بلومبرغ
بينما ينشغل حلفاء أوكرانيا بالجدل في بحث سبل مساعدتها على مواجهة قوات فلاديمير بوتين، هناك مشاكل لم تُحلّ في بقاع أخرى على تخوم دول حلف شمال الأطلسي تتطلب مزيداً من الاهتمام.
لطالما ارتبطت سمعة دول البلقان بالاضطرابات السياسية والقومية، وقد ساءت هذه الأمور في الآونة الأخيرة وتصاعدت التوترات منذ الصيف بعدما أعلنت كوسوفو أن صرب البلاد عليهم حمل بطاقات هوية واعتماد لوحات مركبات تماثل الخاصة بالأغلبية الألبانية.
حتى أن رئيس صربيا ألكسندر فوسيتش أمضى الأيام الأخيرة من ديسمبر يحاول تهدئة الأزمة بعدما قطع سكان شمال كوسوفو الشوارع وتصادموا مع الشرطة.
قد تبدو هذه المشكلة تافهة بنظر الغرباء، لكن حين يسود الانقسام وانعدام الثقة المتبادل قد يستحيل مستصغر الشرر ناراً مستعرة.
قال دبلوماسي في بلغراد، طلب عدم كشف هويته لأنه غير مخول لأن يتحدث علناً، مشاهدة أوروبا تداني صراعاً ثانياً في الأشهر الأخيرة أمر صادم. كما قال دبلوماسي آخر يقيم في بريشتينا عاصمة كوسوفو إن وجود المتاريس يذكّره بانزلاق كرواتيا وصربيا نحو حرب 1990.
سبق أن اتّهم منافسو فوسيتش، الذي يدعمه بوتين، بأنه يؤجج التوتر في كوسوفو. وصف فوسيتش ليالي أواخر ديسمبر بأنها من أصعب ليالي حياته، وقال في مقابلة في مقر إقامته في بلغراد في 17 يناير: "كان ذلك سيقودنا إلى كارثة حقيقية. كنت أخشى ذلك جداً".
جروح قديمة
إن نُذر وقوع خطب أكبر تعتمل أسبابه، تُذكّر بالجروح التي لم تلتئم من صراعات سابقة في أوروبا ولم يكن نكؤها خلال حرب أوكرانيا من قبيل الصدفة. فيما كان الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وروسيا منشغلين، تخطى رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي خطوطاً لم يجرؤ أسلافه على تخطيها خشية التداعيات. كانت صربيا في غضون هذا تسعى للحفاظ على علاقات وترت الحرب مع كل من مع أوروبا وروسيا.
قال زاركو بوهوفسكي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة زغرب: "لقد أضعفت فوسيتش حقيقة أن حليفه القديم بوتين شن حرباً، كما ضَعُفت كوسوفو بسبب ضيق الهامش الذي تركته الحرب في جدول الأعمال الأوروبي… التوترات التي بدأت قبل عدة أشهر أصبحت حالاً قائماً، وهذا مقلق جداً".
تُبدي منطقة البلقان، وهي الركن الأكثر تقلباً في أوروبا منذ العهد العثماني، عديداً من قديم سماتها. ما تزال البوسنة والهرسك مشلولة نظراً لوجود حكومة ثلاثية نشأت عن اتفاقية السلام في 1995، وما يزال حليف بوتين الذي يدير الكيان الصربي يهدد بالانفصال. تعتبر منظمة مراقبة الديمقراطية في واشنطن فريدوم هاوس مونتينيغرو، التي انضمت إلى حلف شمال الأطلسي في 2017، نظاماً هجيناً. أما الألبان فيغادرون بلادهم بأعداد كبيرة مجدداً.
الحفاظ على السلام الهش في كوسوفو أمر معقد. تعتبر صربيا كوسوفو أرضها ومهداً لقوميتها، وهو يشبه نظرة بوتين لأوكرانيا. الاحتكاكات بين الأغلبية الألبانية في كوسوفو ونحو 100 ألف صربي ما يزالون يتركزون في شمال الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.8 مليون نسمة بين مد وجزر منذ الحملة التي قادها الناتو في 1999 وأطاحت بجيش رجل يوغوسلافيا القوي سلوبودان ميلوسيفيتش.
عضوية الاتحاد
وصلت جهود المصالحة إلى طريق مسدود في 2008، حين أعلنت الحكومة في بريشتينا الاستقلال من جانب واحد عن صربيا. كان نصف العالم تقريباً يدعم إنشاء دولة قومية، بما في ذلك الولايات المتحدة وجميع أعضاء الاتحاد الأوروبي باستثناء خمسة، لكن افتقر ذلك لدعم حاسم من صربيا وروسيا والصين.
تهدف كوسوفو وصربيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، وقد أوضحت بروكسل لكلا البلدين أن التقدم نحو ذلك يتوقف على قدرتهما على إصلاح العلاقات، وكان مبعوثيه يضغطون عليهم ليقبلوا اتفاقية سلام جديدة صاغها الاتحاد الأوروبي.
قال خوسيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، في 23 يناير إن التوصل إلى اتفاق هو السبيل الوحيد "لكسر الحلقة المفرغة للأزمة على الأرض وتقليل مخاطر حدوث مزيد من التصعيد".
قال فوسيتش للصحفيين في نفس اليوم إن على صربيا أن تأخذ الأمر على محمل الجد، لكن ذلك لا يبدو وشيكاً. ما يزال هناك حاجة لحوالي 3800 جندي من قوات حلف شمال الأطلسي متمركزين في كوسوفو للحفاظ على سلام يزداد هشاشة، وبيّنت الأحداث الأخيرة ضرورة وجودهم.
قال بوهوفسكي، وهو أكاديمي كرواتي: "يمكن أن يستمر هذا الوضع لسنوات… كل شيء يتوقف على ما إذا كان عدد من السكارى سيحدثون أمراً أسوأ بكثير".
تباين عقليات
يدير هذه الدول قادة من خلفيات سياسية متضاربة للغاية. عزز فوتسيتش، 52 عاماً، وهو وزير إعلام سابق في عهد ميلوسيفيتش، سطوته في صربيا عبر فوز ساحق في الانتخابات العام الماضي. لقد وازن ببراعة المصالح المتناقضة في صربيا، ووضع قدماً على طريق الاتحاد الأوروبي مع إبقاء الباب مفتوحاً لروسيا.
لكن هذا بات أصعب منذ بدأت حرب أوكرانيا. لقد ندد فوسيتش بغزو بوتين، لكنه رفض الانضمام إلى جهود الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات، وحافظت حكومته في بلغراد على العلاقات مع روسيا.
عارض كورتي، 47 عاماً، وهو يساري راديكالي كان في السابق سجيناً سياسياً في صربيا، اتفاق الاتحاد الأوروبي الحالي بين كوسوفو وصربيا منذ 2013. في ولايته الثانية رئيساً للوزراء، جعل كورتي من أولوياته تأكيد سيادة كوسوفو، حتى لو عنى ذلك مزيداً من استعداء الصرب. انتقده زعماء الأحزاب المتنافسة في كوسوفو لإثارة الاحتجاجات واعتبروا أن سياساته يصعب التنبؤ بها.
كان تحركه للضغط بشأن قضية لوحات المركبات وبطاقات الهوية أحدث مثل على ذلك. أقام الصرب المتحدون حواجز في شمال كوسوفو، الذي يحصل على دعم مالي من بلغراد ويستخدم سكانه جوازات سفر صربية، كما يتعاملون بعملتها: الدينار.
توجه فوسيتش إلى راسكا، وهي بلدة صغيرة داخل صربيا شمال مدينة ميتروفيتشا المقسمة في كوسوفو يومي 27 و28 ديسمبر، واستجاب السكان الصرب المحليون لمناشدته لتفكيك جميع الحواجز، رغم أن التوتر ما يزال أسوأ بعشر مرات من المعتاد، كما بيّن في مقابلة في بلغراد بعد بضعة أسابيع.
قال إنه يجب أن يبقى السلام سائداً في المنطقة لأن "أي شيء آخر سيقودنا بالضبط إلى الهاوية".