بلومبرغ
في ظل تبدد ازدهار قطاع التكنولوجيا الذي تحقق العام الماضي، ما أسفر عن تخفيض ما يقارب 100 ألف وظيفة في الولايات المتحدة الأميركية، ظهرت شركات التكنولوجيا النظيفة وكأنها بقعة مضيئة. ضخ المستثمرون 59 مليار دولار تقريباً في شركات تكنولوجيا المناخ خلال العام الماضي، ما يفوق العام 2021، عبر 1182 صفقة تعقبها باحثون في "بلومبرغ إن إي أف".
يتسبب انهيار مصرف "سيليكون فالي بنك"، الذي بدأت تتضح معالمه عقب عطلة نهاية أسبوع مضطربة، في تشويه هذا المشهد. يعد ذلك أول ظرف غير مواتي ضخم يعترض طريق ازدهار الاستثمار بتكنولوجيا المناخ الذي توجته حوافز قانون خفض التضخم الأميركي الصادر السنة الماضية.
اشتهر "سيليكون فالي بنك" بمسمى مصرف المناخ، حيث أقرض بطريقة هائلة شركات الطاقة المتجددة، وتخصص في تمويل مشروعات الطاقة الشمسية الصغيرة وقدم خدمات لأكثر من 1550 عميلاً ينفذون أعمالاً مرتبطة بالمناخ والاستدامة بحسب سجلات حساباته الخاصة به.
أوضح بول ليزكانو، كبير محللي الطاقة الشمسية في "بلومبرغ إن إي أف" أن "سيليكون فالي بنك" استقبل شركات تطوير الطاقة النظيفة التي تمتلك مشروعات صغيرة بحفاوة لم تحظ بها من قبل المصارف العملاقة التي تتخذ من مانهاتن مقراً لها على غرار "مورغان ستانلي" و"جيه بي مورغان".
أضاف ليزكانو: "كان البنك محظوظاً للغاية بتمويل شركات تضم محافظها قدرة إنتاجية أقل من 100 ميغاواط".
أيام عصيبة على الشركات الناشئة
مع خضوع المصرف للحراسة القضائية الجمعة الماضية والتسبب في أيام قليلة عصيبة للشركات الناشئة التي تبحث عن طريقة لسداد مرتبات موظفيها، يعمل مستثمرو رأس المال الجريء على توفير الدعم وتحركت الجهات التنظيمية لاحتواء الخسائر.
الأحد الماضي، أكدت الجهات التنظيمية الأميركية أنهام ستضمن كافة ودائع "سيليكون فالي بنك". يوم الاثنين، بعث البنك بإشعار للمودعين يبلغهم بإمكانية استئناف المعاملات المحلية، إلا أن خدمات الدفع الدولية بقيت معلقة.
أوضح جوشوا ماي، الشريك المؤسس لشركة "نيو باراديام أنرجي" (New Paradigm Energy) ومقرها في بوسطن، وهي شركة لتقديم حلول الطاقة المتجددة، أن ضمان واشنطن لأموال المودعين أوجد فرقاً شاسعاً بالنسبة للشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا المناخ. أضاف ماي "ربما يكون من المبكر الإعلان عن أن شركات التكنولوجيا الناشئة المتضررة قد خرجت تماماً من الأزمة".
استحوذ "سيليكون فالي بنك" على مكانة كبيرة وسط عالم الشركات الناشئة في شمال كاليفورنيا نظراً لأنه كان مستعداً للعمل مع الشركات المؤسسة حديثاً والتي تعمل على تطبيق أفكار مبتكرة.
أشار توم ستاير، المؤسس المشارك لشركة "غالفينايز كلايمت سوليوشنز" (Galvanize Climate Solutions) الاستثمارية والمرشح الديمقراطي السابق بانتخابات الرئاسة الأميركية: "أغلب المصارف تقوم بأنشطة مصرفية استناداً للأصول أو التدفقات النقدية، وعندما تفكر في شركة ناشئة ما، تمثل فرصة جيدة نظراً لافتقارها لأي منهما، فإنك تدرك سبب ابتعاد بنوك عديدة عنها. لقد اختاروا الشركات الناشئة والعمل معها".
شركات المناخ لن تفلت من الأزمة
العمل مع الشركات غير الراسخة ينطوي على مخاطر. أشار شتاير إلى أن "سيليكون فالي بنك" انهار لأسباب أخرى، موضحاً "لم يكن هذا هو الجانب من أنشطتهم التجارية الذي أودى بهم للسقوط في مشكلات، لكن ما أخفقوا فيه هو أسلوب إدارتهم لميزانيتهم العمومية".
أكد العديد من مؤسسي الشركات والمستثمرين لـ"بلومبرغ غرين" أن من الشركات المرتبطة بالمناخ شركات لن تفلت على الأرجح من تداعيات "سيليكون فالي بنك" دون الإصابة بأذى.
الشركات الناشئة المتخصصة في مجال تكنولوجيا الطاقة النظيفة تعتبر المصرف بمثابة حليف يدرك أهمية مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، وكذلك مجتمع رأس المال الجرئ وطريقة تفكير ريادة الأعمال.
جاء هذا متناقضاً مع طريقة نظرتهم السائدة لمصارف ضخمة بوول ستريت حيث رأوها مريعة، ومن الصعب التفاهم معها كما أنها أقل اهتماماً بودائعهم وإيراداتهم المحدودة نوعاً ما.
قال أمالي دي ألويس، الرئيس التنفيذي لمسرع الأعمال المرتبط بالمناخ غير الربحي "سوباك" (Subak) ويقع مقره في المملكة المتحدة: "عندما نتكلم عن الابتكار المناخي، فإننا في الأغلب ما نتناول أحدث التطورات التجريبية تماماً والتي ببعض الأحيان تحمل أخطاراً كبيرة". يُقصد بذلك الأجهزة والتكنولوجيا المتطورة للغاية التي تحتاج في الغالب لأحجام هائلة من الاستثمار على مدى فترات زمنية طويلة.
تساءل دي الويس قائلاً: "السؤال المطروح هو: إذا لم يكن سيليكون فالي بنك يمثل ذلك الأمر، فماذا سيكون؟.
فجوة تمويل بعد انهيار المصرف
قال إريك أركامبو، المؤسس المشارك في شركة "أستانور فينتشورز" (Astanor Ventures)، التي مولت عدداً من الشركات الناشئة البارزة بمجال تكنولوجيا المناخ، إن سقوط المصرف يخلف فجوة هائلة في النظام البيئي لتمويل تكنولوجيا المناخ.
أضاف: "ستوجد أيضاً قيود بيروقراطية أكثر على هذه الشركات الناشئة، حيث سيتوجب عليها اللجوء إلى تدابير أخرى غير مخصصة لها من بين الخيارات المصرفية".
بدأت بعض التداعيات في الظهور فعلياً. هبطت أسهم شركة "صنرن"، أكبر شركة طاقة شمسية للأغراض السكينة في الولايات المتحدة الأميركية، لأدنى مستوياتها خلال 4 شهور الجمعة الماضية جراء مخاوف متعلقة بانكشافها على استثمارات "سيليكون فالي بنك"، قبل أن تستقر يوم الاثنين الماضي.
رغم ذلك، تدل تجربة "صنرن" أيضاً على أن بعض المصارف قد تكون مستعدة للتدخل لسد الفجوة التي خلفها "سيليكون فالي بنك". صرحت ماري باول، الرئيسة التنفيذية في مقابلة يوم الاثنين الماضي: "حتى بداية من الجمعة الماضي، كانت هناك مؤسسات مالية أخرى كثيرة تتواصل مع شركتك وشركاتنا، ونعتقد أننا نتمتع بموقف جيد".
أوضح جو أوشا، محلل شركة "غوغنهايم" (Guggenheim)، في الأجل القريب القصير، سيؤثر انهيار المصرف على توفير خدمات وحلول لشركات محافظ رأس المال المغامر على الأرجح، ويعني هذا صعود تكاليف رأس المال لأي تسهيلات ائتمانية، وأهم ما يُستنتج أن هذا الانهيار يشكل عاملاً آخر سيضع ضغوطاً تزيد من تكلفة رأس المال.
الأزمة تقوض الابتكار
ذكرت كاتي راي، الرئيس التنفيذي لشركة "ذا إنجين" (The Engine)، وهي شركة رأس مال جرئ يقع مقرها في كامبريدج بولاية ماساتشوستس تعتمد على مصرف "سيليكون فالي بنك" تجارياً، أن إفلاس المصرف يختلف بطريقة هائلة عن موجة إفلاس المصارف أثناء أزمة 2008 المالية. في حين أن المصرف ربما كان يعاني من عجز بالسيولة المالية، فإن قدراً محدوداً من قروضه لقطاع الطاقة النظيفة عرضة لخطر التخلف عن السداد.
أضافت: "تعد هذه الأصول الأساسية جيدة للغاية".
قد يسهم ذلك في جعل هذه المشكلة قصيرة الأمد. تتوقع راي أن يعمل النظام المالي على معالجة مواطن الخلل المتسببة في إفلاس "سيليكون فالي بنك" خلال بضعة شهور.
أكد جيمي فولبراخت، الشريك المؤسس في صندوق تكنولوجيا المناخ "كيكو فينتشورز" (Kiko Ventures) ويقع مقره في لندن، أن ما يثير القلق على المدى البعيد هو أن الأزمة تقوض الابتكار. ربما تنجم عن ذلك مشكلات للتكنولوجيا الخضراء كثيفة رأس المال والخطرة بشدة ولكنها ذات إمكانات ثورية. تابع: "يتمثل السيناريو الكارثي في أن سقوط سيليكون فالي بنك له أثر غير مباشر على توافر رأس المال الجريء، والرغبة في المخاطرة من قبل القطاع المصرفي والمالي عموماً".
رغم انعكاسات انهيار "سيليكون فالي بنك"، يرى مستثمرون كثيرون وشركات أن التكنولوجيا الخضراء أشد قدرة على الصمود أكثر مما قد يبدو عليها. يمكن أن تسهم الإعانات في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، علاوة على أهمية القطاع بالنسبة للحد من الانبعاثات الحرارية، في تجاوز انهيار المصرف، بالإضافة إلى أي تداعيات اقتصادية على نطاق أوسع.
نوهت ماي من "نيو باراديم إنرجي": "يستمر الضخ الهائل للمال الحكومي عن طريق قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة، والاتفاق المهم الذي توصل إليه الاتحاد الأوروبي مؤخراً، في توفير مستوى مقبول من الثقة لشركات رأس المال المغامر لكي تمضي قدماً، حتى مع كل المخاوف من حدوث ركود اقتصادي".
موجة دعم هائلة لشركات المناخ
أشار شون أوسوليفان، الشريك العام الإداري في شركة "إس أو إس في" (SOSV)، وهي شركة عالمية لرأس المال الجرئ والتي تقدم التمويل لـ150 شركة ناشئة تقريباً بمجال تكنولوجيا المناخ، إلى أن هناك موجة هائلة من الدعم المخصص لشركات تكنولوجيا المناخ، ومليارات الدولارات من رأس المال الذي جُمع للمناخ حديثاً بانتظار عملية التخصيص. ويعلم الجميع أن الاستثمار في المناخ لا بد أن يستمر، وذلك من أجل مصلحتنا جميعاً.
في حين كان "سيليكون فالي بنك" مقرضاً كبيراً لقطاع الطاقة النظيفة، توجد حالياً مصارف أكثر على استعداد للقيام بهذا الدور إذ أصبحت مصادر الطاقة المتجددة أكثر ذيوعاً، حسبما ذكر مات بيترسن، الرئيس التنفيذي لشركة "لوس أنجلوس كلينتك إنكويوبتر" (Los Angeles Cleantech Incubator). كما اعتبر انهيار "سيليكون فالي بنك" بمثابة عقبة على الطريق للقطاع سيتم تجاوزها.
قال ستيف سبيرز، الرئيس التنفيذي لشركة "سولستيس باور تكنولوجيز" (Solstice Power Technologies)، وهي شركة إدارة مشروعات للطاقة الشمسية للأغراض المجتمعية ومقرها في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، إن القطاع المصرفي يعترف بطريقة متنامية بالطاقة المتجددة باعتبارها استثماراً جيداً.
أضاف: "توجد مجموعة من مؤسسات التمويل الأخري التي تبحث عن فرصة للاستثمار بقطاع التكنولوجيا النظيفة، وسنشاهد مؤسسات تمويل أخرى تلتحق بهذا المجال".
مصارف بديلة لـ"سيليكون فالي بنك"
يأتي مصرف "فوربرايت بنك" (Forbright Bank)، الذي يمول كافة المشروعات بداية من 40 ألف دولار للطاقة الشمسية السكنية وصولاً لـ100 مليون دولار لحقول الطاقة الشمسية الضخمة، من بين مؤسسات الإقراض التي حققت فعلاً زيادة في الودائع بغضون الأيام القليلة المنصرمة، بحسب مؤسسها جون ديلاني.
رفض عضو الكونغرس الأميركي السابق الكشف عن حجم الأموال الجديدة التي دخلت المصرف الذي يتخذ من ولاية ماريلاند مقراً له.
تابع: "ليس هناك كيان واحد يفرض هيمنته على عمليات التمويل بهذا المجال، ولا أتوقع أن تسفر الأوضاع الراهنة عن إبطاء رأس المال المخصص لإزالة المواد الكربونية من الاقتصاد".
في الوقت الراهن، ينتظر قطاع الطاقة النظيفة معرفة الكيانات التي ستتحرك لتولي دور "سيليكون فالي بنك" بالسوق. أوضحت سييرا بيترسون، الشريك المؤسس في شركة رأس المال الجريء " فوييجر فينتشورز" (Voyager Ventures): "لم نشاهد أي مؤسسة مالية أخرى تطرح نفسها وتقول: سنكون المصرف المفضل لتكنولوجيا المناخ، إلا أنني أعتقد أنها مسألة وقت، فهذه فرصة هائلة توفرها السوق".