بلومبرغ
خلال العامين الماضيين، أسهمت سياسة "صفر كوفيد" التي تتبعها الصين، والقائمة على الإغلاقات، والاختبارات الجماعية، وفرض الحجر الصحي الصارم على الحدود، في تجنب كمّ هائل من الوفيات داخل البلاد، فيما ضمنت استمرار تصدير كل السلع بدءاً من أجهزة "أيفون" إلى سيارات "تسلا" وحتى الأسمدة الزراعية، وقطع السيارات، منها إلى باقي أنحاء العالم.
لذا؛ إذا أراد المستهلكون الاستمرار في شراء السلع المصنوعة في الصين من دون أن يواجهوا أي شحّ أو ارتفاع في الأسعار؛ فعليهم أن يرغبوا بأن تواصل الصين اتباع سياسة "صفر كوفيد" التي يريدها الرئيس تشي جينبنيغ.
انتقادات
مع ذلك، هذه ليست الرسالة التي تسمعها في خارج الصين، إذ تتعالى الأصوات المنددة بتصميم بكين على التصدي لكلّ تفشٍ فيروسي، إذ تركز الانتقادات على الأضرار التي تلحقها هذه السياسة باقتصاد الصين، وخطرها على سلاسل التوريد العالمية، وحتى تهديدها للحقوق الإنسانية للرياضيين المشاركين في الأولمبياد.
كانت المسؤولة رفيعة المستوى في صندوق النقد الدولي غيتا غوبيناث، قالت لوسائل الإعلام الشهر الماضي، إنَّ على السلطات "أن تعيد موازنة" سياستها تجاه تفشيات فيروسات كورونا، محذرة من أنَّ الآثار التي تنتج عن المزيد من الإغلاقات قد تتسبب بــ"آثار كبيرة على سلاسل التوريد العالمية". وكان تقرير لـ"غولدمان ساكس" حذر في يناير من أنَّه في حال تم رصد انتشار لفيروس أوميكرون في عدة مقاطعات صينية هذا الشتاء، وفرضت الحكومة إغلاقاً وطنياً؛ فإنَّ نسبة النمو في الصين ستنخفض إلى 1.5% هذا العام، وهي النسبة الأدنى منذ عام 1976.
هذه المخاوف حقيقية، فثمة تكلفة اقتصادية ومالية وبشرية فعلية لمحاولة الصين التصدي لتفشي فيروس كورونا داخل البلاد، وقد تتفاقم هذه التكلفة أكثر في حال استمرت التفشي الوبائي في الانتشار.
أقل المخاطر
لكن في الواقع، المخاطر التي تواجهها الصين وبقية العالم حالياً تكاد لا تقارن بالتكلفة البشرية والاقتصادية في حال تخلت الصين عن سياسة "صفر كوفيد"، وسمحت بتفشي الفيروس بشكل أكبر وأقل انضباطاً بين سكان البلاد البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، على الرغم من أنَّ معدل تلقي اللقاح في البلاد وصل إلى نسبة مرتفعة تبلغ 87%.
غورغييفا: ثلاث أولويات لضمان تعافي الاقتصاد العالمي
في حال إعادة فتح الصين؛ فإنَّ ارتفاع أعداد المصابين من المحتمل أن يكون أشد سوءاً ممّا يحدث حالياً في الدول الأخرى التي تواجه متحور "أميكرون". إذ تبين أنَّ فعالية اللقاحات الصينية أقل من لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال المستخدمة في أماكن أخرى حول العالم. كما أنَّ نجاح الصين حتى الآن في حماية كلّ سكانها تقريباً من العدوى يعني أنَّ البلاد تواجه "فجوة مناعية هائلة"، بحسب يانزهونغ هوانغ، وهو زميل رفيع المستوى لشؤون الصحة الدولية في مجلس العلاقات الخارجية.
وفي حال أعادت الصين فتح اقتصادها مثلما فعلت الولايات المتحدة، ستواجه البلاد "تفشياً هائلاً" لم تشهده أي دولة أخرى من قبل، مع تسجيل أكثر من 630 ألف إصابة يومياً، وذلك وفقاً لنموذج أعدّه باحثون في "جامعة بيكينغ".
فحتى لو تمكّنت الصين من إبقاء مستوى الوفيات منخفضاً مثلما فعلت كوريا الجنوبية واليابان، إلا أنَّ عدد الوفيات سيتجاوز العدد الحالي البالغ 4 آلاف و646 حالة وفاة من فيروس كورونا شهدتها الصين خلال العامين الماضيين (في الولايات المتحدة، حيث عدد السكان يوازي ربع سكان الصين، وقد تجاوز عدد الوفيات نتيجة الفيروس 900 ألف حالة مؤخراً).
ضريبة المحافظة على تدفق السلع
شهدت الصين حالات متكررة للتفشي منذ ظهور الفيروس للمرّة الأولى في ووهان؛ إلا أنَّ الحكومة تمكنت من التصدي لها بسبب إجراءاتها الصارمة، مثل الحجر الذي فرضته مؤخراً على مدينة شيان، فقد أجبرت 13 مليون شخص على ملازمة منازلهم لحوالي شهر حتى نهاية يناير. وحتى اليوم، تبدو الجولات المتكررة من الاختبارات الجماعية، وتعقّب المخالطين كافية لضبط موجات التفشي لمتحور "أميكرون" التي حصلت مؤخراً في بكين، وتيانجين، وهونغتشو وغيرها.
على الرغم من أنَّ هذه القيود أدت إلى إغلاق بعض الموانئ والمعامل بشكل مؤقت؛ إلا أنَّ الصناعات الصينية نجحت حتى الآن في التعامل مع الوباء دون تأثر يذكر، وهذا أمر لافت.
فقد ارتفعت الصادرات إلى معدل قياسي في عام 2020، ثم مجدداً في عام 2021. ولولا المحافظة على هذا التدفق الثابت للسلع؛ لكانت أسعار الواردات في الولايات المتحدة ارتفعت بشكل أسرع حتى ممّا يقوم عليه الوضع اليوم، ولكان النقص في المنتجات الأساسية والفاخرة بات أكثر شدة.
نموذج أستراليا
من المحتمل أن يكون من الصعب الحفاظ على ثبات هذه الإمدادات حين تعيد الصين فتح حدودها، وتلغي القيود الداخلية. فأستراليا التي تبنت لفترة طويلة سياسة "صفر كوفيد" مثل الصين؛ سجلت ارتفاعاً بعدد الإصابات والوفيات في يناير بعد إنهاء الإغلاقات في معظم أنحاء البلاد، وإلغاء إلزامية الحجر الصحي لجميع المسافرين القادمين من الخارج.
وفي حال قامت الصين بما فعلته أستراليا، ولم يخرج متحور جديد من الفيروس يكون أقل فتكاً من "أوميكرون"؛ فإنَّ ردة فعل الصينيين لن تختلف كثيراً عن الأستراليين؛ فقد فضل كثير من السكان البقاء في منازلهم لتفادي الإصابة، أو لأنَّهم أصيبوا، أو اختلطوا عن قرب مع شخص مصاب.
في بداية تفشي الوباء في عام 2020؛ قرر العديد من الصينيين أن يعزلوا أنفسهم من تلقاء نفسهم دون أن تجبرهم الحكومة. وفي حال ارتفعت معدلات الإصابة والوفيات في البلاد؛ فإنَّ هذا التوجه قد يتكرر مجدداً، بالأخص إذا ما ازدحمت المستشفيات بالمرضى.
إذا حدث ذلك؛ فإنَّ سلاسل الإمداد ستتلقى ضربة أقوى من أي أمر عايشته خلال الوباء. فعلى الصعيد العالمي؛ لا تأثير يذكر لاضطرار المتاجر في سيدني لتحديد كمية المشتريات، أو إغلاق أبوابها مؤقتاً بسبب نقص العمال، ولكن إذا تغيب الموظفون عن العمل؛ فإنَّ المعامل والموانئ الصينية ستضطر إلى التخفيف من طاقتها التشغيلية أو إلى الإغلاق، فالأمر سيكون أشبه بموجة عملاقة.
فالنقص في أنواع متعددة من السلع، حتى لو كان نقصاً مؤقتاً سيزيد من معدلات التضخم المرتفعة أصلاً، ويعوق التعافي الاقتصادي العالمي الذي يبدو اليوم أكثر هشاشة ممّا كان عليه قبل نشوء "أوميكرون". (خفّض صندوق النقد الدولي توقُّعات النمو العالمي لعام 2022 من 4.9% إلى 4.4%).
تبعات صعبة
على الرغم من أنَّ "أوميكرون" تمكّن من اختراق استراتيجيات الصين؛ إلا أنَّ الكثيرين على ثقة بأنَّ الصين ستواصل انتهاج سياسة احتواء فيروس كوفيد خلال عام 2022، وربما حتى بعده. وفيما تقرّ الحكومة بأنَّ هذه السياسة مكلفة، إلا أنَّها ترى أنَّ فوائدها أكبر من الخسائر الناتجة عنها، بحسب تقرير صادر مؤخراً عن صندوق النقد الدولي.
كما أنَّ توفّر لقاحات أفضل لن يكون كافياً لإقناع الصين بتغيير سياستها، لأنَّ الاعتماد على اللقاحات وحدها ليس فعالاً في التصدي للعدوى، بما أنَّ المتحورات الفيروسية قادرة على اختراق المناعة، بحسب وو زونيو، كبير خبراء الأوبئة في المركز الصيني للسيطرة على الأمراض والوقاية منها.
وقال وو في مقابلة مع صحيفة "غلوبال تايمز" المدعومة من الدولة: "كنّا نعتقد في السابق أنَّه بالإمكان احتواء فيروس كوفيد–19 من خلال اللقاحات، ولكن الآن تبين أنَّه لا توجد طريقة بسيطة لاحتوائه إلا من خلال اتخاذ إجراءات شاملة". وأضاف أنَّ الصين ستستمر في انتهاج سياساتها الحالية طالما أنَّ الحالات القادمة من الخارج قادرة على التسبب بموجات من التفشي واسعة النطاق.
مع ذلك؛ أثبت العامان الماضيان أنَّ الإغلاقات المؤقتة والمتفرقة لا تعني توقف المصنِّعين والمصدِّرين عن العمل، ولا تعني توقّف شحن البضائع عبر السفن. بالتالي؛ كلمّا التزمت الصين بسياسة "صفر كوفيد" لفترة أطول؛ كان ذلك أفضل بالنسبة لبقية العالم.