بلومبرغ
يحمل قرص خرساني قطره سبعة أمتار قرب مدخل بلدة أفيون في شمال فرنسا لوحة تعريف صغيرة كتب عليها النفق "7 بي". يشير هذا الموقع إلى مدخل منجم للفحم كان يعمل فيه منذ زمن نحو ثلاثة آلاف شخص ما تزال منازلهم المتواضعة المبنية من الآجر الأحمر قائمة بالجوار. لم يبق من معالم تلك الحقبة اليوم سوى جبل ارتفاعه 15 متراً من نفايات المناجم، وزوج أنابيب بعرض 30 سنتمتر يبرزان من القرص الخرساني ويرتبطان بقساطل وصمامات متشابكة.
تحمل هذه الأنابيب الميثان، وهو غاز عديم الرائحة قابل للاشتعال ينتج لدى استخراج الفحم من الأرض. يرتفع الميثان، المكوّن الرئيسي للغاز الطبيعي، عن عمق 1200 متر ويتجمع تحت السدادة الخرسانية، حيث تحتجزه شركة "فرانسيز دو لينيرجي" (Française de l’Energie) لإنتاج الطاقة الحرارية والكهربائية. قال جوليان مولان، مؤسس الشركة فيما كان يقوم بجولة في الموقع مرتدياً معطفاً برتقالياً عاكساً للضوء فوق سترته الزرقاء: "لا تحتاج إلى أي معدّات تحت الأرض... ما عليك إلا أن تغلق فوهة البئر بأمان وتربطها بخطّ الأنابيب ثمّ ترشيح الغاز وضخه إلى الشبكة".
تناثر نحو 350 منجماً في أرجاء الشمال الفرنسي والجنوب البلجيكي في ذروة حقبة التعدين، ثمّ مع توفر الفحم الأقل تكلفة المستورد من الخارج وتوجه سياسة الطاقة الفرنسية نحو الطاقة النووية، بدأت هذه المناجم تغلق أبوابها الواحد تلو الآخر. توقفت اليوم جميعها عن العمل، إلا أن "المناجم المغلقة ستستمر بإنتاج الميثان لعقود" حسب ريموند بيلشي، رئيس لجنة متخصصة بالميثان في الأمم المتحدة. بما أن أثر الميثان على الاحترار العالمي يفوق ثاني أكسيد الكربون بـ 25 مرة، فهو يُعدّ كابوساً على صعيد التغير المناخي. قال يان فوان، مدير العمليات في " فرانسيز دو لينيرجي": "حُظر استخراج الفحم اليوم في فرنسا لكننا ما نزال نواجه مشكلة حول الغاز."
معدل قياسي
حذرت الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي في أبريل من أن انبعاثات غاز الميثان من كافة المصادر وصلت إلى معدل قياسي في 2021. أغلقت آلاف المناجم أبوابها على امتداد العقد الماضي، حيث تقدّر وكالة حماية البيئة أنها تسهم في 9% من إجمالي انبعاثات غاز الميثان حول العام. تشير الملاحظات الأخيرة إلى أن هذه النسبة قد تكون أقل ممّا هي عليه في الواقع. إذ كشفت بيانات جديدة عبر الأقمار الاصطناعية أن منجماً واحداً يسهم في 1% من إنتاج أستراليا من الفحم، تنبعث منه 20% من انبعاثات الميثان التي أعلنتها البلاد، ما يعني أن المشكلة أسوأ بكثير ممّا كان يعتقد سابقاً.
ينقل أحد الأنابيب الميثان في أفيون نحو نظام ترشيح لإزالة جزئيات الفحم المجهرية، ومن هناك يتدفق الغاز نحو مبنى مجاور حيث تقوم الآلات التي يبدو صوتها أشبه بمحرك نفاث معطّل بضغط الغاز ودفعه نحو خطّ أنابيب محلي لتوزيع الغاز الطبيعي، فيما يتجه أنبوب آخر نحو محركات توليد مشترك، هي في الواقع محطات توليد كهرباء غازية مصغرة تنتج الطاقة الكهربائية للشبكة المحلية.
تشغّل شركة " فرانسيز دو لينيرجي" عشرة مواقع مماثلة في المنطقة من خلال تكرار هذه التقنية بطرق مختلفة. على بعد 19 كيلومتر، على مقربة من ملعب لكرة القدم في بلدة بيثون، تعالج الشركة الغاز من منجم آخر ويتم نقله عبر خطّ أنابيب معاد تأهيله. يسهم هذا الغاز في توفير التيار الكهربائي لـ22 ألف شخص، أما الحرارة التي تنتجها المولدات، فيتم احتجازها لصالح الشبكة المحلية، حيث أسهم هذا النظام في تخفيض فاتورة الطاقة لدى السكان بنحو 20% وخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 35%، حسب الشركة. تنتج منشأة كهربائية في الجهة المقابلة من الحدود في بلجيكا الكهرباء لـ35 ألف شخص بالكهرباء، أو 7.5 ميغاواط وهي توازي إنتاج 20 توربين رياح، وتعمل حصراً على الميثان.
انبعاثات أدنى
قال مسؤولون في الحكومة الفرنسية، لو أن الطاقة التي توفرها "فرانسيز دو لينيرجي" أتت من غاز طبيعي مستخرج بالأساليب التقليدية بدلاً عن الميثان المحتجز من مناجم الفحم المعرضة للتسرب، لانبعث ما يوازي مليون طنّ إضافي من ثاني أكسيد الكربون سنوياً.
قال "فرانسيز دو لينيرجي" إن مناجمها تحتوي بالإجمال على ما يكفي من احتياطات الغاز من أجل تغطية عقد من استهلاك فرنسا الحالي. نمت عائدات الشركة 30% العام الماضي، فيما ارتفعت أرباحها بأكثر من الضعفين بعدما أنتجت المنشآت القائمة مزيداً من الطاقة وبدأ العمل بمشاريع جديدة. يشير مولان إلى أن "فرانسيز دو لينيرجي" التي تضاعفت قيمة أسهمها المدرجة في بورصة "يورونكست" أربع مرات تقريباً خلال السنوات الخمس الماضية تتجه نحو تحقيق إيرادات تصل إلى 35 مليون يورو (38 مليون دولار) وهامش ربح بنسبة 45% بحلول نهاية العام.
خطرت لمولان هذه الفكرة بعدما استثمر في شركة أسترالية منخرطة في تطوير مشاريع الميثان من طبقة فحمية، حيث يُستخرج الغاز قبل عمليات التنقيب. أدرك مولان حينها أن المناجم حول أفيون أغلقت أبوابها بدون وضع خطة طويلة الأمد للتعامل مع الميثان المتراكم فيها. كما ستغلق مزيد من المواقع على امتداد أوروبا أبوابها مع تحول الدول نحو الوقود النظيف. قال مولان: "كنّا نتخلى عن الفحم لكن دون أن نتصدى لمعالجة مسألة الميثان... على كافة دول أوروبا الشرقية التعامل مع هذه المسألة".
تقنية قديمة
ليست هذه التقنية جديدة، إذ يُستخدام الغاز المحتجز في أحد المناجم المغلقة في بريطانيا لإنتاج الطاقة منذ الخمسينيات، فيما تغذّي شركة "ستيغ نيو إنرجيز" (Steag New Energies) الألمانية أكثر من 150 ألف منزل بواسطة الميثان من منجم مهجور، إلا أن مولان واجه صعوبة في بناء شركته فقد شرح قائلاً: "لم يكن أحد مهتماً، كان الجميع يركز على ثاني أكسيد الكربون."
لكن مع توجّه الدول نحو أهداف أكثر طموحاً لخفض الانبعاثات، ظهر الميثان كحلّ سهل، والوسائل المتوافرة حالياً للتعامل مع تراكم الغاز يتخللها كلّها بعض الشوائب. تُغمَر المناجم من أجل احتجاز الغاز أحياناً، إلا أن المياه قد تتسبب بتسميم موارد الشرب أو تتسرب للسطح. كما يمكن إغلاق المنجم وتركه، لكن الضغط سيتراكم في نهاية المطاف ليرتفع إلى مستويات خطرة، ولا بدّ من تنفيس الميثان على أي حال. أمّا الخيار الثالث فيتمثّل ببساطة بترك الغاز يتسرب إلى الغلاف الجوّي ويزيد من الاحترار العالمي.
قال عمدة أفيون جان مارك تيلييه إن المنشأة أسهمت بدعم المجتمع المحلي وألهمت على تركيب ألواح شمسية فوق نفايات المناجم لإنتاج مزيد من الطاقة النظيفة للمنطقة. كما حفّز المشروع على إدارة مشكلة الميثان بشكل أذكى، ليتحول إلى ما يشبه نصباً تذكارياً لـ21 شخصاً قتلوا في انفجار لغاز الميثان تحت الأرض في 1965، وهي مأساة لا تزال محفورة في الذاكرة المحلية. قال تيلييه: "كان هذا الموقع في طريقه ليصبح أرضاً قاحلة لكنه بات الآن نعمة لنا، يمكنني القول إنه بمثابة عرفان لعمّال المناجم."