تحطم أسعار الطاقة في أوروبا الأرقام القياسية مراراً وتكراراً حتى قبل أن يبدأ الشتاء حقاً، وإحدى أكثر أزمات التكلفة حدة في التاريخ على وشك أن تزداد سوءاً مع بدء الانخفاض في درجات الحرارة.
أجبر ارتفاع كبير بالأسعار في بريطانيا الشهر الماضي بعض الشركات الصناعية على خفض الإنتاج وطلب المساعدة الحكومية، وهو نذير لما يمكن أن يحدث على نطاق واسع في أوروبا تماماً في الوقت الذي تعاني فيه من عودة ظهور فيروس كورونا.
وبالنسبة للحكومات، قد يعني ذلك توتراً مع الدول المجاورة بسبب اتخاذ تدابير لحماية الإمدادات، وبالنسبة للأسر، قد يعني ذلك أن يُطلب منهم استهلاك طاقة أقل أو حتى التخطيط لانقطاعات في التيار الكهربائي.
وتكمن المشكلة في أنه من غير المرجح أن يأتي أي حلٍ في وقتٍ قريب من جانب العرض في ظل ضخ المُصدِّرين الروس فقط ما يتوجب عليهم ضخه، أما قطر فتقول إنها تنتج كل ما في وسعها، وقال فابيان روينينجين، المحلل في "ريستاد إنرجي"، إن قطاع الطاقة ليس أمامه سوى الاعتماد على "تدمير الطلب".
وقال من أوسلو: "لقد رأينا ذلك خلال الشهرين الماضيين بالفعل، وفي العديد من الصناعات، ومن المرجح أن يستمر بل ويزيد.. وليس من المربح بالنسبة لكثير من اللاعبين العمل في ظروف السوق الحالية".
موجة جديدة من الإصابات
وتضيف الآفاق إلى مشاعر التشاؤم في أوروبا، وأصبحت المنطقة مجدداً بؤرة للوباء مع ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كوفيد- 19، والمخاوف التي اجتاحت العالم من متحور "أوميكرون" الجديد الذي تم تحديده في جنوب أفريقيا.
وشددت بعض الدول القيود في الوقت الذي تخضع فيه ميزانيات الأسر لضغوطٍ بسبب التضخم المتفشي، وعلاوة على ذلك، قد يعني الطقس المتجمد انطفاء الأنوار، ومن شأن العودة إلى الإغلاق كما هو الحال في النمسا أن يساعد في الحد من الطلب على الكهرباء، ومع ذلك القليل من الحكومات ترغب في القيام بذلك.
البرد القارس على أبواب أوروبا بدون مخزون كافٍ من الغاز الطبيعي
مخاطر انقطاع الكهرباء في فرنسا
وتعد فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا، معرضة للخطر بشكلٍ خاص، حيث تثير احتمالية حدوث انخفاض حاد في درجات الحرارة في يناير وفبراير مخاوف مشغِّلة الشبكة في الدولة.
وأفاد تقرير في 22 نوفمبر أن معدل التشغيل المتاح في المحطات النووية، العمود الفقري لنظام الطاقة الفرنسي، منخفض بعد أن تأخرت صيانة بعض المفاعلات بسبب الوباء.
تقترب أسعار الكهرباء هناك من مستوى قياسي، حيث تتسلل ريح باردة إلى فرنسا ومن المتوقع أن تزداد غداً الإثنين عندما يبدأ الطلب في أيام العمل بالارتفاع.
في الشتاء الماضي، حثَّت مشغِّلة الشبكة الأسر على استهلاك طاقة أقل في أوقات الذروة، وقامت بتنشيط بعض عقود خفض الطلب مع الشركات الصناعية عندما أصبح المعروض منخفضاً حقاً، وستكون الخطوة التالية هي تقليل الجهد عبر الشبكة ثم انقطاع التيار الكهربائي لمدة ساعتين لكل منطقة كحلٍ أخير، وكل ذلك سيأتي قبل الانتخابات الرئاسية.
قال نيكولاس غولدبيرج، مدير أول مسؤول عن الطاقة في "كولومبوس كونسالتينغ" في باريس: "إذا كانت هناك موجة برد شديدة ولم تكن هناك رياح، فقد تصبح الأمور صعبة بالنظر إلى معدلات التشغيل الأقل في المحطات النووية والإغلاق في الآونة الأخيرة لأصول التوليد القابلة للتوظيف باستخدام الفحم.. وإذا أصبح الطقس بارداً حقاً ولم تكن هناك رياح، فربما يشكل ذلك مشكلة".
الأزمة تتفاقم
تعد فرنسا أيضاً مصدراً رئيسياً للكهرباء إلى البلدان المجاورة، مما يعني أن آثار الأزمة ستتردد في ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا، ومن المتوقع أن يكون الحد الأقصى للطلب 79.6 غيغاواط يوم الإثنين، والذي لا يزال بعيداً عن الرقم القياسي البالغ 102 غيغاواط في فبراير 2012.
والوضع مأساوي بالفعل في أوائل فصل الشتاء بسبب الارتفاع الحاد في أسعار الغاز الطبيعي، كما أن مخزونات الوقود، المستخدم لتدفئة المنازل وتوليد الكهرباء، أقل من المعتاد وتُستنزف سريعاً، وحذَّر محللون من أن مخزونات الغاز قد تنخفض إلى الصفر خلال الشتاء الجاري إذا عزز الطقس البارد الطلب.
حذر جيريمي وير، الرئيس التنفيذي لمجموعة "ترافيغورا"، وهي شركة سويسرية لتجارة السلع الأساسية، في 16 نوفمبر، من احتمال حدوث انقطاع للتيار الكهربائي.
وقال آدم لويس، شريك في شركة التداول "هارتري بارتنرز": "إذا أصبح الطقس بارداً في أوروبا لن يكون هناك أي حل سهل لجانب العرض، وستكون هناك حاجة لحل من جانب الطلب".
في جانب العرض، سيكون ما تفعله روسيا لاحقاً هو الفيصل، وأشار الرئيس، فلاديمير بوتين، إلى أنه سيساعد أوروبا بمزيد من الإمدادات لتحقيق الاستقرار في السوق.
لكن رغم تعافي الشحنات بعد تراجعها في بداية نوفمبر، فهي لا تزال منخفضة مقارنة بالعام الماضي، ويبقى حجم الغاز الذي ترسله روسيا إلى أوروبا في ديسمبر لغزاً أكبر.
ومن شأن بدء تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي طال انتظاره والذي يصل إلى ألمانيا من روسيا أن يخفف من أزمة الطاقة في القارة، والمشروع اكتمل بالفعل، لكنه واجه عقبات تنظيمية وليس من الواضح متى ستبدأ التدفقات.
غيغاواطاختبار مبادئ التضامن الأوروبي
وتقول قطر، أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، إنها تنتج الغاز بالفعل بكامل طاقتها، وطلبت الدولة الخليجية، التي تتمتع بتكاليف إنتاج منخفضة بفضل وفرة الوقود سهل الاستخراج، ست سفن أخرى للغاز الطبيعي المسال من كوريا الجنوبية بالإضافة إلى أربع ناقلات تم شراؤها من الصين في أكتوبر.
إذا ساءت الأمور حقاً، فقد تلجأ الدول إلى كبح مبيعات الغاز الطبيعي إلى مناطق أخرى، وهناك سيناريو أكثر تطرفاً يمكن أن توقف فيه الدول تدفقات الغاز والكهرباء بعضها عن بعض، ما يؤدي إلى توتر سياسي ويضر بالاقتصادات.
الاتحاد الأوروبي لديه ما يسمى بمبادئ التضامن التي من المفترض أن تمنع أي دولة من وقف تصدير الطاقة أو الغاز وترك عضوة أخرى في حالة عوز، خاصة عندما يتعلق الأمر بالإمدادات للأسر.
لكن لم يُختبر التضامن أبداً في أزمة واسعة النطاق، ويقول مشغلو الشبكات إنه يُسمح لهم بإيقاف أو تغيير تدفقات الطاقة عبر الكابلات بين الدول إذا كانت لديهم مشكلات تتعلق بالإمداد. وعندما ضربت العاصفة الملقبة بـ"الوحش من الشرق" في نهاية فبراير 2018، كان موسم التدفئة في نهايته تقريباً، أما العام الجاري، فمن المحتمل أن يكون لحدث مناخي أقل حدة تأثير مماثل.
وقال روينينجين في أوسلو: "يظهر الأمر مدى تعرض نظام الكهرباء في أوروبا للتقلب في أسعار السلع.. وعلى المدى القصير لا يمكن فعل الكثير".