بلومبرغ
في الوقت الذي يكافح فيه العالم لمحاربة التغير المناخي باستخدام أنواع وقود أكثر صداقة للبيئة، يظهر تَحدٍّ جديد وضعته جائحة الوباء في الواجهة، هو الارتفاع الحادّ في أسعار الموادّ الغذائية حول العالم.
فمرة أخرى، آثار الطلب المتزايد على المحاصيل، مسألة مدى جدوى اعتماد الدول على الإيثانول والديزل المتجدد، في إطار جهودها لإنقاذ الكوكب من الاحتباس الحراري.
فكل من الذرة والصويا وزيت النخيل والسكر، باتت تُعالَج في العالم بأسره بشكل متزايد لإنتاج الوقود الحيوي، وهو ما ساهم في الارتفاع المذهل لأسعار السلع. هذا الارتفاع في الأسعار بات يطال كل شيء، من علف الحيوانات إلى المعكرونة والتاكو وحتى الشيكولاتة، وهو ما يضع محافظي البنوك المركزية في موقف صعب بين مساعي التصدي للتضخم من جهة، وتحفيز الاقتصادات المنهكة من جهة أخرى.
مشاريع الوقود الحيوي
وباتت مشاريع مثل مشروع شركة "فيليبس 66" لتحويل مصفاتها لتكرير النفط بمنطقة سان فرانسيسكو، إلى إحدى أكبر محطات إنتاج الوقود المتجدد في العالم، تساهم في ارتفاع أسعار السلع وتزيد الضغط على المحاصيل، في وقت يعاني فيه المزارعون في الدول النامية من سوء الأحوال الجوية. وبينما تستهلك الصين كثيراً من الإمدادات، فإن الطاقة الإنتاجية الأمريكية للديزل المتجدد من المتوقع أن تقفز بمقدار ستة أضعاف تقريباً بحلول نهاية عام 2024، حسب "جيه بي مورغان تشيس آند كو".
في الوقت نفسه تؤدي أسعار الغذاء الأكثر تكلفة، إلى تفاقم آثار فيروس كورونا على المشكلات الاقتصادية مثل زيادة مستوى الجوع والبطالة في العالم.
وعن هذا يقول جون جانسن، نائب رئيس الشراكات الاستراتيجية لدى "مجلس اتحاد حبوب الصويا": "دخول شركات النفط القديمة لهذه السوق، يغيّر القطاع بشدة"، وأضاف: "ضُيّق الخناق في السوق، لدرجة أثرت على الجانب الغذائي فجأة". جدير بالذكر أن المجلس يمثل نحو نصف مليون مزارع للصويا في الولايات المتحدة.
أسعار الزيوت آخذة في الارتفاع
وكانت أسعار زيت حبوب الصويا والذرة وزيت النخيل ارتفعت بأكثر من الضعف خلال عام واحد، فيما قفز سعر السكر بنحو 50%، مما ساعد على رفع تكاليف الموادّ الغذائية إلى أعلى مستوياتها في سبعة أعوام. وما يحصل حالياً يذكّرنا بالدورة الفائقة للسلع، التي قادتها الصين بداية هذا القرن، والتي كانت مقترنة مع حركة التوجه نحو الوقود الحيوي في كل من الولايات المتحدة والبرازيل وأوروبا، متسببة في دفع العالم نحو أزمة غذائية في حينها.
ومن المعروف أن الوقود الحيوي يصدر غازات دفيئة أقلّ من المنتجات النفطية، وهو لا يتطلب عمليات حفر أو تكسير هيدروليكي لإنتاجه. مع ذلك فإن تحقيق أهداف الدول الساعية إلى انبعاثات صافية صفرية سيتطلب منها في النهاية التخلص التدريجي من محركات الاحتراق الداخلي، وهو ما يصعّب استمرارية استخدام الوقود البديل على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك تأتي الآثار السلبية على البيئة والناتجة عن زراعة هذه المحاصيل على نطاق صناعي.
شركات الوقود الأحفوري تتطلع إلى الديزل المتجدد
وفي الوقت ذاته تتطلع مصافي التكرير الأمريكية إلى الاستفادة من الإعانات الفيدرالية والحكومية الناتجة عن التوجهات الخضراء، فقد أعلن معظم الشركات النفطية عن خطط شاملة للتحول إلى إنتاج الديزل المتجدد، الذي يتطابق كيميائياً مع المنتج النفطي التقليدي إلى حد كبير، وهو ما يسهّل نسبياً اعتماد شركات الوقود الأحفوري له.
فقد انضمت شركات تكرير عديدة إلى هذا التوجه، من بينها "ماراثون بتروليوم" و"فاليرو إنيرجي" و"هولي فرونتير" وشركة الملياردير كارل إيكان "سي في آر إنيرجي".
وبالإضافة إلى زيت الصويا، تضمّ الموادّ الأولية الأخرى لإنتاج للديزل الأخضر، كلا من الدهون الحيوانية المهملة وزيت الطهي المستخدم، وزيت الذرة المقطَّر الذي يعد مادة ثانوية تُستخدم لإنتاج الإيثانول.
وفي حال إدخال هذه المشاريع كافة المخطط لها إلى الخدمة، فإن القدرة الإنتاجية للديزل الأمريكي المتجدد سترتفع من نحو 827 مليون غالون حالياً، إلى 4.9 مليار سنوياً بحلول نهاية عام 2024. وهذا يعني أن الضغط على أسعار زيت الصويا سيستمر على الأرجح، بخاصة أن قدرة الولايات المتحدة على استخلاص الطاقة، لن تتمكن من اللحاق بالركب حتى عام 2023 على الأقلّ، وفقاً لما كتبه فيل غريش، المحلل لدى "جيه بي مورغان"، في مذكرة صدرت خلال شهر أبريل.
وهذا النقص في القدرات دفع شركات مثل "آرتشر دانيلز ميدلاند" إلى الاستثمار في مصانع جديدة في هذا المجال لتكون مستعدة لسوق سريعة التغير. وفي بداية مايو قال خوان لوتشيانو، الرئيس التنفيذي لشركة "آرتشر دانيلز ميدلاند"، في لقاء مع محللين: "سنبقى بقرب عملائنا في مجال الأغذية وكذلك في مجال النفط"، وأوضح أن شركته تبني علاقات مع عملاء الطاقة فيما تثقف العملاء في مجال الموادّ الغذائية حول "هذا النوع من الطلب الجديد القادم".
الزيوت النباتية
ومن الملاحَظ أن الطلب على الزيوت النباتية بات ينمو بسرعة كبيرة لدرجة ستدفع بأمريكا الشمالية إلى التحول من كونها منطقة ذات فائض، إلى منطقة تواجه نقصاً في الزيوت النباتية خلال الأعوام القليلة المقبلة، وفقاً لغريغ هيكمان، الرئيس التنفيذي لشركة "بانج"، أحد كبار تجار المحاصيل في العالم، الذي قال ذلك في مؤتمر عُقد مؤخراً.
وقد جرت العادة أن تعمل مصانع معالجة الصويا على سحق البذور العالية بالبروتين والمستخدمة في تغذية الخنازير والدجاج والماشية، لإنتاج الزيت منها. ويُستخدم الزيت الناتج عن هذه العملية عادة في الطهي وصنع المايونيز ومنتجات تتبيل السلطات، كما يدخل في كل أنواع الأطعمة المصنَّعة مثل البسكويت والخبز. وهو بالإضافة إلى ذلك يشكّل المادة الخام الأولية الأكثر استخداماً في الديزل الأخضر.
وبالنسبة إلى زيت النخيل، وهو زيت الطعام الأكثر استهلاكاً في العالم، فيُعالَج هو الآخر لإنتاج وقود حيوي في كل من إندونيسيا وماليزيا، وهما أكبر الدول إنتاجاً له. وكذلك يُعالَج في أوروبا. وفي الولايات المتحدة يحوَّل 40% تقريباً من محصول الذرة إلى الإيثانول. وقد يؤدي هذا الزخم العالمي للوقود المتجدد إلى الابتعاد عن هذه المواد الغذائية.
مخاطر على الزراعة
وفي البرازيل سيؤدي ارتفاع أسعار الإيثانول على الأرجح إلى تشجيع مزارعي قصب السكر على استخدام مزيد من محاصيلهم لإنتاج الوقود، وهو المنتج الذي بات ينافس استخدام القصب في الحلويات. وبالنسبة لزيت الكانولا، القادم من كندا في المقام الأول، فعلى الرغم من كونه لا يزال غير معتمد حالياً لإنتاج الديزل المتجدد في الولايات المتحدة، فإن الصناعة تدفع إلى شرائه.
وقد يميل المزارعون، الذين يزرعون المواد الغذائية الأساسية مثل القمح، بشكل متزايد نحو تحويل مناطقهم الزراعية إلى زراعة المحاصيل المستخدمة في الوقود. ومع إمكانية ارتفاع عدد مصانع الديزل المتجدد في الولايات المتحدة من مجرد حفنة قليلة إلى 35 مصنعاً خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وسيحتاج المزارعون الأمريكيون إلى زراعة 5 ملايين فدان أخرى من حبوب الصويا، إلى جانب المساحات الموجودة حالياً التي تتراوح بين 88 و89 مليون فدان، وذلك حسبما قال دان باس، رئيس الاستشاريين لدى "إيه جي ريسورس" في شيكاغو، في مؤتمر عبر الإنترنت في مايو الماضي.
وفي ما يتعلق بسوق زيت الصويا، قال توماس هامر، رئيس الرابطة الوطنية لمعالجة البذور الزيتية، ومقرها واشنطن: "الاهتمام بالديزل المتجدد، المدفوع إلى حد كبير بمعايير الوقود منخفض الكربون، سيغيّر شكل العرض والطلب الذي طالما عرفناه في الماضي".
التحول في الطاقة
وقال جيريمي بينز، رئيس العمليات الأمريكية لشركة "نيستي أويج"، إن مزيداً من شركات الوقود الأحفوري يتجه إلى الوقود الحيوي في سعيها للتكيف مع تحوُّل الطاقة. وأضاف المسؤول في شركة تكرير النفط الفنلندية وأكبر صانع للديزل المتجدد بالعالم: "الشركات باتت ترى إشارات تدلّ على صعوبة الوضع مع الوقود الأحفوري".
وتعتمد كل من "نيستي" و"دايموند غرين ديزل" على زيت الطعام المستخدم والدهون الحيوانية لإنتاج الوقود، وتعد "دايموند غرين" نتاجاً لشراكة بين "دارلينغ إنغريدينتس" و"فاليرو"، كما أنها المنتج الأول للديزل المتجدد بالولايات المتحدة. وحالياً، يجادل المجلس الوطني للديزل الحيوي بأن "الديزل الحيوي والديزل المتجدد يساهمان في خلق قيمة لفوائض الدهون والزيوت والشحوم، وهو أمر يجعل تكلفة البروتين في متناول الجميع في العالم بأسره".
نجاحات مشروطة
مع ذلك فإن هذا السباق نحو الديزل الأخضر، لا يضمن بالضرورة نجاح المشاريع كافة، فيقول راندال ستوي، الرئيس التنفيذي لشركة "دارلينغ": "في الإعلان عن المشاريع وفرة". وأضاف في مقابلة: "رغم أن هذه المشاريع تبدو جيدة على الأرجح في جداول البيانات، إلا أنني أعتقد أن أقلّ من ثلثها قد يتحول إلى حقيقة واقعة، وذلك بعد البدء الفعلي في الهندسة ودراسة متطلبات الإنتاج الفعلية".
وفي الصين، حيث تسيطر الحكومة بصرامة على التوسع في إنتاج الإيثانول القائم على الذرة، قالت وثيقة أُصدِرَت في ديسمبر، إن الوقود الحيوي يجب أن لا "يتنافس على الموادّ الغذائية مع الأفراد، ولا على الأراضي المخصصة لإنتاج الغذاء".
من جهته، يحدّ الاتحاد الأوروبي حالياً من استخدام الغذاء كمادة خام للوقود الحيوي، بسبب دوافع مناخية وبيئية. واستورد نحو 60% من الموادّ الخام للديزل الحيوي الذي استُهلك في الاتحاد الأوروبي في عام 2018، وكان معظمها من زيت النخيل، فيما جاء الإنتاج المحلي بشكل رئيسي من بذور اللفت وزيت الطعام المعاد استخدامه، والدهون الحيوانية.
أما في الولايات المتحدة فيهدف معالج المحاصيل غرين بلينز المدعوم من شركة "بلاك روك"، إلى أن يكون أقلّ اعتماداً على إنتاج الإيثانول، وأن يتحول إلى قوة زراعية عالية التقنية، ويدفع إلى إنتاج مكونات ذات قيمة عالية مستخلصة من الذرة. كذلك يشكك تود بيكر، الرئيس التنفيذي لشركة "غرين بلينز"، في استخدام زيوت الطعام لصنع الوقود، بحجة أن زيت الذرة المقطر غير الغذائي، يُعَدّ خياراً أفضل لذلك.
وأضاف بيكر في مقابلة: "في نهاية الأمر، أعتقد أنه سيحين يوم ننظر فيه إلى أسعار زيت النخيل في العالم بأسره، وإلى التضخم الذي بدأ بالفعل يظهر في أسعار هذه الزيوت النباتية، وسنتساءل: إلى أي مدى سيسمح العالم لمصافي النفط ببناء محطات لإنتاج الديزل الحيوي، من خلال استخدام الزيت الغذائي النظيف لتحويله إلى ديزل متجدد؟".