بلومبرغ
تتزايد وتيرة الأحاديث في أرجاء الأسواق المالية، كما تصدر تصريحات عن كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركات الأميركية، مفادها أنَّ حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة بات وشيكاً ولا مفر منه، لكنْ ليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك.
في حين أنَّ خطر الانكماش قد ازداد مع تباطؤ النمو؛ فإنَّ معظم الاقتصاديين يقولون إنَّ الانكماش غير مرجح حدوثه في المستقبل القريب، في ضوء القوة المستمرة لسوق الوظائف والسيولة النقدية الفائضة بأكثر من تريليوني دولار في المركز المالي للأسر.
يشعر معظم الاقتصاديين بالقلق إزاء الوضع في بداية 2023، إذ إنَّ الزيادات المستمرة في أسعار الفائدة من جانب مجلس الاحتياطي الفيدرالي، تلحق الضرر، كما أنَّ ارتفاع التضخم لأعلى مستوياته خلال عقود، يستنزف فائض السيولة النقدية، لكنْ حتى ذلك الحين؛ فإنَّ التدهور الاقتصادي ليس بمثابة الضربة القاصمة.
كان المسؤول السابق بمجلس الاحتياطي الفيدرالي والخبير الاقتصادي في مصرف "دويتشه بنك" بيتر هوبر من بين أول الخبراء الذين توقَّعوا حدوث ركود، ويضع احتمالات حدوث ركود العام المقبل عند 70% - فأكثر. مع ذلك، يقول إنَّه يظل يتوقَّع بعض السيناريوهات لتجنّب حدوث الركود.
يمكن تجنّب الركود، إذا صدقت كلمات وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، أنَّ مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيتمتع بالمهارة الفائقة لكبح جماح الأسعار المرتفعة.
اقرأ أيضاً.. تصدعات في الاقتصاد الأمريكي تلوح وسط تحذيرات من الركود
"دويتشه بنك": اقتصاد أمريكا سيدخل في ركود عميق العام المقبل
مخاطر مرتفعة
سيعتمد النجاح أيضاً على قوى خارجة عن سيطرة البنك المركزي، وهي نقطة أوضحها رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بنفسه، وسط صدمات سلسلة التوريد الناجمة عن الوباء وحرب روسيا في أوكرانيا.
استناداً إلى الافتراض الأساسي بأنَّ أسوأ الآثار الاقتصادية لفيروس "كوفيد-19" والحرب لم تأتِ بعد؛ يراهن كبير الاقتصاديين في وكالة "موديز" مارك زندي على أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي يمكن أن ينجح في تحقيق أهدافه، قائلاً:"ما زلت أعتقد أنَّنا سنجتاز (العقبات) دون حدوث ركود. لكنْ من الواضح أنَّ الوضع صعب للغاية، كون المخاطر مرتفعة كثيراً".
ماسك يرجِّح دخول الاقتصاد الأمريكي في ركود سيستمر 18 شهراً
هناك الكثيرون ممن سيتعرّضون للخطر، إذ من المرجح أن يؤدي الركود إلى طرد مئات الآلاف من الأميركيين من سوق العمل، مما يؤدي إلى انخفاض كبير في سوق الأسهم. كما أنَّه قد يسبب مزيداً من المتاعب للرئيس جو بايدن، الذي يواجه حزبه الديمقراطي بالفعل صعوبة في الدفاع عن الأغلبية الضئيلة التي يتمتّع بها في الكونغرس خلال انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2022.
توجه بايدن
أشاد بايدن الجمعة الماضية بأحدث علامة على القوة في سوق العمل حتى مع اعترافه بأنَّه من المحتمل أن يطغى على عقول الأميركيين المتأثرين بألم التضخم المرتفع.
بدأت التصدعات في الظهور في اقتصاد يخرج من معدل نمو بلغ العام الماضي أعلى مستوياته منذ عام 1984. تتراجع سوق الإسكان تحت تأثير القفزة الكبيرة في معدلات الرهن العقاري التي صمّمها بنك الاحتياطي الفيدرالي، مع انخفاض مبيعات المنازل الجديدة في أبريل بأكبر قدر خلال ما يقرب من تسع سنوات.
أجراس الإنذار
تعمل شركات التكنولوجيا التي ازدهرت خلال ذروة الوباء على تقليص عدد الموظفين وخفضهم. تقوم شركات تجارة التجزئة مثل "وول مارت" (Walmart Inc) و"تارغت كورب" ( Target Corp) بتقليص توقُّعات أرباحها في حين تكافح مع ارتفاع التكاليف.
هذا الأمر أطلق أجراس الإنذار في "وول ستريت". تراجع مؤشر "ناسداك" المركب في سوق هابطة، في حين اتسعت فروق العائد على سندات الشركات لتعكس خطراً متزايداً بحدوث الركود.
يعمل بعض رؤوساء الشركات على مواجهة مشكلة القلق أيضاً. كما أعربت شخصيات كبرى من بينها الرئيس التنفيذي لـ "جيه بي مورغان تشيس"، جيمي ديمون، ورجل الأعمال الملياردير إيلون ماسك وغاري فريدمان، رئيس شركة تجارة الأثاث بالتجزئة "أر اتش" (RH)، عن الخشية من احتمال حدوث انكماش خلال الأسبوع الجاري.
"غولدمان ساكس": التضخم في أمريكا يبلغ ذروته.. ومخاطر الركود تتصاعد
تقول ميغان غرين، كبيرة الاقتصاديين العالميين في "كرول انستيتيوت" (Kroll Institute )، إنَّ مثل هذه المخاوف سابقة لأوانها.
يتمتّع المستهلكون، الذين يشكّلون الحصن المنيع للاقتصاد، بقدر كبير من القوة المالية الضخمة التي تراكمت في وقت مبكر من الوباء، عندما كانوا محصورين في منازلهم، وتغمرهم شيكات التحفيز من الحكومة الفيدرالية.
في حين تشهد سوق العقارات التحولات؛ يستفيد الكثيرون من تقييمات العقارات المقدرة. بالإضافة إلى القوة الضخمة الجماعية للمستهلكين، العدد المتزايد للموظفين العاملين في جميع أنحاء الاقتصاد، إذ أظهر تقرير الوظائف لشهر مايو زيادة بمقدار 390 ألف وظيفة واستقرار معدل البطالة بالقرب من أدنى مستوى له منذ نصف قرن.
ماذا يقول اقتصاديو بلومبرغ؟
قال المحللان الاقتصاديان في "بلومبرغ" آنا وونغ وأندرو هوسبي: "المراكز المالية القوية للأسر والشركات ستحافظ على النمو إيجابياً خلال الـ12 شهراً القادمة. بالنظر إلى أواخر عام 2023؛ يوضّح نموذجنا أنَّ مخاطر الركود مرتفعة. إنَّ تحوّل الاقتصاد من النمو إلى النمو البطيء ليس مستحيلاً. من الصعب جعله القضية الأساسية ".
كل هذا يمكّن المستهلكين من الاستمرار في الإنفاق في مواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والبنزين والضروريات الأخرى.
أظهرت البيانات في 27 مايو أنَّه بعد استبعاد التضخم؛ تسارع نمو نفقات المستهلك فعلياً في أبريل.
شكل جيد
بريان موينيهان، الرئيس التنفيذي لـ"بنك أوف أميركا" قال لتلفزيون "بلومبرغ" في 24 مايو: "المستهلكون في حالة جيدة. ما الذي يجعلهم يواجهون الركود؟ لا شيء في الوقت الحالي".
لكنَّ التضخم سيستمر في تقليص مدخرات المستهلكين، مما يجعل توقُّعات العام المقبل أكثر صعوبة.
ميغان غرين، كبيرة الاقتصاديين العالميين في "كرول انستيتيوت"قالت : "لا أعتقد أنَّنا سندخل في ركود في الأشهر الـ12 المقبلة... أشعر بالقلق إزاء الـ12 شهراً بعد الحالية".
سيعتمد مصير الاقتصاد خلال عام 2023 في نهاية المطاف على ما يحدث مع التضخم ومدى رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة لخفضه (التضخم) إلى مستويات مقبولة.
ارتفع مقياس التضخم المفضّل لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 6.3% سنوياً في أبريل، أي أكثر من ثلاثة أضعاف مستهدف البنك المركزي البالغ 2%.
دورة الفيدرالي
يرى هوبر من مصرف "دويتشه بنك" أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يحتاج إلى رفع أسعار الفائدة خلال المدى القصير إلى 5% لانتزاع التضخم من الاقتصاد. سيكون هذا أعلى مستوى لمعدل الفائدة منذ عام 2007 وأعلى بكثير من النطاق المستهدف الحالي للاحتياطي الفيدرالي ما بين 0.75% إلى 1%.
قال هوبر: "من أجل تخفيف ضغط التضخم في سوق العمل؛ يتعيّن ارتفاع معدل البطالة"، متمسكاً برهانه على حدوث الركود.
تتبنّى كاثي بوستانسيك، كبيرة الاقتصاديين الأميركيين في "أكسفورد إيكونوميكس"، الجانب الآخر من النقاش الدائر. تقدّر فرص حدوث الركود عند 35%، قائلة إنَّ حل ضغوط سلسلة التوريد، وتدفق العمال إلى القوة العاملة سيساعدان على تخفيف الضغوط التضخمية دون الحاجة إلى تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي يُبطِّئ وتيرة نمو الاقتصاد.
العريان: الاقتصاد الأمريكي لن ينجو من الركود التضخمي رغم تشديد "الفيدرالي"
ميزة أخرى للاحتياطي الفيدرالي، تأتي من أنَّ المستثمرين والمستهلكين والشركات مقتنعون، بمرور الوقت، بقدرته للسيطرة على التضخم ، كما تظهر الدراسات الاستقصائية ومؤشرات سوق السندات.
مايكل فيرولي، كبير الاقتصاديين الأميركيين في "جيه بي مورغان" قال إنَّ هذا يعني أنَّ المسؤولين عن السياسة النقدية قد لا يحتاجون إلى "ركود بهدف العقاب" للقضاء على الشعور بالتضخم من الاقتصاد.
لا يعني ذلك أنَّ مهمة الاحتياطي الفيدرالي ستكون سهلة. يتوقَّع فيرولي أنَّ النمو يتباطأ إلى 1% فقط خلال النصف الثاني من عام 2023 مع وصول تأثير تشديد السياسة النقدية إلى شرايين الاقتصاد.
أضاف فيرولي: "يتعيّن على بنك الاحتياطي الفيدرالي إيجاد توازن للحفاظ على النمو دون المستوى، ولكنَّه يظل إيجابياً.. يمكننا تجنّب الركود، لكنْ بالتأكيد لدينا مخاطر عالية من حدوث ركود".