"ثمن هتلر"..كيف أصبحت ألمانيا الحلقة الأضعف أوروبياً في الأزمة الأوكرانية؟

time reading iconدقائق القراءة - 28
لقاء المستشار الألماني والرئيس الروسي - AFP
لقاء المستشار الألماني والرئيس الروسي - AFP
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

دفع الغزو المحتمل من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا الولايات المتحدة وبريطانيا إلى اتخاذ خطوات ردع عسكري، لكنَّ الأمر ولّد أزمة موازية للدولة المهيمنة في أوروبا.

توجه المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز إلى موسكو يوم الثلاثاء، في محاولة لوقف حالة الطوارئ، لكنَّ الزيارة لم تحقق الكثير بخلاف الدعوة لعودة محادثات السلام المحتضرة في مينسك، وطرفة هزيلة حول فترة ولاية بوتين المتوقَّعة.

أصدر "شولتز" الأسبوع الماضي رداً متأخراً للإيحاء بأنَّ غزو أوكرانيا سيعرّض للخطر خط أنابيب الغاز الجديد "نورد ستريم 2"، الذي سينقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا متجنباً الأراضي الأوكرانية، وهو أمر ذو أهمية اقتصادية كبيرة لموسكو، لكن من المشكوك فيه هو أنَّ أي شخص، لا سيما "بوتين"، اعتقد أنَّ "شولتز" كان جاداً، فنظراً لاعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية، من شبه المؤكد أنَّ الحكومة الألمانية ستسعى إلى تقارب سريع، بغضِّ النظر عن الإجراءات قصيرة المدى التي قد تطبقها برلين لمعاقبة موسكو.

من دون شك، يُمثّل هذا الأمر تحولاً تاريخياً استثنائياً، بعدما كان يُنظر إلى الألمان لمدة 2000 عام على أنَّهم أكثر الشعوب العسكرية رعباً في العالم. كل ما عليك هو تأمل عبارة "تاسيتوس"، الذي أعجب به أدولف هتلر كثيراً، أو عبارة منسوبة إلى الثوري الفرنسي ميرابو تقول: "الدول الأخرى تمتلك جيشاً، وفي بروسيا جيش يملك دولة".

الإنفاق العسكري

مع ذلك، تعد ألمانيا اليوم التي أنشأتها بروسيا، هي الحلقة الأضعف في كل محاولة لتعزيز الدفاع والأمن الأوروبيين، فحتى قبل حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، أصبح من الواضح لمعظمنا- الذين يعيشون في أوروبا- أنَّه من الضروري بذل المزيد من الجهد للدفاع عن أنفسنا، وفي الوقت نفسه توقَّع القليل من الولايات المتحدة.

اختلف الأوروبيون مع الرئيس السابق دونالد ترمب حول أشياء كثيرة، ولكن كان له ما يبرره في مهاجمتهم نتيجة لإحجامهم عن دفع حصة عادلة من تكاليف الدفاع لحلف الناتو.

كانت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية أكثر ثراءً من أوروبا، وحققت أرباحاً كبيرة من الصراع إلى الحد الذي ظهر فيه العم سام وحده مَن يتحمل الضغوط.

لكن تلك الأيام ولّت منذ زمن طويل؛ إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا اليوم 3.8 تريليون دولار، أو 46 ألف دولار للفرد، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة البالغ 24 تريليون دولار أو ما يقرب من 60 ألف دولار للفرد.

وفي حين تنفق الولايات المتحدة 3.7% من ناتجها المحلي الإجمالي على قواتها المسلحة؛ تقاوم ألمانيا بعناد أي محاولة جادة للوصول إلى هدف الناتو المتفق عليه، والبالغ 2%، وتقدّر نسبتها الحالية بـ 1.4%. إذا نظرنا للأرقام المطلقة؛ فسنجد أنَّ إنفاق ألمانيا الدفاعي البالغ 52.8 مليار دولار يقل عن إنفاق بريطانيا التي يقل عدد سكانها عنها بكثير.

حثّ السفير الأوكراني في برلين الأسبوع الماضي البلد المضيف على "الاستيقاظ" لأنَّ "العالم أصبح أكثر خطورة"، و"لا يُمكن لألمانيا السماح لنفسها بالبقاء على الحياد والاستمرار في الغط بالنوم، والاستمتاع بحياة مريحة". مع ذلك؛ يُصر الألمان العاديون الذين يستمعون إلى البرامج الإذاعية على التفوّه بجمل مثل: "لا يمكنك أن تصنع السلام بالأسلحة ".

إنَّهم يدعمون بأغلبية ساحقة رفض حكومتهم اتباع بريطانيا في شحن الأسلحة إلى أوكرانيا، لا سيما مدافع "هاوتزر" الألمانية الصنع. كما أنَّهم يرفضون السخرية الموجّهة لبلادهم بسبب تقديمها 5000 خوذة وإمدادات طبية للأوكرانيين المحاصرين، مما دفع بعمدة كييف فيتالي كليتشكو للتعليق ساخراً: "ما الذي سترسله ألمانيا بعد ذلك؟ الوسائد؟ ".

القيادة الألمانية

وقال وزير دفاع لاتفيا أرتيس بابريكس لصحيفة "فاينانشيال تايمز" الشهر الماضي: "لا يمكن تحقيق أمن أوروبا دون دور قيادي ألماني، لكننا إذا نظرنا في هذه اللحظة إلى كيفية تصرفهم في الدفاع الأوروبي وحلف الناتو؛ فيبدو واقع الجيش الألماني، والتردد في استخدام القوة العسكرية، وكأنَّه أمر سخيف في الأوقات الحالية ".

عندما تحدّث "بابريكس" عن "حقيقة" الجيش الألماني، كان يقصد أنَّه برغم القوة الرسمية للقوات المسلحة الألمانية التي تتكوّن من 183695 فرداً؛ فلا أحد ينظر إليهم على أنَّهم محاربون يتمتعون بالمصداقية. لقد أجريت محادثات مع كبار الضباط المحرجين بسبب عدم رغبة بلادهم في التفكير في قتال أي شخص، ولكن هذا الواقع المتمثّل برفض الجيش الألماني للحرب يعكس إرادة أمته.

وكما تقول وزيرة الخارجية أنالينا بربوك، إنَّ ألمانيا تتصرف أساساً بطريقة "مسؤولة تاريخياً"، وهي تعني بالطبع أنَّه حتى بعد أكثر من 70 عاماً؛ ما تزال ذكرى الحرب العالمية الثانية تلقي بظلالها القاتمة، وكيف لا في ظل سيل الأفلام والبرامج التلفزيونية والكتب، التي كتبت بعضها، والتي تذكّر العالم بالأفعال المروّعة التي ارتكبها شعب هتلر باستمرار؟.

لبضع سنوات بعد عام 1945، هنأ جيران ألمانيا الغربية أنفسهم على نجاحهم في نزع سلاح الأمة التي سبّبت لنا جميعاً الكثير من الحزن، وقد وقعت عيناي مؤخراً على مقال افتتاحي بصحيفة "لندن تايمز" في فبراير 1952، علّق على المقاومة الفرنسية المتحمسة لإنشاء مجتمع دفاعي أوروبي قائلاً:

"كانت محاولة تشكيل اتحاد عسكري تجري تحت ضغط أمريكي في المقام الأول بسبب رغبة مفهومة تتعلّق بعدم تضييع وقت أوروبا الغربية في تحمّل الأعباء العسكرية الواقعة عليها. ولا تقل المهمة عن تغيير الوضع من عدو مهزوم تحت الاحتلال العسكري إلى حليف حر وجدير بالثقة في نظام الدفاع الأطلسي".

وها نحن الآن جميعاً بعد سبعة عقود؛ وما تزال هذه المهمة غير مكتملة، ليس بسبب جنون العظمة الفرنسي بشأن التهديد الألماني، ولكن لأنَّ الألمان اليوم غير مستعدين بشدة لرؤية جنودهم يقاتلون أو حتى يهددون بالقتال أي شخص، من أجل الدفاع عن أي شيء.

إنَّها الهزيمة!

من اللافت للنظر مقارنة الموروثات المختلفة للحربين العالميتين؛ فلم يتعرض الرايخ الألماني السابق بعد الحرب الأولى لأي أضرار مادية تقريباً، واحتلت قوات الحلفاء منطقة الراين فقط، مما سهّل على النازيين لاحقاً الترويج لأسطورة أنَّ الجيش الألماني لم يهزم أبداً، وأنَّ أعداء الداخل هم من دفعوا الأمة إلى السعي إلى هدنة أجبرتها على قبول الشروط المهينة لمعاهدة "فرساي" عام 1919.

قدّمت ألمانيا تبايناً مطلقاً عام 1945، وأظن أنَّ هجوم القاذفات الأنغلو أمريكية في الأشهر الأخيرة من الحرب خصوصاً؛ قد ساهم في معاقبة شعب هتلر على جرائمهم أكثر من انتصار الحلفاء. وسواء كان هذا صحيحاً أم لا، لم يكن هناك جدال حول حالة البلاد، فقد كتب مراسل الحرب الأسترالي العظيم آلان مورهيد أنَّه لم يجد بين الألمان أي شعور بالذنب، بل وجد إحساساً هائلاً بالهزيمة يفوق ذلك الشعور في العام 1918.

وذكر المراسل أنَّ البلاد بأكملها "قدّمت مشهداً خارج نطاق الفهم البشري تقريباً، فقد تعرضت حوالي 50 مدينة كبيرة لحالة خراب، ولم يكن لدى العديد منها أي ضوء كهربائي أو طاقة أو غاز أو مياه جارية، ولم يوجد نظام حكومي متماسك. انطلق الناس فوق الأنقاض مثل النمل في خليّته، وغاصوا في ظلمة الأقبية والمداخل بحثاً عن المسروقات. تحرك الجميع، وكانت الحياة دنيئة وبلا هدف، بل لم تأخذهم إلى أي شيء".

أصدقاء بوتين

استقى الألمان المعاصرون هذه الذاكرة الشعبية من آبائهم وأجدادهم، وصوّر مضمون تجربة الحرب العالمية الثانية في معظم الكتب الحديثة، التي اختاروا قراءتها، الشعب الألماني على أنَّه ضحية، وليس جانياً. وفي حين أنني، بصفتي مؤرخاً للحروب ولست مدافعاً عن الرايخ الثالث؛ أؤكد على أنَّه ربما كان الجيش الألماني في تلك الأيام، وفي القرن أو القرنين الماضيين كذلك، أقوى قوة قتالية شهدها العالم على الإطلاق. لا يُبدي الألمان اليوم أي فخر بتراثهم القتالي، وليس لديهم رغبة مطلقاً في إحيائه.

كثيراً ما أسمع الرثاء الساخر الحزين من ضباط الجيش البريطاني عند مناقشة الحاجة إلى تعزيز دفاعات أوروبا، بالقول: "لقد بالغنا في تجريد ألمانيا من السلاح". أصبحت البلاد واحدة من أكثر المجتمعات نجاحاً وازدهاراً على وجه الأرض، ولا ترى أي حاجة للتنازل عن هذا الإنجاز من خلال تحويل المناجل إلى سيوف مرة أخرى.

لقد روّج الاشتراكيون الديمقراطيون المهيمنون مراراً على الحكومة الائتلافية الألمانية الجديدة للتقارب مع روسيا، حتى في أيام وجود الاتحاد السوفيتي. يضم الحزب العديد من "المتفهمين لـ ِبوتين"، برئاسة المستشار السابق غيرهارد شرودر، الذي شجب بلا خجل الأوكرانيين، وليس الروس بسبب "تهديد الحرب" قبل أسبوع من ترشيحه لمقعد مهم في مجلس إدارة شركة "غازبروم" الروسية العملاقة للطاقة.

يشعر بعضنا بالإحباط عندما يتأمل ضعف "شرودر"، وأبناء وطنه، وسط القبح الوحشي للسلوك الروسي، لأنَّنا معجبون في كثير من النواحي بألمانيا الحديثة بشكل كبير. ونشر الصحفي البريطاني جون كامبفنر، الذي أمضى سنوات كمراسل أجنبي هناك، مؤخراً كتاباً بعنوان: "لماذا يفعل الألمان ذلك بشكل أفضل: ملاحظات من بلد ناضج"، وكنت من بين أوائل من راجعه بحماس.

ألمانيا لا بريطانيا

رأى "كامبفنر" أنَّه على عكس التصور السائد عن الغطرسة الألمانية؛ ينتقد الناس في الأمة الحالية أنفسهم، وهم أكثر استعداداً للتعلّم من البريطانيين. وكمجتمع، تُظهر ألمانيا موهبة إجماع رائعة، تنعكس في نجاح تمثيل العمال في مجالس إدارة الشركات، وينتمي مليون شخص إلى فرق الإطفاء المحلية التطوعية. تعدّ الإنتاجية الألمانية موضع حسد العالم برغم ساعات العمل الأقصر في معظم البلدان.

ومنذ قيام الدولة في العام 1871؛ كان نصف العمر الافتراضي لألمانيا الحديثة " قصة رعب وحرب وديكتاتورية،" وفقاً لملاحظة "كامبفنر"، لكنَّ النصف الأخير كان عبارة عن سرد للتكفير عن ذنوبها والاستقرار والنضج، و"لم تحقق أي دولة الكثير من الأمور الجيدة في هذا الوقت القصير، إذ تقف ألمانيا كحصن يُمثّل مفهوم اللباقة."

اقرأ أيضاً: بعد ميركل.. هل ماريو دراغي هو زعيم أوروبا الجديد؟

كل ما سبق يبدو صحيحاً، إذ يدين نجاح ألمانيا بالكثير لفهمها الواقعي لمكانها الوسطي في العالم، على عكس طموح بريطانيا المستمر والأحمق بأن تكون "قوة عظمى في الجيب"، على حد تعبير مراسل أمريكي عمل لفترة طويلة في لندن.

كما أظهرت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل نفسها لما يزيد عن 15 عاماً في المنصب كأكثر "رجل دولة" إثارة للإعجاب على المسرح الأوروبي. وقبل جيل من تولي "ميركل" السلطة؛ طرح هنري كيسنجر سؤاله الخطابي الشهير: "إذا أردت التحدث إلى أوروبا، بمن أتصل؟"، فكانت الإجابة الدائمة هي الاتصال بالمستشار الألماني، وليس رئيس وزراء بريطانيا، مما أثار استياء ساسة ويستمينستر.

لكن حتى الآن، يبقى مصدر فزع الكثيرين منّا في أوروبا، وبريطانيا أيضاً، هو رفض ألمانيا المستمر لقبول دور على المسرح الدولي، وتحمّلها مسؤولية تتناسب مع ثروتها، وسلطتها، ووضعها الديمقراطي، وأولويتها القارية.

البديل الفرنسي

وصف "شولتز" خط أنابيب "نورد ستريم 2" بأنَّه "مشروع للقطاع الخاص" لا علاقة له بأوكرانيا، وظهرت مؤشرات في الأيام العشرة الماضية فقط على أنَّه يشعر بالحرج من رد الفعل الغربي الغاضب حيال رفضه الخلاف مع موسكو.

شدّد "شولتز" من لهجته، وأرسل 350 جندياً إلى ليتوانيا، وإن كان الغرض من ذلك ذلك فقط، كما نفترض، هو القيام بمهمة إنقاذ صغيرة. وأبحر يخت "بوتين"، يوم الأربعاء قبل موعده من حوض بناء السفن في هامبورغ، حيث كان يجري تجديده، ربما لأنَّه خشي احتجازه.

ما تزال هناك أسباب لتغذية بارقة أمل في أن يمنع الكرملين غزو أوكرانيا، ولكن ليس خوفاً من الانتقام؛ بل لأنَّ إبقاء الغرب في حالة توتر عصبي قد يناسبه بشكل أفضل، لبعض الوقت على الأقل، من التعجيل بالمواجهة.

مع ذلك، نواجه نحن الأوروبيين صعوبة مستعصية على الحل، ونحن نحتاج إلى موقف دفاعي مشترك صارم يُدرك عدم احتمالية تحمّل الولايات المتحدة للضغط إلى الأبد، ويبقينا على قيد الحياة ليس للغد أو اليوم التالي، بل لعقود مقبلة. يُمكن أن يكون لهذا الموقف مصداقية فقط في حال أبدت ألمانيا استعدادها للقتال، وليس كما تبدو اليوم.

حتى الآن، يتطور سيناريو غير قابل للتصديق مفاده أنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد يؤمن بإعادة انتخابه في أبريل، وظهوره كشريك أوروبي تفضِّله الولايات المتحدة، في ضوء تردد الحكومة الألمانية، ونفورها من التحرك. لا تحب واشنطن التعامل مع الفرنسيين الزئبقيين، ولكن يبدو أنَّهم الرهان الأفضل من حكومة برلين الضعيفة.

تتضح هنا مفارقة شاملة تعكس تماماً ما حدث في القرن العشرين. تعامت بريطانيا وفرنسا قبل الحرب العالمية الثانية عن الخطر الذي شكّلته النزعة العسكرية النازية لفترة طويلة، ودفع أجدادنا ثمناً باهظاً. تُبدي بريطانيا وفرنسا الاستعداد للوقوف في وجه "بوتين"، ولكنَّ الحكومة الألمانية وشعبها حفروا رؤوسهم بعمق وبإصرار في الرمال، مما يدفعنا للتساؤل: "هل ما تزال أوروبا تدفع ثمن أدولف هتلر؟".

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

برلين

1 دقيقة

2°C
غيوم قاتمة
العظمى / الصغرى /
30.6 كم/س
83%
الآراء الأكثر قراءة