بلومبرغ
تخيل أن تدخل لحسابك الخاص لدى الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة عبر الهاتف أو الكمبيوتر وتحول النقود بلمسة فورية لأي مكان. لا وسطاء، لا رسوم، لا انتظار للتحقق من الإيداع و المدفوعات.
مسؤول أمريكي: منصات العملات المشفرة مليئة بالاحتيال والمخاطر
تكمن جاذبية الدولار الرقمي في هذه الرؤية، وهي حلم المستقبليين ومقتل المصرفيين. ليس الأمر متعلقاً بدفع أصدقاء البتكوين أو هواة العملات المشفرة الأخرى لهذه الفكرة المربكة، بل بالنخبة السياسية والمالية في أمريكا. حيث تعهد رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أن يقدم أبحاثاً جديدةً وحزمة من المسائل المتعلقة بالسياسة النقدية أمام الكونغرس للتداول خلال الصيف الحالي. كما يحشد كريستوفر جيانكارلو، رئيس لجنة تداول العقود الآجلة للسلع سابقا، الدعم والتأييد للفكرة عبر منظمة "مشروع الدولار الرقمي" غير الربحية، بالشراكة مع عملاق الاستشارات "أكسنتشور" (Accenture). قال جيانكارلو أمام لجنة فرعية مصرفية في مجلس الشيوخ الأمريكي أخيراً: "ينبغي علينا تحديث الدولار" حفظاً لاستمرار القيم الأمريكية مثل الاقتصاد الحر وحكم القانون.
مكانة الدولار
يبقى الدولار راهناً عملة الاحتياط العالمية الأولى وأداة الإبراء القانوني المفضلة في التجارة والمعاملات المالية الدولية. بيد أن إضافة جديدة مثل نسخة مشفرة قد تهدد هذه الهيمنة، وهذا جزء من أسباب تعاون بنك الاحتياطي الفيدرالي في ولاية بوسطن مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بهدف تطوير نماذج تجريبية على منصة للدولار الرقمي. تقدمت حكومات أخرى، خاصة حكومة الصين، نحو رقمنة عملاتها. يساور الأجهزة التنظيمية والرقابية في هذه الدول القلق من تضاعف احتمالات الاحتيال مع زيادة إقبال الأفراد على العملات المشفرة.
قال ستيفين مونشن، وزير الخزانة في إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، إنه لا يرى حاجةً آنية لاستحداث دولار رقمي. فيما عبّرت خليفته جانيت يلين عن اهتمامها بدراسة الأمر. إن دعم إصدار الدولار الافتراضي عابر للولاءات الحزبية في الكونغرس الأمريكي، صاحب الكلمة الفصل في استحداثه. ألمح كل من السيناتور إليزابيث وارن، وتنتمي إلى الحزب الديمقراطي بولاية ماساتشوستس، والسيناتور جون كيندي، وهو جمهوري من ولاية لويزيانا، لانفتاحهما على الفكرة خلال جلسة استماع في يونيو. أكدت وارن وديمقراطيون آخرون على إمكانية أن يقدم الدولار الرقمي خدمة مجانية لعائلات ذات دخل منخفض تدفع رسوماً مصرفيةً مرتفعةً أو لفظها النظام المصرفي.
يرى كيندي وزملاؤه الجمهوريون في الدولار الرقمي شبيهاً مالياً لسباق الفضاء الذي تبارت فيه الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي في معركة على المكانة والقوة وميزات الفاتحين. الصين هي الخصم في هذه المرة، وقد أعلنت خلال الشهر الماضي أن أكثر من 10 ملايين من مواطنيها باتوا مؤهلين للمشاركة في التجارب القائمة.
المركزي منافساً للبنوك
ستأتي أقوى معارضة لإصدار دولار افتراضي من البنوك الأمريكية، فهي تعتمد على 17 تريليون دولار من الودائع في تمويل كثير من أنشطتها الأساسية، وتحقيق الأرباح من الفارق بين ما تدفعه في صورة فوائد لأصحاب الحسابات وما تحصل عليه مقابل القروض. كما تربح البنوك مليارات الدولارات سنويا من السحب على المكشوف، وماكينات الصراف الآلي، ورسوم إدارة الحسابات البنكية. بإصداره عملة رقمية، يدخل الاحتياطي الفيدرالي فعلياً في منافسة مع البنوك على جذب العملاء.
حذر جريج باير رئيس معهد السياسة المصرفية الذي يمثل مصالح القطاع المصرفي، في تدوينة حديثة، أن الشركات ومن يرغبون في شراء المنازل وعملاء آخرين سوف يواجهون صعوبات أكبر وتكلفة أكثر عند اقتراض الأموال إذا تعدى الاحتياطي الفيدرالي على دور القطاع الخاص التاريخي والمحوري في نشاط التمويل. وكتب باير، الذي كان مساعداً سابقاً لوزير الخزانة في إدارة كلينتون: "سيكتسب الاحتياطي الفيدرالي سلطة فوق العادة إن حدث ذلك."
يحذر بعض الاقتصاديين أن إصدار دولار رقمي قد يخلّ توازن النظام المصرفي. تقدم الحكومة الفيدرالية للمودعين في البنوك تأميناً قدره 250 ألف دولار عبر برنامج نجح في درء تفريغ الحسابات منذ الكساد الكبير. لكن حالة ذعر مالي على غرار ما وقع في عام 2008، ربما تدفع المودعون لسحب كافة مدخراتهم لدى البنوك بلمسة واحدة وتحويلها إلى التزامات مباشرة على الحكومة الأمريكية. قال البروفسور إسوار براساد، وهو أستاذ بجامعة كورنل ألف كتابا عن العملات الرقمية ينشر في سبتمبر: "في حالة أزمة، فإن ذلك فعلاً قد يزيد ذلك البلّة طيناً."
عملة رقمية تابعة للبنك المركزي قوية وفعالة، أو منتج منزوع الدسم خفيف القوام لمحاباة للبنوك الكبيرة
بديل رديء
مازالت جدوى إصدار دولار افتراضي من عدمه موضع نقاش. تحظى العملات الرقمية بجاذبية محدودة لدى الشركات الكبيرة، لأن المدفوعات بين البنوك عبر الحدود يتم بسرعة فعلاً. ربما حقق المستثمرون الأوائل في عملة البتكوين عائداً استثنائياً على الاستثمار مع ارتفاع قيمتها، لكن تذبذبها الشديد يجعلها بديلاً رديئاً عن عملة مستقرة تدعمها الحكومة مثل الدولار.
ثمة صنف جديد من العملات المشفرة يسمى العملة المستقرة "ستيبل كوين" وقد تمثل تلك تهديداً لهيمنة الدولار. كحال باقي العملات الرقمية، ستيبل كوين هي عبارة سطور من رموز على سجل مرتبط بالإنترنت لمتابعتها والتحقق من صحتها، لكنها تختلف اختلافاً أساسياً عن "بتكوين" ورهطها. حيث ترتبط قيمتها بعملة سيادية مثل الدولار، وبالتالي توفر الاستقرار إلى جانب الخصوصية.
أعلنت شركة "فيسبوك" في يونيو 2019 أنها تعمل على تطوير عملة مستقرة "ستيبل كوين" اسمتها "ليبرا" ثم أعادت تسميتها لتصبح "دييم". يمثل عدد مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي العملاق البالغ 2.85 مليار مستخدم نشط على مستوى العالم سوقاً ضخمةً لاختبار العملة الجديدة. يقول براساد: "غيرت هذه الخطوة قواعد اللعبة. ومثلت حافز حركة لكثير من البنوك المركزية".
حماية المستهلك
يساور القلق الجهات الرقابية أيضاً بشأن حماية المستهلك. حيث أن الاستقرار الحقيقي للعملة المستقرة "ستيبل كوين" يحدده استقرار شبكة المشاركين الأفراد الذين يديرونها على شبكة الإنترنت. إذا وقع أي خطأ، فقد يجد أصحاب المحافظ أيديهم خاوية. يشكل هذا الاحتمال ضغطاً على الحكومات حتى تصدر هي بدائلها.
رغم أن الاحتياطي الفيدرالي يدرس فكرة إصدار دولار رقمي منذ عام 2017 على الأقل، مازالت تفاصيل شديدة الأهمية لم تحسم بعد، منها الدور الذي ستلعبه المؤسسات الخاصة. تسمح جزر البهاما، البلد الوحيد الذي أصدر مصرفه المركزي عملة رقمية، للمؤسسات المالية المرخصة بتقديم محافظ إلكترونية لتداول "ساند دولار"، وهو النظير الافتراضي لدولار البهاما.
إذا تدفق المودعون على الدولار الافتراضي، تحتاج البنوك لإيجاد وسيلة أخرى لتمويل القروض. يروج المدافعون عن إصدار دولار رقمي لإمكانية قيام الاحتياطي الفيدرالي بإقراض البنوك حتى تتمكن من تقديم القروض. كما يمكن للحكومة أيضاً، لمساعدة البنوك في الحفاظ على الودائع، أن تضع حدا أقصى لما يسمح للمواطنين بحيازته من العملة الرقمية. في جزر البهاما يبلغ هذا الحد الأقصى 8 آلاف دولار.
يحذر ليف ميناند، الذي عمل مستشارا للخزانة في إدارة أوباما، من القيام بهذه التنازلات، زاعماً بأن الأولوية ينبغي أن تكون للسماح بالحصول على العملة الرقمية الصادرة من البنك المركزي بلا أي قيود. لأن هذه الفكرة قد تحتاج إلى تمرير تشريع خاص، يقول ميناند، الذي يحاضر حاليا في مدرسة القانون بكولومبيا، إن الكونجرس يواجه قرارا صعبا: إما "عملة رقمية تابعة للبنك المركزي قوية وفعالة، أو منتجٍ منزوع الدسم خفيف القوام لمحاباة للبنوك الكبيرة".