الشريحة الثانية، لكن إذا قررت العدول عن شروط الصندوق، سننتظر لحين إشعار آخر".