بلومبرغ
إنها حركة لا يمكن تصورها تقريباً حتى بالنسبة إلى معظم المستثمرين المغامرين في "وول ستريت"، وذلك خوفاً من الوقوع في مرمى نيران الجهات التنظيمية، إلا أن بيل هوانغ صاحب المليارات راهن وخسر، فقد استخدم الرجل الذي يقف وراء "أركيغوس كابيتال مانجمنت" (Archegos Capital Management) المشتقات لبناء حصة تزيد على 20% من الأسهم في أحد البنوك الإقليمية الأمريكية، وذلك تحت أنظار الحراس الماليين، وفقاً لأشخاص على دراية بالموضوع. وأدى ذلك إلى ارتفاع حادّ في سعر السهم، وبالتالي إلى انهيار درامي عندما انهارت "أركيغوس".
علاوة على ذلك، أجرت "أركيغوس" والبنك محادثات خاصة حول استثمار كبير لم يُكشف عنه للمساهمين الآخرين، وذلك حسب أشخاص طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لأنه غير مصرح لهم بالتحدث علناً. ومع ارتفاع الأسهم، جمع المسؤولون التنفيذيون في المصرف، الذي يتخذ من دالاس مقراً له، رأسمالاً جديداً قياسياً من مستثمرين لا يعلمون بالمسألة.
اقرأ أيضاً: "كريدي سويس" تبيع أسهماً مرتبطة بأزمة "أركيغوس" المنهارة بمليارَي دولار
تُقدّم الأحداث في بنك "تكساس كابيتال بانكشيرز" (Texas Capital Bancshares) نظرة نادرة حول ما يحدث عندما يغوص حوت مجازف مثل هوانغ في الأسهم، ناهيكم بسهم ينتمي إلى بنك شديد التنظيم. ولطالما كانت السلطات تثبط عزيمة المستثمرين على الانخراط مع المؤسسات المؤثرة التي تجمع الودائع، حتى إنها أحبطت سعي أمثال وارن بافيت لتعزيز بعض رهاناتهم المصرفية المفضلة، إلا أن مخاوفها تمتد أيضاً إلى الخطر الذي يكمن عندما يكون من المحتمل أن يتراجع مساهم كبير بسرعة، ما يؤدي إلى انهيار أسهم البنك ويثير قلق الأطراف المقابلة والعملاء.
اقرأ المزيد: "دويتشه بنك" ينجو من أزمة انهيار "أركيغوس كابيتال"
تحقيقات ومراجعات
في الواقع، يضيف مدى انخراط "أركيغوس" مع "تكساس كابيتال" بُعداً آخر لهذه الملحمة التي دفعت بالفعل إلى إجراء تحقيقات ومراجعات حول العالم، إذ قالت هيئات المراقبة، بما في ذلك هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، إنها تدرس ما إذا كانت القواعد ذاتها بحاجة إلى إعادة صياغة لسدّ أي ثغرات وإزالة المناطق الرمادية من أجل ضمان إفصاح المستثمرين مثل "أركيغوس" عن الرهانات الضخمة.
تعليقاً على الموضوع، قال بيل دادلي، الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي في نيويورك: "إن ما حدث يتعارض مع ما وُضعت اللوائح والقوانين من أجله، وفي حال تحايل الناس على تلك القوانين واللوائح تكون لدينا مشكلة، وعلينا أن نفعل شيئاً حيالها".
ظهرت عوامل تمكين "أركيغوس" –وهم الوسطاء الرئيسيون الذين ساعدوا هوانغ بشكل فعال على المقامرة بثروته وخسارتها- في الإيداعات كمالكين لأكثر من ربع الأسهم القائمة بحلول نهاية عام 2020. وكان من بينهم "كريدي سويس غروب"، التي أصبح المديرون التنفيذيون فيها غير مرتاحين بعد اكتشافهم لحقيقة أن شركتهم وحدها تمتلك 9% من بنك أمريكي إقليمي، بالإضافة إلى "مورغان ستانلي"، الذي ساعد "تكساس كابيتال" على جمع مزيد من الأموال في خضمّ طفرة الأسهم.
السؤال حول ما إذا كان ينبغي على "تكساس كابيتال" الكشف عن دور "أركيغوس" في رفع سعر السهم يتعلق بمدى معرفة البنك وما إذا كانت المعلومات جوهرية. وفي الأشهر التي تلت الحادثة لم تتهم أي جهة تنظيمية البنك علانية بارتكاب مخالفات.
ارتفاع السهم
أدّت موجة الشراء إلى ارتفاع الأسهم المتداعية بنسبة 93% في النصف الثاني من العام الماضي، ما جعل من الشركة الأفضل أداءً في مؤشر "ستاندرد آند بورز ميدكاب فاينانشيال" (S&P Midcap Financials) الذي يتتبع 63 بنكاً إلا أنه كان من بين الأسوأ هذا العام، منذ انهيار "أركيغوس".
من جانبه قال جيريمي كريس، المحامي السابق للسياسة المصرفية في بنك الاحتياطي الفيدرالي: "إنّ امتلاك (أركيغوس) حصصاً كبيرة في الشركات التجارية هي مسألة تستحق النظر، إلا أن وجود مؤسسة إيداع هو مسألة أخرى، إذ إنّ المخاطر أكبر بكثير. ففي حال باع مالك كبير حصته فقد يؤدي ذلك إلى تدافع على البيع".
تستند توصيفات رهانات "أركيغوس" على "تكساس كابيتال"، واتصالات الشركات، والمداولات الداخلية لـ"كريدي سويس"، إلى مقابلات مع خمسة أشخاص مقربين من تلك الشركات.
رفض المتحدثون الرسميون باسم "أركيغوس" و"تكساس كابيتال" و"كريدي سويس" و"مورغان ستانلي" التعليق، كما لم ترفع الجهات التنظيمية دعاوى ضد أي منهم، ولم تظهر أي علامات على تحقيق يستهدف "تكساس كابيتال".
نشأة البنك
أنشئ بنك "تكساس كابيتال" في عام 1998، إذ أسسه جودي غرانت، الذي كان قد أنهى للتو مهمة رفيعة المستوى رئيساً مالياً لشركة "أنظمة البيانات الإلكترونية" التابعة لشركة "جنرال موتورز". وكان الهدف هو بناء قوة إقليمية يمكنها تمويل اقتصاد أكبر من اقتصادات من أمثال كندا وروسيا وأستراليا.
بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ساعد غرانت أحد المصرفيين الاستثماريين التابعين للبنك، وهو بريان جونز، على تأسيس شركة أسهم خاصة بدعم من "تكساس كابيتال". وقد حافظ جونز على استمرار الشركة، وهي "بنكاب بارتنرز" (BankCap Partners)، عندما انضم لاحقاً إلى "أركيغوس" وأصبح رئيس قسم الأبحاث فيها. كما استثمر هوانغ في صندوق "بنكاب" الذي لا يزال قيد التشغيل.
العلامة "المكدومة"
يشار إلى أن جونز شجع هوانغ على إلقاء نظرة على "تكساس كابيتال" وربطه مع إدارته، وفقاً لأشخاص مقربين من الموقف. وقد تلقت الأسهم الضربات على مر السنين بسبب المغامرات السيئة في إقراض مشروعات الطاقة، وأخطاء الإدارة، وما أطلق عليه البنك اسم العلامة التجارية "المكدومة". ومع ظهور جائحة كوفيد-19 انخفضت الأسهم إلى أدنى مستوى لها منذ عقد، وحينها قرر هوانغ أن الوقت قد حان لتحقيق النجاح.
كان مكتب عائلته قد صقل استراتيجية لوضع رهانات ضخمة على الأسهم دون لفت الانتباه إلى المكتب، إذ عادةً ما يشتري الوسطاء الرئيسيون أسهم الشركات، وباستخدام اتفاقية المقايضة يتركون هوانغ يجني المكاسب أو الخسائر مع تحرك السعر. وفي عدد من الحالات وضعت شركته رهانات موازية مع قائمة من الوسطاء الرئيسيين. وفي الإفصاحات التنظيمية أُدرج هؤلاء الوسطاء -وليس "أركيغوس"- على أنهم مالكو الأسهم.
في أواخر عام 2020، قفز سهم "تكساس كابيتال" مع بناء "أركيغوس" لمركز وصل إلى ذروته عند نقطة ما فوق 20% من الأسهم، حسبما قال شخصان مطلعان على الأمر. وبالإضافة إلى استخدام المقايضات، اشترت "أركيغوس" أيضاً بعض الأسهم مباشرة. ولكن نظراً إلى أن هذا الجزء من الرهان كان خجولاً من حصة 5%، فقد خلص مكتب العائلة إلى أنه لا يحتاج إلى الكشف عنه.
داخل "أركيغوس" أعرب بعض الموظفين عن مخاوفهم بشأن ما إذا كان المنظمون سينزعجون إذا علموا بالمركز الإجمالي في البنك. كما قال الأشخاص إن هوانغ وفريقه تجاهلوا تلك المخاوف، وطمأنوا الموظفين أن المحامين قد تحققوا من استراتيجية استخدام المقايضات وأن الأمر على ما يرام، وبالتالي منحت هذه العقود لشركة "أركيغوس" الأثر الاقتصادي الذي يشير إلى حيازتها للأسهم، دون ملكيتها مباشرة.
قال الأشخاص إن "أركيغوس" أبلغت إدارة "تكساس كابيتال" بأنها تبني حصة في البنك بشكل مباشر ومن خلال المقايضات، على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كان المبلغ محدداً أو لا. ورفض المتحدث باسم "تكساس كابيتال" التعليق على ما إذا كان البنك يعرف المدى الكامل لرهان "أركيغوس" أو سعى إلى معرفة ذلك.
"احتمال إساءة"
قال غرانت، مؤسس شركة "تكساس كابيتال"، الذي ذكر أنه تحدث إلى المديرين التنفيذيين في كلتا الشركتين: "كان الجميع يعرف عن مراكز (أركيغوس) ومكانتها كمساهم كبير". ومع ذلك أشار إلى أنه كان يعتقد بأن الحصة كانت أقل من 10%.
فضلاً عن ذلك أوضح غرانت، الذي تنحى عن منصب الرئيس التنفيذي منذ أكثر من عقد، أنه لا يزال قريباً من الإدارة ويمتلك أسهماً في البنك. وأكد أن المحادثات مع مكتب عائلة هوانغ كانت ودية، وأنه أعرب عن دعمه لمديري البنك الحاليين، قائلاً: "لم يحاولوا تأكيد النفوذ".
قال دودلي إن المقايضات والمناقشات الودية لن تفعل كثيراً لتهدئة مخاوف المنظمين. وأضاف المنظم المصرفي السابق: "هناك احتمال بوجود إساءة. ولا يصدر الاحتياطي الفيدرالي أحكامه حول ما إذا كان الشخص الذي استحوذ على الحصة ودوداً أو غير ودود، أو يمكن أن يصبح غير ودود غداً".
بينما أوصلت رهانات "أركيغوس" سعر السهم إلى حالة محزنة، لم يعالج "تكساس كابيتال" علناً دور مكتب العائلة وسبب ظهور قائمة من الوسطاء الرئيسيين فجأة على قائمة أكبر حاملي أسهمه. كما حاول بعض المحللين والمستثمرين تفسير هذه الخطوة الغامضة بالإشارة إلى تعيين روب هولمز المصرفي في "جيه بي مورغان تشيس" رئيساً جديداً لبنك "تكساس كابيتال" في يناير، وهو الرجل الثالث الذي يقود البنك في أقل من عامين.
ثم في فبراير سعى البنك الذي يتخذ من دالاس مقراً له إلى تعزيز رأسماله، بالاستفادة من "مورغان ستانلي" -المدرج أيضاً بين أكبر حاملي الأسهم- للمساعدة في جمع 300 مليون دولار من مستثمري التجزئة إلى حد كبير. وكان جمع الأموال من الأسهم المفضلة هو الأكبر في تاريخ البنك الإقليمي.
قبل إتمام هذه الصفقة بقليل، نشرت هيئة الأوراق المالية والبورصات إرشادات جديدة للشركات التي تتطلع إلى جمع الأموال في أعقاب القفزات الأخيرة في الأسهم، مؤكدة أن المديرين التنفيذيين يجب أن يشيروا إلى أي مخاطر على المستثمرين.
تعليقاً على الموضوع، قال جوشوا ميتس، الأستاذ المساعد في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا: "بشكل عام، تخضع الشركة العامة التي تجمع رأس المال لالتزام مؤكد بالكشف عن عوامل الخطر". وأشار إلى أنه في حال علمت الإدارة أن هناك مستثمراً كبيراً واحداً تؤدي فورة شرائه إلى تضخم سعر السهم مؤقتاً، ولم تفصح عنه، فقد يتسبب ذلك في حدوث مشكلات.
مخاوف المدير التنفيذي
في الأسابيع التي أعقبت قيام "تكساس كابيتال" بجمع الأموال، لامست القيمة السوقية للشركة لفترة وجيزة 4.5 مليار دولار. ثم واجهت "أركيغوس" مشكلات خطيرة.
قررت شركة أخرى في محفظتها، وهي "فياكوم سي بي إس" (ViacomCBS)، استخدام سعر سهمها المرتفع لبيع مزيد من الأسهم، والاستفادة أيضاً من "مورغان ستانلي" لقيادة الصفقة. كذلك أدى الإعلان عن الطرح الثانوي إلى انخفاض السهم بنسبة 9% في اليوم التالي، ما أدى إلى خسارة محفظة "أركيغوس" عالية الاستدانة، وإلى سيل من طلبات الهامش. وسرعان ما بدأت شركات السمسرة الرئيسية في السباق لبيع سلة من الحيازات التي تجاوزت 100 مليار دولار في ذروتها.
في عطلة نهاية الأسبوع التي أعقبت انهيار "أركيغوس" في شهر مارس، قام مسؤول تنفيذي في "كريدي سويس" بمراجعة مراكز "تكساس كابيتال"، وأعرب لزملائه لاحقاً عن مخاوفه من أن حجم الموجودات قد يكون مخالفاً لقواعد الولايات المتحدة، وفقاً لما ذكره شخص مطلع على المحادثات. ومع ذلك كان هناك قدر من الارتياح بين المديرين التنفيذيين لبنك "كريدي سويس". على الأقل لم تجرِ الاستعانة بهم للمساعدة في زيادة رأس المال، كما قال ذلك المسؤول.
في الأشهر الستة التي أعقبت انهيار "أركيغوس"، أعلنت هيئة الأوراق المالية والبورصات أنها تعمل على سلسلة من الإجراءات لإجبار صناديق التحوط، والمكاتب العائلية، ومديري الأموال الآخرين، على الكشف عن مزيد من المعلومات حول معاملات المقايضة الخاصة بهم، وربما حتى منح الجمهور إمكانية الوصول إلى البيانات المجمعة حول هذه الرهانات.
خلال ذلك الوقت، تراجعت "أسهم تكساس كابيتال" بأكثر من الثلث، إلا أن غرانت اقترح أن الرهان على "تكساس كابيتال" كان ذكياً، إذ قال: "لو لم تتداعَ (أركيغوس) لكانت قد جنت كثيراً من الأموال منه".