بوتين يدفع الاقتصاد الألماني إلى حافة الخطر

time reading iconدقائق القراءة - 9
يتوقف خط أنابيب نورد ستريم بهدف الصيانة المقررة الشهر المقبل  - المصدر: بلومبرغ
يتوقف خط أنابيب نورد ستريم بهدف الصيانة المقررة الشهر المقبل - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

منذ عقود تعمل بعض الأفران الصناعية في ألمانيا، على مدار الساعة ودون انقطاع. فإذا توقفت فجأة، تتصلّب المواد المنصهرة، وينهار النظام.

القلق بشأن هذا النوع من المشكلات، هو الذي يجتاح أكبر اقتصاد في أوروبا، في ظل أزمة الطاقة غير المسبوقة التي يواجهها.

الأمر الذي بدأ كهاجس غامض بشأن انخفاض إمدادات الغاز من روسيا، تحوّل اليوم إلى حقيقة واقعة. فبعد أن خفّض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التدفقات عبر خط الأنابيب الرئيسي إلى أوروبا بنسبة 60%، ناقش الخبراء في إدارة المستشار الألماني أولاف شولتس هذا الأسبوع كل السيناريوهات المحتملة، ولم يؤد أي منها إلى توفير احتياطيات كافية خلال الشتاء.

اقرأ أيضاً: روسيا تُصعّد حرب الطاقة مع أوروبا بالمزيد من خفض الإمدادات

قال كلاوس مولر، رئيس الوكالة الألمانية الاتحادية للشبكات، الجهة تنظيمية المعروفة باسم (BNetzA)، في مقابلة الجمعة مع إذاعة "دويتشلاند فونك": "لقد كانت الحظة مؤلمة.. إذا كان لدينا شتاء شديد البرودة، وكنا مهملين ومتساهلين للغاية مع الغاز، فلن يكون الأمر جميلاً".

تصل المخاطر إلى ما هو أبعد من الركود، وشتاء تتجمد فيه المنازل وتغلق المصانع أبوابها. فعلى مدى عقود، ازدهرت ألمانيا بفضل الغاز الرخيص، وكانت الاستجابة لاحتياجات الاقتصاد المتنامية تتمثل في كثير من الأحيان في إنشاء خط أنابيب جديد إلى روسيا.

اقرأ المزيد: ألمانيا تعلن خطة تحفيز الصناعة لخفض استهلاك الغاز

اليوم، انتهى هذا العصر ، وبدأت الشركات، بما في ذلك "باسف" (BASF) و"فولكس واجن" (Volkswagen)، تتعايش مع الواقع الجديد.

ستكون هناك حلول سريعة – مثل إعادة تشغيل محطات الفحم الملوثة، والتحوّل إلى استخدام الوقود في العمليات الصناعية - لكن القضايا الهيكلية تلوح في الأفق، نظراً لأن التحوّل إلى استخدام طاقة متجددة ميسورة التكلفة، سيستغرق سنوات.

اقرأ أيضاً: عائدات روسيا من الغاز لم تتأثر بتراجع التدفقات

تشوهات دائمة

قد تضطر الشركات التي تصنع المعادن والورق وحتى المواد الغذائية، إلى تقليص عدد مواقع الإنتاج في ألمانيا أو إغلاقها، الأمر الذي سيسرّع الهجرة الجماعية المتواصلة للوظائف من قطاع التصنيع، ويحدثُ ضرراً دائماً في الواقع الاقتصادي للبلاد ككل.

قال ولفغانغ هان، العضو المنتدب لـ"إنرجي كونسلتنغ غروب" (Energy Consulting Group): "ستقوم الشركات بنقل عمليات الإنتاج إلى حيث يوجد خط أنابيب تنافسي، ولن يكون هذا في ألمانيا.. لا يمكنك تصحيح 20 عاماً من الأخطاء السياسة في غضون عامين أو ثلاثة أعوام".

تظهر أحدث الأرقام أن الأمر سيستغرق 115 يوماً للوصول إلى هدف الحكومة المتمثل في ملء احتياطيات الغاز بنسبة 90% بحلول نوفمبر 2022. ويفترض هذا الإطار الزمني أن التدفقات ستظل عند مستواها الحالي، إلا أن هذا الأمر غير مرجح، نظراً لموقف الكرملين العدائي المتزايد تجاه أوروبا، رداً على العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.

تقنين الاستهلاك

في مواجهة هذه التوقعات القاتمة، رفعت ألمانيا – التي ما زالت تعتمد على روسيا في أكثر من ثلث إمداداتها من الغاز- مستوى التهديد لديها إلى ثاني أعلى مرحلة "الإنذار" يوم الخميس. وفي حال اشتداد الضغط، يمكن أن تبدأ ألمانيا في تقنين الإمدادات وتوزيعها بموجب الحصص.

من المرجح أن تواجه البلاد لحظة الحقيقة، الشهر المقبل، عندما يتوقف ​​تدفق الغاز عبر خط أنابيب "نورد ستريم" بسبب عملية الصيانة المقررة. تخشى ألمانيا من أن خط الأنابيب قد لا يعود أبداً إلى العمل بعد ذلك.

قال وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، الخميس في مقابلة مع قناة التلفزيون العامة "زي دي إف": "سأضطر إلى الكذب إذا قلت إنني لا أخشى ذلك".

من جهته، قارن نائب المستشار الألماني بين أزمة الغاز، ودور بنك "ليمان براذرز" في إشعال الأزمة المالية العالمية. فإذا استمر موردو الطاقة في زيادة الخسائر من خلال إجبارهم على تغطية الإمدادات الروسية المفقودة مقابل أسعار مرتفعة، سيبرز خطر حدوث انهيار أوسع.

قالت شركة "يونيبر" (Uniper)، أكبر مستورد للغاز الروسي في ألمانيا، إنها قد تواجه بالفعل صعوبات في الوفاء بعقود التوريد للمرافق والمصنعين المحليين، إذا قامت موسكو بإطالة أمد وقف الغاز أو زيادته.

أزمة أوروبية شاملة

امتدت الأزمة بالفعل إلى ما هو أبعد من ألمانيا، حيث تأثرت 12 دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فيما أصدرت 10 دول إنذاراً مبكراً بموجب لائحة أمن الغاز. سيؤثر الطلب الأوروبي المتزايد على الغاز الطبيعي المسال أيضاً على الدول الفقيرة في كل أنحاء العالم، في الوقت الذي تجد فيه تلك الدول صعوبة في التنافس على الشحنات.

قال الرئيس الإستوني، كاجا كالاس، خلال قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل الجمعة: "نحن قلقون" من أن روسيا ستقطع إمدادات الغاز عن أوروبا.. نحن بحاجة إلى أن نكون مستعدين للحصول على مزيج طاقة مختلف، ومشتريات موحدة للغاز المسال، والقيام بذلك معاً".

السيناريوهات التي قدمتها الوكالة الألمانية الاتحادية للشبكات، والتي ستدير بموجبها تقنين الغاز في ألمانيا، تأخذ في الاعتبار سلسلة من تدابير الطوارئ، بما في ذلك محطتان عائمتان للغاز الطبيعي المسال ستدخلان الخدمة في فصل الشتاء، ومزادات للوقود الفائض للصناعة، وإقرار برنامج حكومي بتكلفة 15 مليار يورو ( 15.8 مليار دولار) لشراء الغاز من خلال السوق الفورية.

قال سيباستيان بليشك، رئيس اتحاد مشغلي أنظمة تخزين الغاز في ألمانيا "آي إن إي إس" (INES) :"يجب ملء مواقع التخزين في ألمانيا بأسرع وقت ممكن.. بالنسبة إلى بعض المواقع، قد لا تتاح هذه الفرصة مرة أخرى".

استحالة وقف الإنتاج

توضح شركة "ويغاند غلاس" لصناعة الزجاج، ومقرها ولاية بافاريا، صعوبة حل الطلب على الغاز في ألمانيا. تعمل أفران صهر الزجاج الـ11 التابعة للشركة - مثل جميع الأفران الموجودة في البلاد - على مدار 24 ساعة في اليوم، منذ أكثر من 10 سنوات. وحتى لو أوقفت "ويغاند" الإنتاج، فستحتاج الأفران إلى 75% من استهلاك الغاز الطبيعي، لمنع الزجاج المصهور داخلها من التصلّب وتدميرها.

قال الرئيس التنفيذي للشركة، أوليفر ويغاند، في مقابلة: "لكن بعد ذلك، يتعين علينا تحمل تكلفة الطاقة في وقت لا يكون لدينا ما نبيعه. لذا فإن هذا ليس خياراً حقاً".

إذا انهارت الأفران ذات التقنيات العالية، فإن إعادة بنائها ستكون مضيعة للوقت ومكلفة. أضاف ويغاند: "سيستغرق الأمر عقداً حتى نصل إلى الإنتاج الطبيعي مرة أخرى".

يحاول الاقتصاديون تحديد نطاق المخاطر، إلا أن هذا الأمر يمثل تحدياً في حد ذاته، في وقت قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، إن 75% من أخطاء البنك في توقعه للتضخم العام الماضي، كان بسبب أسعار الطاقة.

حذّرت المعاهد الاقتصادية الألمانية في أبريل، من أن الوقف الفوري للواردات الروسية من النفط والغاز الطبيعي، من شأنه أن يؤدي إلى أضرار في الإنتاج بقيمة 220 مليار يورو خلال العامين المقبلين. وفي حين أن التكلفة قد تكون مقبولة ومحتملة حالياً مع ارتفاع مستويات التخزين، إلا أن التنبؤ بنتيجة وضع غير مسبوق أمر صعب، كما قال ستيفان كوثس، الخبير الاقتصادي في "معهد كيل للاقتصاد العالمي"، والذي شارك في وضع التوقعات.

ركود هو الأسوأ

حسب تقديرات البنك المركزي الألماني (بوندسبنك)، فإن الاقتصاد الألماني سينكمش بأكثر من 3% في عام 2023 إذا توقفت إمدادات الطاقة الروسية. سيكون هذا أسوأ ركود خارج فترات الركود التي أثارتها جائحة "كوفيد-19" والأزمة المالية العالمية.

النظرة المستقبلية قاتمة بالفعل. فقد انخفضت طلبيات التصنيع في المصانع خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وارتفعت التكاليف، وانهارت الثقة. كما انخفض مؤشر معهد "إيفو" الألماني للبحوث الاقتصادية، الذي يراقب عن كثب توقعات الأعمال، بشكل غير متوقع خلال يونيو.

في الوقت الحالي، تستعد الشركات لانخفاض إمدادات الطاقة لفترة طويلة. قد تخفض "باسف"، أكبر شركة مصنعة للمواد الكيميائية في أوروبا ، الإنتاج بسبب ارتفاع تكلفة الغاز الذي يستخدم في الإنتاج وفي توليد الكهرباء. وقد تشتري "بي إم دبليو" (BMW)، أكبر شركة مصنعة للسيارات الفاخرة في العالم، الكهرباء بدلاً من حرق الغاز في محطات الطاقة الخاصة بها في موقع الإنتاج.

قال هاغن فوندنر، رئيس العمليات الألمانية لشركة الأدوية السويسرية "روش هولدنغ" (Roche Holding): "يمكننا تحويل بعض الإنتاج من الغاز إلى النفط إذا لزم الأمر ، لكنه سيكون أقل كفاءة بخمس مرات". وأضاف: "لن يكون هذا حلاً دائماً".

تهيئ ألمانيا المستهلكين والشركات لمواجهة الأوقات العصيبة المنتظرة. وفي هذا السياق، حذّر رئيس الوكالة الألمانية الاتحادية للشبكات، كلاوس مولر، من أن الأُسر قد تواجه ارتفاع قيمة فواتير الغاز مرتين أو ثلاث مرات. ودعا الناس إلى توفير المال والطاقة، في وقت ناشد هابيك الألمان، التحلي بالتضامن لصدّ هجمات الطاقة التي يشنها بوتين.

رداً على اقتراح بأن تقدم الدولة مكافأت مقابل توفير الغاز، قال مولر: "إذا قال أحدهم: سأساعد فقط إذا حصلت على 50 يورو إضافية، فسأقول: لن تحصل عليها يا صديقي".

تصنيفات

قصص قد تهمك