هناك أسباب عديدة تدفع البنوك المركزية، من بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى سلطة النقد الملكية في بوتان بجبال الهيمالايا، للعمل على دراسة إصدار عملات رقمية أو مشاريع لإصدارها.
أهم هذه الأسباب أنَّ العملات المشفَّرة الخاصة، وما تسمى بالعملات المستقرة تتحوَّل بوتيرة سريعة إلى منافس واسع الانتشار للنقود التقليدية.
وكذلك، لأنَّ العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية يمكن أن تجعل سداد المدفوعات والسياسة النقدية أكثر كفاءة ومباشرة، علاوةً على الحفاظ على دور الحكومات في هذه اللعبة.
غير أنَّ العملات الرقمية للبنوك المركزية تمتلك القدرة على خلخلة استقرار كل شيء، من النظام المصرفي التقليدي إلى قوة الدولار الأمريكي، كما تخشى السلطات وقوع اضطرابات تهدِّد استقرار النظام المالي العالمي بأكثر مما يحتمل.
مقايضة صعبة
هناك مقايضة صعبة ودقيقة؛ فكلما زادت القيود والرقابة في بنية العملات المشفَّرة التي تصدرها الدولة، انخفض احتمال انتشارها واستخدامها في المعاملات.
إنَّ الخصوصية جزء من هذه العملية؛ وخلافاً للعملات الورقية التقليدية، يمكن متابعة العملات الرقمية للبنوك المركزية متابعة دقيقة لأنَّ البيانات المتعلِّقة بهوية ملَّاكها، وكذلك معاملاتهم تكون جميعها مسجَّلة في قاعدة بيانات "البلوكتشين"، وهي نماذج تشفير ووظائف جميع العملات الرقمية.
وسوف يرجع الأمر إلى البنوك المركزية في اختيار مراقبة الناس مراقبة دقيقة، وكيفية إجرائها من عدمه.
بالنسبة للولايات المتحدة، تشكِّل العملة المشفَّرة للبنوك المركزية مشكلة جيوسياسية، لا تتمثَّل في أنَّ اليوان الرقمي الذي ستصدره الصين سيحتل مكانة الدولار باعتباره العملة المفضَّلة في التجارة الدولية، وإنَّما في قدرة العملات الرقمية على تجاوز نظم الدفع العابرة للحدود.
وقد تعرَّض "بنك التسويات الدولية" – البنك المركزي للبنوك المركزية – لهذه القضية في دراسة نشرت في 30 سبتمبر الماضي.
التحكم في التحويلات
في الوقت الحالي، إذا كنت تريد تحويل دولارات إلى مختلف مناطق العالم – وهو ما يفعله الكثير من الأفراد والشركات يومياً – فإنَّك تضطر إلى استخدام شبكة للمدفوعات الدولية، مثل شبكة "سويفت" (SWIFT).
وعند نقطة معينة في هذه العملية، تمر أموالك من خلال أحد البنوك التي تحمل ترخيصاً من الولايات المتحدة بتسوية المدفوعات.
هذه العملية تعطي سلطة للولايات المتحدة تتجاوز حدودها، لأنَّها تستطيع أن تطلب من البنوك رفض إجراء أي مدفوعات دولارية لبنوك أجنبية معينة (أو حتى بلاد بأسرها).
وهذه هي الطريقة التي يتمُّ من خلالها تطبيق العقوبات المالية ضد بلدان مثل إيران وروسيا، أو من خلال أشخاص تعتبرهم أشراراً في أيِّ مكان في العالم.
مرونة أكبر في التعاملات
تستطيع العملات الرقمية، بما فيها تلك التي تصدرها وتسيطر عليها البنوك المركزية، أن تتجاوز كل هذه العقبات. فالعملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية يمكن انتقالها بين مستخدميها مباشرة، وبكل سهولة عبر الحدود.
ومن ثمَّ يمكن تغييرها إلى الدولار، أو إلى أي عملة أخرى إذا كان شخص آخر في البلد نفسه يمتلك العملة الخضراء، وهو أمر شائع بين كثير من البنوك والأشخاص.
هذه النتيجة ليست سيئة بالنسبة للحكومات التي تريد إضعاف النفوذ المالي للولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم. ومن بينها الدول الأوروبية، كما يلاحظ جوش يانغر، المحلِّل لدى بنك "جيه بي مورغان تشيز" في ذيل تقرير كتبه حول العملات الرقمية للبنوك المركزية في مايو من العام الماضي.
ويوضِّح يانغر أنَّ: "إصدار عملة رقمية بالنسبة للدول مرتفعة الدخل، وخاصة بالنسبة للولايات المتحدة، يعدُّ تمريناً في إدارة المخاطر الجيوسياسية".
ويعدُّ ذلك أحد الدوافع القوية حتى تطوِّر الولايات المتحدة عملة رقمية خاصة بها. فلن تستطيع الدفاع عن مصالحها إذا كانت خارج اللعبة، في حين يستخدم الناس العملات الرقمية في كل مكان. كما أنَّ المخاوف نفسها تنطبق على جميع العملات الأخرى.
ملياردير أمريكي: هوس العملات المشفرة "دعوة جهادية" ضد الدولار
تهديد النظام المصرفي
غير أنَّ إصدار عملة رقمية من البنك المركزي يشكِّل تهديداً بالنسبة للنظام المصرفي التقليدي، وبالنسبة للاستقرار المالي. إنَّ هذه العملة يمكن أن تصبح بديلاً جيداً عن الاحتفاظ بالنقود في ودائع بنكية، وقد تكون التأثيرات الضارة لذلك على البنوك أسرع وأشد تدميراً إذا استطاع الناس استبدال وديعة في مصرف خاص بنقود رقمية عند البنك المركزي بسهولة.
كما يمكن أن يرى الناس أنَّ من الحكمة الاحتفاظ بالنقود في صورة عملة رقمية، إذا تجاوزت أرصدتهم الأرقام التي تحظى بتأمين على الودائع مدعوم من الحكومة.
إذا بدأت البنوك تفقد كثيراً من ودائعها التي تذهب إلى العملات المشفَّرة، فربما أفسد ذلك دورها في الاقتصاد، فضلاً عن نموذج ممارسة نشاطها على نحو خطير.
وستضطر إلى البحث عن التمويل من مصادر أخرى حتى يتناسب مع ما تقدِّمه من قروض مثل: إصدار سندات طويلة الأجل، أو "كمبيالات".
وربما يترتب على ذلك زيادة تكاليف التمويل، مما يعني أنَّها سوف تفرض سعراً أعلى للفائدة على قروضها، أو تقلِّص عمليات الإقراض، أو الاثنين معاً.
حلول لمواجهة المخاطر
هناك طرق عديدة لإدارة هذه المخاطر، إذ تستطيع البنوك المركزية فرض قيود على كمية العملات المشفَّرة التي يسمح للأفراد بالاحتفاظ بها أو تحويلها في أيِّ وقت من الأوقات. وهي تمتلك المعلومات المطلوبة كافةً، وذلك بسبب طبيعة العملة المشفَّرة نفسها.
بل ويمكن أن تصدر العملات المشفَّرة للبنوك المركزية بصورة تجعلها أقل جاذبية، وذلك عبر تطبيق أسعار فائدة عليها تقل عن فوائد الودائع المصرفية. ويستطيع البنك المركزي أن يفرض سعر فائدة سلبي على عملته في فترة مهددة بالاضطرابات، أو إذا ارتفع الطلب عليها إلى مستوى أعلى مما يراه مناسباً.
غير أنَّ ذلك ينطوي على عقبة مهمة؛ فكلما وضعت قيوداً على استخدام أي عملة، أو تجسست على مستخدميها، أو غيَّرت تكلفة حيازتها أو قدرتها الشرائية؛ تصبح هذه العملة أقل جاذبية للاستخدام. إنَّ العملات المشفَّرة الخاصة تحظى بشعبية بشكل جزئي، بسبب أنَّها خارجة عن شبكة الرقابة الحكومية.
إنَّ إدارة مخاطر العملة الرقمية التي يصدرها بنك مركزي ليست صعبة بالضرورة، وإنَّما تكمن الصعوبة في اتخاذ القرار حول مدى صرامة الرقابة عليها وتنظيمها.