الشرق
خلال الأعوام القليلة الماضية، تزايد الاهتمام عالمياً وإقليمياً بالتغير المناخي وتبعاته على الشرق الأوسط بشكل خاص، خاصة أنَّ المنطقة من بين أكثر المتأثرين عالمياً بالاحترار والتغيرات المناخية، بحسب دراسات المناخ العالمية التي تفيد أنَّ الشرق الأوسط عُرضة لارتفاع درجات الحرارة بمعدل أسرع مرتين تقريباً من المعدلات المسجلة في بقية مناطق العالم، وهو ما يظهر في توقُّعات ارتفاع درجة الحرارة في دول المنطقة، ومن بينها مصر والسعودية واليونان، بمعدل 5 درجات مئوية بحلول نهاية القرن الحالي.
برغم ذلك؛ فإنَّ التركيز على معالجة تغيرات المناخ عالمياً يفتح الباب لدور قيادي لمنطقة الشرق الأوسط، بحسب شركة "بي دبليو سي الشرق الأوسط"، وذلك عبر الجمع بين المزايا التي توفرها طبيعة المنطقة مع البحث والتمويل المكثف لتحويل المنطقة إلى الريادة في تطوير التقنيات التي تساعد على تحقيق أهداف المناخ العالمية.
مجالات الاستثمار
يلفت يحيى عانوتي، المدير المسؤول عن قطاع الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في شركة "بي دبليو سي الشرق الأوسط"، إلى أنَّ الجهود المبذولة عالمياً لمواجهة التغيرات المناخية "ليست كافية لتحقيق تعهدات الحكومات بخفض انبعاثات الكربون وتصفيرها، كما أنَّه في ظل السياق الاقتصادي العالمي غير المستقر، يبدو أنَّ الاستثمارات التكنولوجية التي يمكن أن توفر حلولاً مناخية جديدة تباطأت عالمياً وإقليمياً". لافتاً إلى أنَّ الأشهر التسعة الأولى من هذا العام شهدت تراجع التمويل الاستثماري للشركات الناشئة بمجال تكنولوجيا المناخ إلى 52 مليار دولار، أي بانخفاض 30% عن الفترة نفسها من 2021.
في المقابل، "تتمتع منطقة الشرق الأوسط بفرصة فريدة للمساعدة في تحويل التيار، من خلال حشد استجابة استثمارية جماعية واسعة النطاق، ولعب دور رائد في تطوير التقنيات التي يمكن أن يكون لها تأثير كبير في المعركة لوقف تغير المناخ عبر 5 مجالات"، كما يوضح عانوتي.
تشمل هذه المجالات: إنتاج الوقود الأخضر مثل الهيدروجين الأخضر والوقود الصناعي، وكذلك إنشاء صناعات خضراء ثقيلة كالفولاذ والألمنيوم والتيتانيوم، فضلاً عن المنتجات التي تركز على المستهلك كالموضة المستدامة، بالإضافة إلى إزالة الكربون من القطاع العمراني عبر الاقتصاد الدائري، عن طريق إعادة تدوير البلاستيك ونفايات البناء واستعادة الطاقة من النفايات، واحتجاز الكربون مباشرة من الهواء، إلى جانب تحويل الطاقة إلى غذاء.
إلى هذه التقنيات الخمس، يمكن للمنطقة أيضاً أن تقود الحلول المستمدة من الطبيعة في المناطق شبه القاحلة، مثل زراعة أشجار "المناغروف"، وقيادة مفهوم الاقتصاد الأزرق خاصة على شواطئ البحر الأحمر.
نقاط قوة المنطقة
يُنوّه عانوتي بأنَّ "المنطقة، لاسيما دول مجلس التعاون الخليجي، في وضع جيد لريادة تقنيات المناخ لعدة أسباب، أولها لأنَّ لديها بالفعل قدرات حالية أو مزايا طبيعية، بما في ذلك وفرة أشعة الشمس التي تسمح بإنتاج طاقة شمسية منخفضة التكلفة للغاية". أما النقطة الثانية؛ فتتمثل في أنَّه في الوقت الذي يمر فيه الاقتصاد العالمي بمرحلة من تباطؤ النمو، يمكن لصناديق الثروة السيادية أن تموّل بشكل كبير ابتكار تكنولوجيا المناخ في المنطقة وخارجها. ووفقاً لتوقُّعات وكالة الطاقة الدولية الأخيرة، يجب أن يتضاعف الاستثمار في الطاقة المتجددة إلى أكثر من 4 تريليونات دولار بحلول نهاية العقد لتلبية أهداف الانبعاثات الصفرية الصافية بحلول عام 2050.
قبل أيام قليلة من بدء مؤتمر المناخ في شرم الشيخ COP27، أعلنت شركة "أرامكو" السعودية عن صندوق استدامة بقيمة 1.5 مليار دولار للاستثمار في التكنولوجيا اللازمة لدعم انتقال الطاقة الخضراء. وبحسب توقُّعات "بي دبليو سي الشرق الأوسط"، تلعب صناديق الثروة السيادية دوراً متزايداً في تطوير الصورة الأكثر اخضراراً للمنطقة، بما يشمل البنية التحتية اللازمة وتمكين النظام البيئي اللازم لاقتصاد أكثر اخضراراً.
نقاط القصور
مع ذلك؛ ما يزال الشرق الأوسط حتى الآن متأخراً إلى حد ما عن قدرته على أن يصبح لاعباً رئيسياً في مجال تكنولوجيا المناخ على المستوى العالمي. وبحسب "بي دبليو سي الشرق الأوسط"؛ ما تزال المبالغ المستثمرة بهذا المجال صغيرة نسبياً مقارنة بالطاقة التقليدية، كما أنَّ نحو 3% فقط من الشركات الناشئة في المنطقة تعمل في مجال تكنولوجيا المناخ.
لكن، وبالمقارنة مع الأنماط العالمية؛ فإنَّ تدفق الاستثمارات في الشرق الأوسط إلى تكنولوجيا المناخ يُعدُّ أكثر تناسباً مع الاحتياجات ذات الأولوية لتقليل الانبعاثات الغازية. على سبيل المثال؛ هذه الاستثمارات تنقسم عالمياً بشكلٍ متساوٍ تقريباً بين قطاع النقل (الذي يولّد 15% فقط من الانبعاثات) وباقي القطاعات التي تولّد 85% من الانبعاثات. بينما تتناسق أنماط الاستثمار في المنطقة بشكلٍ أكبر مع احتياجات تقليل الانبعاثات، حيث يذهب 37% إلى قطاع النقل و63% إلى القطاعات الأخرى.
الاستثمارات الخضراء
تلك التحولات التي يشهدها العالم دفعت أيضاً إلى تحولات سلبية في استثمارات تغيرات المناخ في المنطقة. برغم ذلك؛ ما يزال الاستثمار في تكنولوجيا المناخ مستمراً في تحقيق تقدّم كبير مع نمو شهية الاستثمار الأخضر، إذ هناك 98 شركة ناشئة في مجال تكنولوجيا المناخ في المنطقة تتلقى تمويلاً لمواصلة عملها. ومع صعوبة الحصول على بيانات شاملة؛ فإنَّ تحليل بيانات Pitchbook الخاصة بـ12 دولة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يظهر استثمار 6 مليارات دولار في تكنولوجيا المناخ منذ عام 2013، من بينها 1.6 مليار دولار في النصف الأول من عام 2022 وحده.
ويُنوّه يحيى عانوتي بأنَّ "المنطقة تتمتع بميزة تنافسية في مجموعة من مجالات تكنولوجيا المناخ، ويمكن أن تتولى الريادة العالمية عبر هذه المجالات، لاسيما على صعيد الهيدروجين الأخضر والوقود الاصطناعي، بفضل وصولها إلى الطاقة الشمسية منخفضة التكلفة، والقدرة على الوصول إلى المياه بتكلفة منخفضة، بالإضافة إلى الخبرة الكبيرة في تطوير مشاريع الغاز المعقدة".
استغلال الفرصة
استناداً لرؤية "بي دبليو سي الشرق الأوسط"؛ فإنَّه من أجل أن تصبح دول المنطقة لاعباً رئيسياً في مجال تكنولوجيا المناخ؛ فهي لن تحتاج فحسب إلى الاستثمار في أبحاث الآخرين، بل إلى ريادة التقنيات محلياً، مثل التحليل الكهربائي الفعال من حيث التكلفة والمفاعلات الحيوية والتقاط الكربون من الهواء والعديد من التقنيات الواعدة الأخرى التي يمكن أن تساعد في التخفيف من تغير المناخ.
وفي حين أنَّ تمويل تكنولوجيا المناخ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو جزء من المعادلة، يتطلب النجاح نهجاً شاملاً وموجهاً نحو الرسالة كما يعتمد على نقاط عدة، على رأسها تنسيق الجهود بين صناديق الثروة السيادية والبرامج الحكومية والخطط القومية، بما يشمل شراكات أعمق مع البلدان التي تشترك في الأهداف.
كذلك، يتطلب الأمر التخلص من المخاطر من خلال التعاون الرأسي، حيث سيكون من المهم إنشاء أسواق للابتكارات المحلية، من خلال ربط المستهلكين النهائيين للمنتجات الخضراء مثل شركات الطيران أو شركات الشحن بمورّد الوقود الأخضر وبمبتكري سلسلة التوريد، فضلاً عن مُصنّعي عملية التحليل الكهربائي ومزودي المواد الأولية للكربون، حيثما كان ذلك مناسباً.
ويدعو يحيى عانوتي أيضاً إلى إنشاء صندوق لمنطقة الشرق الأوسط يُخصص لتقنية المناخ، إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى حشد تمويل أكبر بكثير من الجهود الفردية المتباينة.
كما يشير إلى ضرورة جعل تكنولوجيا المناخ أولوية رئيسية للبحث والتطوير، إذ إنَّ هذا من شأنه أن يحفز مجتمعات البحث والابتكار المحلية والعالمية، وبما أنَّ الأمر قد يستغرق سنوات فهذا يعني أنَّهم يحتاجون إلى تمويل طويل الأجل، إضافة إلى إمكانية تمييز المعاهد الأكاديمية والبرامج التعليمية المتعلقة بتقنيات المناخ، مثل الهندسة القائمة على الطبيعة واقتصاد الهيدروجين، لجعلها أولوية.
يختم الشريك الرئيسي المسؤول عن الممارسات البيئية في "بي دبليو سي الشرق الأوسط" بالقول إنَّ إعادة توجيه الاقتصادات المحلية لتصبح أكثر اخضراراً وتطوير القدرات الحيوية لمساعدة العالم على معالجة تغير المناخ لن يكون لهما فوائد اقتصادية فحسب؛ بل يمكن أن يحوّل المنطقة لمركز أخضر جديد للعالم.