الولايات المتحدة تصطدم بمشكلة ألمانية قديمة أثناء محاولة الضغط على روسيا

العلاقات بين روسيا وألمانيا لها جذور تاريخية طويلة ومصالح مشتركة تجعل حساباتها مختلفة عن الولايات المتحدة عند التفكير في فرض عقوبات ضد موسكو - المصدر: بلومبرغ
العلاقات بين روسيا وألمانيا لها جذور تاريخية طويلة ومصالح مشتركة تجعل حساباتها مختلفة عن الولايات المتحدة عند التفكير في فرض عقوبات ضد موسكو - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

عندما تسافر وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بربوك، إلى روسيا الأسبوع الجاري، فإنَّها ستتبع الطريق التي يعرفها المسؤولون الألمان جيداً، وهي طريق أثبتت أنَّها يمكن أن تؤدي إلى خلاف مع أكبر حليف غربي لها.

وفي الوقت الذي تتطلع فيه حكومة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لردع روسيا من احتلال أوكرانيا، تثار الشكوك حول استعداد ألمانيا لمواجهة الرئيس فلاديمير بوتين، وتتمثل مهمة بربوك في توضيح أنَّ أي شكوك حول إرادة الحكومة الجديدة في برلين هي في غير محلها.

يعد اجتماعها في موسكو يوم الثلاثاء مع نظيرها، سيرغي لافروف، جزءاً من تقليد طويل من الدبلوماسية الألمانية الروسية التي يبدو للعالم الخارجي في كثير من الأحيان أنَّها تعزز علاقات وثيقة استثنائية.

حالياً، يعد استعداد ألمانيا لفرض عقوبات صارمة، وتماسك التحالف الثلاثي تحت قيادة مستشار الحزب الديمقراطي الاجتماعي، أولاف شولتز، وقبل كل شيء موقفها من خط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم 2"، كلها مجرد تكهنات، نتيجة لذلك؛ يتحدث بعض المسؤولين الأمريكيين عن "مشكلة ألمانية"، وفقاً لشخصين مطلعين على تفكير حكومة بايدن.

الحفاظ على إمدادت الغاز

كتبت ستيفاني بابست، مسؤولة كبيرة سابقة في حلف الناتو، في مقال لمجلس العلاقات الخارجية الألماني، أنَّه في ألمانيا "يعتقد جزء كبير من الشعب أنَّه يجب أن نمنح روسيا نفوذاً حصرياً في مقابل إبقائها على إمدادات الغاز".

وتنفي الحكومة وجود أي خلاف مع الولايات المتحدة بشأن روسيا، ومع أنَّ غالبية الألمان يريدون أن يبدأ "نورد ستريم 2" في شحن الغاز من روسيا إلى ألمانيا، وفقاً لاستطلاع نُشر في 6 يناير، إلا أنَّ 17% فقط من المستجيبين للاستطلاع رأوا روسيا شريكاً جديراً بالثقة.

وبلغ إجمالي التجارة بين ألمانيا وروسيا حوالي 90 مليار دولار في عام 2013 قبل أن يؤدي ضم روسيا لشبه جزيرة القرم إلى فرض عقوبات، وانخفض التبادل التجاري إلى النصف بحلول 2020.

ومع ذلك؛ فإنَّ التصورات حول المراوغة الألمانية حملت بعض المحللين على التحذير من صدام وشيك مع واشنطن.

ويشبه الموقف الحالي موقفاً حدث قبل أربعة عقود، عندما وبَّخ المستشار الألماني الغربي هيلموت كول الرئيس الأمريكي، رونالد ريغان، بسبب جهوده لمواجهة ما أسماه "إمبراطورية الشر".

ورفضت أيضاً ألمانيا حينها إلغاء خط أنابيب الغاز، وكان العنوان الرئيسي في صحيفة "نيوزويك" في ذلك الوقت: "اثنان من الحلفاء في ورطة".

الحسابات مختلفة

شدَّدت نائبة وزيرة الخارجية الأمريكية، ويندي شيرمان، على الوحدة مع الحلفاء والشركاء في مواجهة روسيا وتعزيزاتها العسكرية، بما في ذلك العمل معاً لفرض "تكاليف اقتصادية باهظة" إذا غزت أوكرانيا.

ومع ذلك؛ قال مسؤول سابق يملك صلات مع الإدارة الأمريكية الحالية، إنَّ نقطة القلق تتمثل في مدى مشاركة ألمانيا في أي رد انتقامي محتمل على روسيا.

قال نيلس شميد، المتحدث باسم السياسة الخارجية للحزب الاشتراكي الديمقراطي في البرلمان الألماني، إنَّ الحقيقة تتمثل في أنَّ أوروبا مرتبطة بقوة بروسيا من الناحيتين الاقتصادية والثقافية أكثر من الولايات المتحدة، لذا؛ فإنَّ الحسابات مختلفة.

وقال شميد: "من السهل على الولايات المتحدة مطالبة ألمانيا أن تتخذ موقفاً أكثر صرامة.. لكن يتعين على الغرب سؤال نفسه؛ هل هو مستعد لدفع الثمن الاقتصادي"، بما في ذلك حالة المنع المحتمل للطاقة، وقال، إنَّ "هناك أسباباً وجيهة لعدم استعداده".

ما تزال الشكوك تحوم حول وحدة السياسة تجاه روسيا داخل الائتلاف الذي تولى السلطة في الثامن من ديسمبر، وكانت بربوك، وهي زعيمة مشتركة لحزب الخضر، أكثر انتقاداً لموسكو في العلن من شولتز، إذ يتمتع الاشتراكيون الديمقراطيون بقرب تاريخي من روسيا.

"نورد ستريم 2"

لم يؤكد أي شيء سمعة ميل برلين لعلاقات دافئة مع موسكو بقدر ما فعل خط أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي ينتظر المصادقة من السلطات الألمانية في الوقت الذي تعاني فيه أوروبا من أزمة أسعار الطاقة، ويمكن للإمدادات عبر الطريق الجديدة أن تقطع شوطاً إلى حدٍّ ما في تخفيف الأزمة.

لكنَّ مكانتها كمشروع سياسي كانت مضمونة منذ البداية، وذلك عندما شجع المستشار الاشتراكي الديمقراطي آنذاك غيرهارد شرودر أول مشروع لـ"نورد ستريم"، وانضم إلى مجلس إدارة شركة "غازبروم" الروسية العملاقة للغاز في غضون أشهر من تركه لمنصبه في عام 2005، وتقول الولايات المتحدة، إنَّ "نورد ستريم 2" يمنح روسيا قبضة خانقة على أمن الطاقة الأوروبي.

وقد تبدَّد التهديد بفرض عقوبات أمريكية بعد أن أبرم بايدن وميركل صفقة الصيف الماضي، إذ وافقت ألمانيا على العمل لضمان عدم استخدام روسيا لها، أو أي خط أنابيب "لتحقيق أهداف سياسية عدوانية"، في حين كان شولتز أقل وضوحاً في ربط مصير خط الأنابيب بالمواجهة الحالية، واكتفى بالقول، إنَّ أي خرق لحدود أوكرانيا ستكون له "عواقب وخيمة".

ومع ذلك؛ قال شميد، المشرِّع من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إنَّ المستشار الألماني مستعد للنظر في اتخاذ تدابير ضد "نورد ستريم 2" إذا غزت روسيا أوكرانيا.

وقال يورجن تريتن، وهو مشرِّع من حزب الخضر ومخضرم في حكومة شرودر، إنَّ بربوك وشولتز أوضحا أنَّ التعاون مع روسيا في مسائل الطاقة معرض للخطر إذا استخدم بوتين "الطاقة كسلاح"، وهو شيء لا يوجد أي مؤشر عليه حالياً.

تاريخ مشترك طويل

تعود جذور علاقات ألمانيا بروسيا إلى تاريخ مشترك طويل يساعد في تفسير نهجها اليوم، ففي ذروة الحرب الباردة في عام 1963؛ اقترح الاشتراكي الديمقراطي، إيغون بار، خطوات من شأنها أن تشكِّل أساس سياسة التقارب مع الشرق التي تبناها مستشار ألمانيا الغربية، ويلي براندت، وتبعتها الحكومات المتعاقبة.

وكان من بين أهم جوانبها التركيز على السلام والواقعية والحوار النقدي مع روسيا، ودور العلاقات الاقتصادية. لم تفقد هذه الموضوعات المحورية أهميتها حتى اليوم، وفق أولريش كوهين، عالم السياسة الذي كتب ورقة بحثية في عام 2016 بعنوان: "الصراع حول أوكرانيا: ما يمكننا تعلمه من إيغون بار".

قال كوهن: "أود أن أقول، إنَّ (نورد ستريم 2) يجسد تقليداً قديماً إلى حدٍّ ما يتمثل في قيام المستشارين الألمان بأعمال تجارية مع الروس/ السوفييت.. وهذا ما قد يبدو مريباً في بعض الأحيان من منظور واشنطن"، ومع ذلك؛ قال: إنَّه "من وجهة النظر الألمانية يبدو الأمر ملائماً إلى حدٍّ ما".

يشير بوتين بانتظام إلى أفكار بار، وكان آخرها في مؤتمره الصحفي السنوي الشهر الماضي، وفي مقابلة مع صحيفة "دي تسايت" الألمانية الأسبوعية والمنشورة في يونيو؛ قال الزعيم الروسي، إنَّ بار "اقترح إعادة هيكلة جذرية للنظام الأمني الأوروبي بأكمله بعد توحيد ألمانيا، بمشاركة كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لكن لم يكن أي أحد في الاتحاد السوفيتي، أو الولايات المتحدة، أو أوروبا على استعداد للاستماع إليه".

التعايش مع موسكو

وكان الموقف الأبرز تاريخياً والمشابه للوضع الحالي في أوائل الثمانينيات، عندما ظهر حزب الخضر كحركة احتجاجية، وكانوا يقودون معارضة نشر أمريكا لصواريخ نووية في ألمانيا الغربية، وكانت حكومة هيلموت شميدت التي يقودها الحزب الاشتراكي الديمقراطي مترددة في التزامها بالنشر، وكانت الولايات المتحدة قلقة من أنَّ مدينة بون كانت تخرج عن مدارها نحو "الحياد".

واستقبلت حكومة ريغان وصول كول في أكتوبر 1982 على رأس تحالف يقوده المحافظون بارتياح، إلا أنَّ كول ووزير خارجيته، هانز ديتريش غينشر، اختارا سياسة الوفاق مع موسكو.

في بحث معاصر بعنوان: "ألمانيا الغربية: شريك موثوق؟" يسجل المؤرخ فولفغانج شلاوخ كيف تسبب بناء خط أنابيب غاز من سيبيريا إلى أوروبا الغربية في توترات أكثر من أي قضية أخرى.

إذ رأت ألمانيا الغربية أنَّ خط الأنابيب "عامل استقرار" في العلاقات مع الشرق، في حين رأت حكومة ريغان احتمال توقف الإمدادات، وزيادة النفوذ السوفيتي، وعرضت شحن الفحم الأمريكي كبديل لذلك.

وفرضت الولايات المتحدة عقوبات، ثم أسقطتها بعد أن أدركت واشنطن أنَّ العلاقات عبر الأطلسي كانت في أدنى مستوياتها منذ سنوات، ومرر كول نشر الصواريخ عبر "البوندستاغ"، لكنَّه ثبت على موقفه بشأن خط الأنابيب.

يرى أندري كورتونوف، رئيس مجلس الشؤون الدولية الروسي الذي أسسه الكرملين، تحولاً تاريخياً اليوم في ظل جيل جديد من السياسيين الألمان الذين تعتبر إعادة التوحيد بالنسبة لهم من الأمور البديهية، ويتضاءل لديهم فهم روسيا.

ومع ذلك؛ قال: "لا أعتقد أنَّه ستكون هناك أزمة حادة، وأنَّ ألمانيا ستدير ظهرها لروسيا بالكامل".

بالنسبة إلى تريتن من حزب الخضر؛ فإنَّ الخلافات مع واشنطن بشأن العلاقات مع موسكو أمر لا مفر منه: "على الأوروبيين مواصلة التعايش مع روسيا".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك