لم يكن الابتكار الذي حول "غوغل" و"فيسبوك" إلى عمالقة صنع أموال هو محرك البحث أو شبكة التواصل الاجتماعي، وإنما مساحة بيع الإعلانات والمحتوى الذي حصلوا عليه مجاناً.
والآن، وفي ظل إثارة التحقيقات التنظيمية في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهم لاحتمالية تفكيك شركات وادي السيليكون، فإنهم يعدلون هذه التركيبة، وتبرم الشركتان صفقات للبدء في الدفع لواحد من المصادر الهامة لهذا المحتوى: المؤسسات الإخبارية، وهذا لن يساعد فحسب في جعلهم يمتثلون لقوانين حقوق النشر الجديدة، وإنما سيعطيهم فرصة لاستعادة ثقة القطاع الإعلامي.
وفي وقت لاحق الشهر الجاري، ستطلق فيسبوك شريط أخبار (الذي يتوافر في الولايات المتحدة منذ 2019) في بريطانيا مع أسماء مثل "غارديان"، و"ايكونوميست"، و"اندبندنت". وفي نفس الوقت، بدأت "غوغل" طرح خدمات "غوغل نيوز شوكيس" (Google News Showcase) التي انطلقت بالفعل في ألمانيا مع 20 صحيفة بما في ذلك صحيفة فرانكفورتر العامة و"دير شبيغل"، و"دي تسايت"، ثم ستتوفر في بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وأستراليا.
وتمثل الخدمتان سابقة هامة حيث ستدفع شركات التكنولوجيا العملاقة للناشرين مقابل ترخيص نشر قصصهم.
وفي السابق، كانت أي إيرادات توجهها الشركتان إلى الناشرين تأتي إما من تمويل خيري -لمرة واحدة لمشروعات إخبارية- أو كحصة من دخل الإعلانات نتيجة نقر المستخدمين على القصة، ولكن لا يقدم ذلك دخلاً كافياً لبناء أعمال إعلامية قابلة للاستمرار.
وتتوقع "برايس ووترهاوس كوبرز" أن تتراجع إيرادات الإعلانات والتوزيع المجمعة لقطاع الصحافة العالمي بأكمله من 108 مليار دولار إلى 86 مليار دولار ما بين 2019 و2024.
بالتأكيد تعد رسوم الترخيص الجديدة هزيلة نسبياً؛ فكبار الناشرين في ألمانيا يحصلون على رسوم ثابتة لا تتجاوز بضع ملايين من اليورو لكل ناشر كل عام من "غوغل" والتي تشكل ما بين 1% إلى 2% من إيراداتهم السنوية. وبالنظر إلى أن محرك البحث العملاق يعلل أكثر من ربع الحركة على مواقعهم، فإن هذه الرسوم نقطة في بحر، وتدفع "فيسبوك" مبالغ مشابهة في بريطانيا.
والميزة بالنسبة للناشرين هي القدرة على بناء علاقة مع القراء الموجودين بالفعل على هذه المنصات لأن هذه المنتجات ستوجههم مباشرة إلى موقع الصحيفة لقراءة القصة، ولكن لم يكن ذلك الحال مع تطبيق "آبل" "نيوز بلس"، أو مواقع "مايكروسوفت" - واللتان كانتا تبقيان القراء على منصاتهما وتحجب البيانات عن الناشرين الذين دفعوا بالفعل لنشر قصصهم.
وتطور "مايكروسوفت" منتج إخباري آخر في "ويندوز" الذي سيستضيف القصص مباشرة، وربما يتمتع الناشرون الذين تجري معهم مفاوضات مبكرة بميزة مساومة أقوى.
وتقوم "غوغل نيوز شوكيس" على ما يعرف بـ"البطاقات" وتركز كل بطاقة على موضوع -مثل الرياضة، أو التمويل، أو كوفيد- وتعرض القصص المختارة من قبل المؤسسات الإخبارية، وفي حال ضغط المستخدم على قصة، فسيتم توجيهه إلى الموقع بدون أن تصادفه صفحة الاشتراكات بفضل رسوم الترخيص التي تدفعها "غوغل"، وبما يليق بالوحدة التابعة لـ"ألفابيت"، فإن العقود تسمح لها باستخدام القصص عبر منتجاتها الأخرى. وسيقوم شريط أخبار "فيسبوك" على نحو مشابه بتوجيه القراء إلى موقع الصحيفة.
شكوك المؤسسات الإخبارية
وتختلف هذه المنتجات عن القصص التي تظهر في خلاصات أخبار "فيسبوك" أو نتائج بحث "غوغل"، فبالتأكيد ستدفع المنصات أكثر مقابل ذلك. ولكن يأمل المديرون التنفيذيون في قطاع الأخبار أن تشكل هذه المجهودات أولى الخطوات تجاه اتفاقات إيرادات دورية أفضل.
ولا يزال هناك الكثير من الشكوك التي تساور المؤسسات الإخبارية نظراً لتعرضها للحرق مراراً وتكراراً في الماضي. وعلى مدار سنوات، شجعت "فيسبوك" الشركات والشخصيات العامة والناشرين على جذب الجمهور عبر صفحات "فيسبوك". وبعدما استثمرت هذه المجموعات وقتاً وأموالاً وجهوداً، غيرت الشركة الواقعة في كاليفورنيا الطريقة التي يظهر بها المحتوى، ما جعل من الصعب للغاية الوصول إلى نفس الجمهور بدون الدفع مقابل ترويج أعمالهم.
وأحد الأسباب التي تشعر بعض الناشرين بالراحة للحصول على رسوم قليلة من شركات التكنولوجيا في الوقت الذي يستطيعون فيه طلب مبالغ أكبر، هو أن المدفوعات الأكبر، ستجعلهم عرضة لضربات سوط شركات وادي السيليكون.
وتؤمن العقود الجديدة دخلاً من "غوغل" و"فيسبوك" على مدار ثلاث سنوات -دهر كامل في عمر قطاع التكنولوجيا القصير. وبقدر ما يتحمس المديرون التنفيذيون في قطاع الأخبار بشأن هذه السابقة، يتعين عليهم التأكد من أن تسفر هذه الصفقات عن نتائج ذات معنى، وخاصة جذب مشتركين جدد.
تتزايد ضغوط مكافحة الاحتكار على "غوغل" و"فيسبوك"، لذا من مصلحتهم أن يساعدوا قطاع الأنباء في تطوير نماذج اقتصادية قابلة للاستمرار، ما قد يخفف بعض الانتقادات الموجهة إليهم نتيجة قلبهم لهذه النماذج رأساً على عقب في الأساس؛ وربما يتجنبون بذلك تنظيمات إضافية. وأيدت "نيوز كورب" المملوكة للملياردير روبرت مردوخ القواعد الجديدة في أستراليا التي تجبر عمالقة التكنولوجيا على مشاركة المزيد من إيرادات الإعلانات الرقمية، ومن المفترض أن يؤدي الدفع مقابل الأنباء إلى تحسين جودة المنصات التي أصبحت مكانا ساخنا للمعلومات المضللة.
ويعد قطاع الأخبار الصحي هاماً للديمقراطية. وبالنسبة لعمالقة التكنولوجيا، ينبغي أن يكون أيضاً مفيداً للأعمال.