أنا شخص متشائم. إن رأيت احتمال حدوث أي أمر سيئ، فإنني أفترض أنه سيحدث. وهذا هو المنظور الذي أنظر من خلاله إلى أزمة الطاقة الأوروبية. قد تحجبني تحيزاتي، لكنني أعتقد انه من الضروري أن نشكك في صحة المزاعم التي تؤكد أن أسوأ مرحلة في أزمة الطاقة قد انتهت.
يتمثل الخبر السار في تراجع أسعار الطاقة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، إذ تراجعت أسعار الغاز الطبيعي إلى نحو 135 يورو (141.14 دولار) لكل ميغاوات-ساعة عن ذروة بلغت 350 يورو في أغسطس. وقد تراجعت أسعار الكهرباء في أوروبا بأكثر من النصف في نفس الفترة. كما تمكنت أوروبا من بناء مخزوناتها من الغاز حتى الحافة، وتراجع استهلاك الطاقة بشكلٍ كبير بفضل خريف أكثر دفئاً هذا العام.
ارتفاع الأسعار
حتى الآن، تُعتبر أسعار الغاز والطاقة مرتفعة للغاية مقارنةً بالمعدلات التي وصلت إليها عبر التاريخ. رغم التراجع الملحوظ الذي شهده، فإن الغاز أصبح اليوم أغلى بسبع مرات مما كان عليه بين 2000 و2020. وتُعتبر أسعار الكهرباء أعلى بـ10 مرات، كما تجدر الإشارة إلى مدى أهمية التأثير التراكمي. لا يتعلق الأمر فقط بمدى ارتفاع أسعار الطاقة، ولكن بالمدة التي تبقى فيها الأسعار مرتفعة. يبدو أن ارتفاع الأسعار سيستمر لمدة طويلة.
لكن مشكلتي الأكبر مع مزاعم أن "الأسوأ قد انتهى" هي أن موسم البرد قد بدأ للتو، إذ بدأ شتاء الأرصاد الجوية في 1 ديسمبر. لكن لن يبدأ الشتاء الفلكي حتى 21 ديسمبر. ما يزال أمام العالم أبرد 100 يوم في السنة. نحن ببساطة لا نعرف هل سيكون فصل الشتاء القادم: هل يأتي طبيعياً أم معتدلاً أم شديد البرودة.
استمع لمن يتوقعون ارتفاع سوق الكهرباء، إذ يقلق الجميع بشأن الضغوط العالية فوق غرينلاند، التي يمكن أن تمنع العواصف الآتية من المحيط الأطلسي، وتدفع الهواء المتجمد من خطوط العرض العالية إلى أوروبا، وتسبب أياماً شديدة البرودة دون هبوب رياح وهذا يروع أسواق الكهرباء، فيما يعتقد آخرون أن التهديد مُبالَغ فيه، ويرون بدلاً من ذلك احتمال حدوث موجة عواصف أطلسية تهبّ على القارة، ما يزيد توليد الرياح ويبقي درجات الحرارة أقرب إلى المتوسط.
تكمن المشكلة في نقص المعروض بأسواق الطاقة، لدرجة أن بضع درجات مئوية فقط، أو مرور بضعة أيام بلا رياح، تستطيع فصل أوروبا، التي تشهد انقطاع التيار الكهربائي، عن امتلاك الطاقة الكافية لتخطي فصل الشتاء. رغم أن الغاز كان رمزاً لأزمة الطاقة منذ قطعت روسيا إمداداتها عن أوروبا، فإنني ما زلت أكثر قلقاً بشأن الكهرباء.
ما يزال هناك خطر كبير من أن يُطلب من المستهلكين تقليل الطلب على الطاقة، وما يزال انقطاع التيار الكهربائي المحلي احتمالاً قوياً، لا سيما في فرنسا وفنلندا وأيرلندا والسويد. في توقعاتها الشتوية، التي صدرت الأسبوع الماضي، قالت الشبكة الأوروبية للكهرباء (ENTSO-E): "الوضع هذا الشتاء حرج ولكن يمكن السيطرة عليه". لا يبدو إذن أن الأسوأ قد انتهى.
الكرملين: روسيا لن تقبل بسقف 60 دولاراً لنفطها
ألمانيا وفرنسا تتفقان على "تبادل الدعم" في إمدادات الطاقة
أزمة الطاقة
قدمت الأسبوع الماضي معاينة لكيفية تطور الأزمة خلال الأشهر المقبلة. في جميع أنحاء أوروبا، توقفت الرياح تقريباً، ما أجبر الشبكات على الاعتماد بقوة أكبر على محطات الطاقة التي تعمل بالغاز، وفي ألمانيا، على الفحم. في الماضي، كان من المرتقب صعود الصناعة النووية الفرنسية، وتصدير الكهرباء للجميع. لكن فرنسا كانت تستورد كثيراً من الطاقة لأن عدداً كبيراً من مفاعلاتها معطل للإصلاحات، ما زاد السوق شدة. نتيجة لذلك ارتفعت أسعار الكهرباء. في منطقة الشمال الأوروبي ارتفع متوسط السعر الأسبوعي إلى 318 يورو لكل ميغاوات في الساعة، وهو ثالث أعلى سعر أسبوعي تسجله على الإطلاق.
مع هبوب قليل من الرياح الباردة، أشعلت ألمانيا محطات الفحم. في بعض الأحيان، الأسبوع الماضي كانت تنتج 40% من الكهرباء منها، محدثة تلوثاً في الهواء بقدر الدول المليئة بالفحم مثل الهند وجنوب إفريقيا. إذا لم يتفاقم الوضع فذلك لأن الطقس لم يكن شديد البرودة بعد.
من الآن فصاعداً فإن السيناريو المخيف هو ما يسميه المتخصصون في مجال الطاقة في ألمانيا "دنكلفلاوته" (Dunkelflaute)، ما يعني حرفياً الركود المظلم، وهي فترة تشهد فيها البلاد غياب الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وارتفاع الطلب على مصادر الطاقة بسبب درجات الحرارة المنخفضة. إذا ضربت حلقة دنكلفلاوته أوروبا -وينذر بعض التجار وخبراء الأرصاد الجوية باحتمال حدوث ذلك خلال هذا الأسبوع أو الأسبوع المقبل- فستقع المنطقة في ورطة. يُرجح أن يطلب مشغلو الشبكة من المستهلكين خفض طلبهم لتجنب انقطاع التيار الكهربائي.
إذا لم يكن هذا مقلقاً بما فيه الكفاية فهناك سببان آخران يزيدان قلقي بشأن أزمة الطاقة في المنطقة.
قلق عارم
الأول هو أن أوروبا أنفقت 700 مليار يورو (والعد مستمر) على الدعم للحفاظ على أسعار التجزئة للطاقة الكهربائية والغاز عند أقل مما تمليه السوق. لقد نجت الأُسَر والشركات الصغيرة إلى حدّ كبير من الأزمة حتى الآن بفضل دعم الحكومات لها وحمايتها من وطأة ارتفاع التكلفة. لكن لا يمكن أن تستمر الإعانات إلى الأبد. الواقع أن الأمر يستحق كل هذا العناء إذا كان يعني هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنه يصبح ديناً رغم ذلك، وهو الدين الذي ستسدده زيادات ضريبية في المستقبل.
أما السبب الآخر فيكمن في أن أسعار الطاقة ما تزال مرتفعة بما يكفي للقضاء على قطاع التصنيع برغم أن الأسعار أقل مما كانت عليه في يوليو وأغسطس.
عندما غزت روسيا أوكرانيا في أواخر فبراير، استعدّ عدد من المسؤولين التنفيذيين لأزمة طاقة تدوم ستة أسابيع. وسرعان ما أدركوا أنها ستستمر ستة أشهر على الأقل. الآن يخشون أن تمتد ست سنوات.
في الأسبوع الماضي، قال توماس شايفر، أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في "فولكس فاجن"، علناً: "هذا ما أثاره عدد كبير من رجال الأعمال وصانعي السياسات الآخرين في القطاع الخاص... عندما يتعلق الأمر بتكلفة الكهرباء والغاز، على وجه الخصوص، فإننا نخسر كثيرا". حذر من أنه ما لم تنخفض الأسعار بسرعة فلن يكون الاستثمار في أوروبا "قابلا للتطبيق عملياً".
الحقيقة هي أن أسعار الطاقة ما تزال مرتفعة للغاية، وتقع القارة الأوروبية تحت رحمة الطقس، وتكلفة الدعم ترتفع بوتيرة غير مستدامة، والشركات تحذر من تراجع القطاع الصناعي. فلتصفوني بالمتشائم، لكن لا يبدو لي أن الأسوأ قد انتهى، لأنه فعلاً لم ينتهِ بعد.