يعكس ما جاء في تقرير مجلس مراقبة الاستقرار المالي السنوي لعام 2021 الصادر يوم الجمعة، والذي يُقدَّم إلى "الكونغرس"، رؤية المسؤولين عن التمويل في الحكومة طوال القرن العشرين تجاه العملات المشفرة، وتحديداً العملات المستقرة، ويؤكد تركيزهم فقط على التحديات التي يواجهها النظام، لا المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها.
لكن يبدو أن مؤلِّفي التقرير فاتتهم حقيقة أن أحد أبرز أسباب ظهور "بتكوين" عام 2008 كان عدم الثقة بالنظام المالي التقليدي، كما أنهم عندما يشيرون إلى تقلبات "بتكوين" باعتبارها تهديداً للاستقرار المالي لم يأخذوا في الاعتبار أن التقلب يقاس بالدولار مقابل كل عملة من "بتكوين"، ما يعكس انعدام الثقة بشأن كل من الدولار و"بتكوين".
قد لا يعتقد حاملو "بتكوين" بالضرورة إمكانية شراء 10 سيارات فارهة في المستقبل بعملة واحدة، لكن يمكنكهم شراء سيارة فارهة اليوم مقابل عملة واحدة. في المقابل، يخشى كثير من احتمال احتياجهم إلى 500 ألف دولار لشراء نفس السيارة في غضون 10 سنوات، أو أن الدولارات قد لا يجري قبولها مطلقاً، أو أن الدولارات التي يمتلكونها قد تُفرَض ضرائب عليها أو يمكن خسارتها خلال أزمة مالية.
مخاوف التضخم
من المؤكد أن الدافع الرئيسي لارتفاع قيمة عملة "بتكوين" من 5 آلاف دولار إلى 50 ألف دولار خلال العامين الماضيين يرجع إلى مخاوف التضخم والحرب والعجز غير المنضبط، ومقترحات فرض ضرائب على الثروة، والسياسة النقدية التيسيرية غير المسبوقة، وتفاقم الوباء، واحتمال تخلُّف الولايات المتحدة عن سداد الديون بمعدل أكبر من أي دولة أخرى، ما أحدث تغييراً في أساسيات اقتصاد العملات المشفرة.
بالنسبة إلى مدير مخاطر محترف، قد تكون تقلبات "بتكوين" مفيدة للاستقرار المالي لأنها تظهر أن للأصل قيمة مستقلة عن قيمة الدولار، فيما قد تشكل الأصول المرتبطة بالدولار مخاطر على الاستقرار لأنها ستفقد قيمتها بشكل جماعي في نفس الوقت خلال الأزمات المالية.
يشبه ترسخ الاعتقاد بأن الدولارات قيمة غير قابلة للتغيير الأصول في الأديان، فيما تشبه الأصول المتقلبة البدع (فشل تقرير مجلس مراقبة الاستقرار المالي في الإشارة إلى احتمال وجود أي مشكلة من حكومة الولايات المتحدة مثل التخلف عن السداد، والحرب، والإغلاق، وضريبة الثروة، والتنظيم المنحرف، والإنفاق المفرط، والإجراءات السلبية للاحتياطي الفيدرالي، لذلك قد يخشى عديد من المستثمرين تلك المخاطر أكثر من مشكلات العملات المشفرة). توجد سيناريوهات كارثية عديدة قد تكون "بتكوين" والعملات المشفرة الأخرى عوامل للحدّ من تداعياتها لاحتفاظها بالقيمة وتسهيلها المعاملات عند فشل الأصول وآليات الدفع التقليدية.
بطبيعة الحال لن يدعم الوضع الحالي لاقتصاد العملة المشفرة الاقتصاد العالمي، إذ لا يزال يفتقر إلى الحجم المناسب من حيث عدد المستخدمين والبنية التحتية، فيما قد يساعد في عدد قليل من الاستخدامات، ولكن استثمار عشرات الآلاف من الأشخاص الأذكياء لعشرات المليارات من الدولارات لتطوير طرق بديلة لتنظيم النشاط الاقتصادي –بعيداً عن المؤسسات والحكومات الحالية– قد يزيد الأمر قوة.
أكثر مصداقية واستقراراً
لم يتأثر التشفير بما يتعرض له من عديد الأخطاء مثل الاختراق والاحتيال والتنافس داخلياً والفشل أحياناً، بل ساعدت تلك الأخطاء النظام على التطور ليصبح أكثر مصداقية واستقراراً. فما يجعل الأمر أكثر أماناً هو التجربة وتنوع النهج، فحتى لو أصبحت قيمة كل العملات المشفرة صفراً في الغد فسنكون قد تعلمنا كثيراً من تلك التجربة.
تتضمن رؤية مجلس مراقبة الاستقرار المالي للعملات المستقرة ادعاء التقرير أنها ومن دون دعم تشهد استقراراً وتطوراً لتجنب تقلب أصول التشفير الأخرى، وهو ما يعني عدم التعرض للعملات المشفرة أو شراء أي منها في الوقت الذي يحتفظ فيه جميع من أعرفهم من مستخدمي العملات المستقرة باستثمارات تشفير كبيرة.
القوانين التي يضعها النظام هي السبب الحقيقي وراء استخدام الناس للعملات المستقرة، إذ تجعل تلك القوانين من الصعب تحويل الأصول المشفرة إلى تقليدية. فابتكار النظام للعملات المستقرة يشبه ما حدث مع صناديق سوق المال في السبعينيات للالتفاف على القيود الحكومية على الفوائد التي يمكن أن تدفعها البنوك للمودعين الأفراد، في الوقت الذي عانى فيه الاقتصاد من تضخم مكون من رقمين. وحاربت الجهات التنظيمية صناديق أسواق المال لعشر سنوات لأنها ترغب في خلق مشكلات محتملة للأفكار الجديدة بهدف التخفيف من أضرار أخطائهم، لكنهم عكسوا الاتجاه بعد ذلك عندما تراجع التضخم وانخفضت الفائدة التي تدفعها البنوك على الحسابات الجارية، ولم تعُد لديهم حاجة إلى تلك الحرب ليتحولوا إلى السيطرة على تلك الصناديق، الأمر الذي أصبح يشكل مخاطر على النظام المصرفي بدلاً من أن يتركوها لتصبح بديلاً مستقلاً.
بيع الأصول بأسعار رخيصة
ما يثير قلق مجلس مراقبة الاستقرار المالي بشأن العملات المستقرة كونها مثل أي أصل يعِد بتقديم قيمة محددة في المقابل، مثل الحسابات المصرفية وصناديق سوق المال، وأنه في حالة وجود شكوك حول قيمة تلك الأصول فقد يطالب حاملوها باسترداد القيمة، ما سيضغط على قيمة الأصل ويؤدي إلى "عدم قدرة البنك على السداد"، الأمر الذي يحمل في طياته عواقب وخيمة لإمكانية بيع حاملي الأصول المستقرة بأسعار رخيصة للغاية، وفقدانهم القدرة على استخدامها لإتمام المدفوعات.
صحيح أن العملات المستقرة -سواء كانت مضمونة أو خوارزمية- أقل أماناً من الحسابات المصرفية وصناديق أسواق المال الخاضعة للجهات التنظيمية الأمريكية، ولكن بالنظر إلى الاستقرار فإن ذلك الأمر ليس النقطة الرئيسية، إذ تتنوع المخاطر التي يديرها البنك بالنسبة إلى العملات المستقرة لأنها مستقلة إلى حد كبير عن الاقتصاد المنظم، ما يضيف إلى تنوعها مخاطر أكبر وعلى نطاق واسع.
ليست الأصول الخطرة هي التي تهدد الاستقرار، ولكنها قد تجعل النظام أكثر أماناً، لأنه في حالة قيام مجلس مراقبة الاستقرار المالي بحظر العملات المستقرة فسوف تفقد مصدراً مستقلاً لاستقرار قيمتها، كما أنه اذا استمر مجلس مراقبة الاستقرار المالي في تنظيم الأصول المستقرة لأهداف أَمنية فإني أعتقد أن المخاطر النظامية ستكون وقتها أكثر، لا أقل.
ربط الأصول بالنظام المالي
يجب أن تُربَط تلك الأصول أكثر بالنظام المالي الحالي، ووقتها سيصبح الانخفاض الملحوظ في المخاطر أكبر بكثير من التخفيض الفعلي للمخاطر.
تقف الجهات التنظيمية أمام خيار استراتيجي، إذ يمكنهم تبني العملة المشفرة وجعلها أكثر أماناً أو عزلها عن النظام المالي التقليدي، فالنهج المختلط الحالي يخلق منطقة حدودية فوضوية تشمل العملات المستقرة وصناديق الاستثمار المتداولة في "بتكوين" والعقود الآجلة والتمويل اللامركزي. ويكمن قلق مجلس مراقبة الاستقرار المالي بشأن تلك المنطقة الحدودية في أنها فوضوية ولا يمكن التنبؤ بها، في الوقت الذي دائماً ما تأتي فيه الأزمات المالية من مناطق مستقرة، لا من الفوضوية. ولذلك لا بد من اتباع نهج واضح ومتسق لجميع العملات المشفرة حتى يُقضى على تلك الفوضى الحدودية من خلال خيارين، إما أن تصبح جزءاً من النظام المالي، وإما أن نصل إلى اقتصاد بديل خارج النطاق التنظيمي.