في أواخر الحرب الباردة، استند رئيس الولايات المتحدة آنذاك رونالد ريغان إلى مثل روسي يقول: "ثق ولكن تحقق" واتخذه مبدأً أساسياً في مفاوضات الحد من التسلح مع الاتحاد السوفييتي.
تبدو تلك الحقبة اليوم أكثر استقراراً وأقل توتراً مقارنةً بالوضع الراهن. فقد انهارت معظم المعاهدات التي وفرت شبكة الأمان في تلك الفترة، وتصاعدت حدة الصراع في أوكرانيا، مع إعلان المسؤولين الروس عن إعداد عقيدة نووية جديدة. هذا في الأساس يعد تهديداً نووياً جديداً.
أقترح، عندما تُعلن تلك العقيدة، أن نتحلى بنهج معاكس لنهج ريغان: "لا تثق وكن حذراً".
نهج جديد في مواجهة العقيدة الروسية
لا أستطيع التكهن بما يخطط له الرئيس فلاديمير بوتين ومستشاروه تحديداً، لكنني واثق أن الوثيقة الجديدة ستميل إلى التهديد أكثر من سابقتها. وكما ذكر سيرجي ميرونوف، رئيس فرع موسكو لحزب "روسيا العادلة–من أجل الحقيقة"، في بيان يوم الخميس، فإن الهدف من العقيدة سيكون "حرمان الولايات المتحدة من إمكانية شن حرب ضد روسيا دون عقاب عبر وكلائها في أوكرانيا".
إلى أي مدى يجب أن نأخذ هذه التغيرات العقائدية على محمل الجد؟ وإلى أي مدى ينبغي أن نشعر بالقلق؟ هناك بعض الإشارات التي يمكن الاستدلال بها من طريقة إدارة روسيا للحرب حتى الآن.
الحرب النووية كملاذ أخير
أولى العلامات الإيجابية التي يمكن الاستدلال بها، والتي تدعو للتفاؤل، هي أن استخدام الأسلحة النووية يعد تحدياً كبيراً لأي دولة تطمح لمستقبل مستقر، خاصة إذا كانت الحرب التي تخوضها حرباً اختيارية وليست للدفاع عن وجودها. فالاعتقاد السائد، والمبني على أسس قوية، هو أن الترسانات النووية مصممة بشكل أساسي كأدوات للردع، وأن اللجوء إلى استخدامها يعد أمراً مرفوضاً أخلاقياً، وانتحارياً، خصوصاً إذا كان المستهدف دولة نووية أخرى. ومن هنا، لا يمكن تصور استخدامها إلا كملاذ أخير في مواجهة تهديد وجودي.
هذا هو جوهر العقيدة النووية الحالية لروسيا، وهو أيضاً ما يعبر عنه الشعار الذي تؤكده الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي: "الحرب النووية لا يمكن الانتصار فيها ولا يجب خوضها"، وهو الشعار الذي تمت إعادة تأكيده قبل أسابيع قليلة من غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022.
هل يقتنع الغرب بتهديدات بوتين؟
لكن، ماذا لو كنت بوتين، وتحتاج إلى إقناع حلفاء أوكرانيا بأنك مستعد لاتخاذ أقسى الإجراءات؟
طرحت هذا السؤال على وليام ألبرك، وهو مسؤول سابق في البنتاغون وحلف شمال الأطلسي متخصص في قضايا الحد من التسلح ومنع الانتشار النووي. سألته عما إذا كانت هناك أمثلة سابقة لدولة نووية تهدد بالضغط على الزر النووي في حرب لا تتعلق بالدفاع عن أراضيها ضد هجوم خارجي.
بالتأكيد، شهدت الحرب الباردة العديد من حروب الوكالة التقليدية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إلا أن أياً من تلك الحروب لم يتطور إلى مواجهة نووية. وفي هذا السياق، يُعد من السذاجة أحياناً مقارنة الوضع في أوكرانيا بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. فالولايات المتحدة لم تقم بنقل صواريخ نووية إلى أوكرانيا، ولم تقترح ذلك بأي شكل من الأشكال.
وجد ألبرك أن أقرب مثال للتهديد النووي غير المنطقي وقع في السبعينيات عندما حاولت الولايات المتحدة، المحبطة من خسائرها في فيتنام، استخدام القاذفات النووية كوسيلة للضغط على الاتحاد السوفييتي وحلفائه في "الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام" (فيت كونغ)، بهدف إقناعهم بأن استمرار الحرب قد يؤدي إلى ضربة نووية. لكن تلك الخدعة فشلت، لنفس السبب الذي أدى إلى فشل تهديدات بوتين النووية في ردع الولايات المتحدة وأوروبا عن تسليح أوكرانيا: التهديد لم يكن منطقياً ولا مقنعاً.
روسيا والصعوبات في استخدام الأسلحة النووية
أحد الأسباب الرئيسية لفشل مثل هذه التهديدات هو صعوبة تنفيذ ضربة نووية استعراضية دون المخاطرة بتفسيرها كجزء من هجوم أكبر بكثير. علاوة على ذلك، فإن أوكرانيا تمكنت من اعتراض حوالي 80% من صواريخ كروز والصواريخ الباليستية الروسية، مما يعني أن روسيا ستحتاج إلى إطلاق عدد كبير من تلك الصواريخ لضمان أن صاروخاً نووياً سيصل إلى هدفه.
وما أن يحدث ذلك، كما يقول ألبرك، فإن القيادة الروسية قد ترغب في رفع مستوى استعدادها الاستراتيجي تحسباً لرد فعل انتقامي كبير، مما قد يؤدي إلى سوء تفسير التحركات من قبل الولايات المتحدة، ويُعتبر استعداداً لتوجيه ضربة نووية شاملة.
إضافة إلى ذلك، المكاسب التكتيكية المحتملة في أوكرانيا ستكون ضئيلة مقارنة بالمخاطر الهائلة. فإذا تحولت الرياح، قد تدفع التأثيرات الإشعاعية نحو القوات أو الأراضي الروسية نفسها.
كما أن أي ضربة نووية، حتى وإن فشلت، قد تؤدي إلى خسارة الدعم الاقتصادي والسياسي من دول رئيسية في "الجنوب العالمي"، خاصة من الصين والهند (حيث لا ترغب تلك الدول في دعم مثل هذا التصعيد النووي الخطير).
تجاوز الخطوط الحمراء مع روسيا
ويرى وليام ألبرك، الزميل الزائر في مركز "هنري ل. ستيمسون" للأبحاث بواشنطن أن "فكرة الهجوم النووي الأحادي غير واقعية".
بناءً على ذلك، تم تجاوز الخطوط الحمراء الروسية المفترضة دون رد فعل نووي. ورغم أن تهديدات بوتين أثرت بشكل كبير على قرارات الدول الغربية، حيث أدت إلى تزويد أوكرانيا بالأسلحة بشكل تدريجي وبكميات محدودة خوفاً من التصعيد، إلا أن هذا التردد كلّف أوكرانيا خسائر كبيرة في الأرواح والأراضي.
قد يختلف البعض في تقييم ذلك القرار، ولكن من منظور الكرملين، كانت النية منع تدفق الأسلحة إلى أوكرانيا بشكل كامل. ومع ذلك، فشلت هذه السياسة، مما أثار إحباطاً داخل روسيا، وتسبب في نقاشات علنية بين المحللين العسكريين الروس حول كيفية إجبار حلف شمال الأطلسي على الخضوع مجدداً لقوة روسيا النووية. وما زال الغموض قائماً بشأن ما هو الخط الأحمر النووي الفعلي الذي قد تضعه روسيا.
سيرجي كاراغانوف، المحلل الأمني الذي قدم المشورة لكل من بوتين وسلفه بوريس يلتسين، تعرض لعقوبات من الاتحاد الأوروبي بسبب مقال كتبه في عام 2023، ادعى فيه أن موسكو يجب أن تضرب بعض حلفاء الناتو بأسلحة نووية لإيقاظ الغرب و"إنقاذ البشرية" من خلال إعادة فرض الهيمنة النووية الروسية.
رغم أن المقال يبدو متطرفاً ومبالغاً فيه (حيث يصور الأسلحة النووية كـ"هبات إلهية") إلا أن كاراغانوف شخصية ذات تأثير، وقد أبدى بوتين اهتماماً بأفكاره، وناقشه أمام الكاميرات في يونيو الماضي.
التعامل مع العقيدة النووية الجديدة
لذلك فإن أفضل طريقة للتعامل مع العقيدة النووية الجديدة لروسيا هي النظر إليها كأداة إضافية تهدف إلى وقف تدفق الأسلحة إلى أوكرانيا، دون المخاطرة بحرب نووية شاملة. إنها بمثابة عرض مسرحي رمزي أمام الجمهور الغربي، أشبه بعرض "الكابوكي" في عالم مليء بالصراعات الحقيقية. لكن هذا لا يعني أنه يمكن تجاهلها، لأنها تمثل خطوة أخرى في سلم التصعيد الذي يحث كاراغانوف بوتين على الصعود بسرعة.
ولفهم هذا التفكير الروسي بشكل أعمق، تحدثت مع نيكولاي سوكوف، الذي عمل سابقاً في وزارة الخارجية الروسية وشارك في مفاوضات الحد من التسلح في معاهدتي "ستارت 1" و"ستارت 2"، قبل مغادرته موسكو في التسعينيات. يرى سوكوف أن المشكلة ليست في احتمال توجيه روسيا ضربة نووية لأوكرانيا، بل في تجاهل الغرب لإمكانية توجيه ضربة لحلف الناتو، وهو أمر ليس مستحيلاً كما يعتقد البعض، وإنما يعتبر ذروة تصعيد خطيرة.
يذكر سوكوف كيف بدأت روسيا تهتم مجدداً بترسانتها النووية في اجتماع مجلس الأمن الروسي في مارس 1999، بعد تدخل الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو في كوسوفو، رغم استخدام روسيا والصين حق النقض في الأمم المتحدة. في ذلك الاجتماع، كان الرئيس يلتسين، إلى جانب جنرالاته ورئيس مجلس الأمن الجديد آنذاك، فلاديمير بوتين، يشعرون بالذعر من أن حق النقض الروسي قد تم تجاوزه، وأن الجيش الصربي –الذي كانت قدراته مقاربة للجيش الروسي حينها– تعرض لقصف جوي مكثف حتى استسلم، دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه. وكان هذا التصرف مبرراً من الناتو تحت ذريعة يمكن أن تُستخدم لاحقاً في الشيشان، حيث كانت موسكو تستعد لحرب وحشية هناك.
نتيجة لهذا الاجتماع، قررت روسيا تطوير عقيدة نووية جديدة، وأجرت أول تدريبات عسكرية كبرى بعد الحقبة السوفيتية تحت اسم "زاباد". تصورت هذه التدريبات سيناريو لهجوم على روسيا من بولندا، وخلصت إلى أن القوات الروسية ستتمكن من الصمود لعدة أيام فقط، مما سيجبر موسكو على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لتجنب الهزيمة.
التصعيد ضد حلف الناتو
لم يكن الهجوم على روسيا مطروحاً أصلاً، لكن لا يمكن تجاهل جنون الارتياب المتأصل في موسكو عند مناقشة القضايا النووية.
يعتقد بوتين أن دعم حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا وتزويدها بالأسلحة يهدف إلى إلحاق "هزيمة استراتيجية" بروسيا، أي ضربه شخصياً ونظامه السياسي.
ويرى نيكولاي سوكوف، الزميل البارز في "مركز فيينا لنزع السلاح وعدم الانتشار النووي" أن "ما يحاول بوتين فعله حقاً هو لفت الانتباه إلى احتمال قريب جداً، وهو أنه إذا ساءت الحرب بشكل كبير بالنسبة لروسيا، فإنها قد تصعد الأمور ضد الغرب، وضد حلف شمال الأطلسي".
لكن السؤال يبقى هو: إلى أي مدى يجب أن تسوء الحرب حتى تصل روسيا إلى هذه النقطة؟ وإلى أي حد ينبغي أن نقلق؟ حتى بوتين نفسه ربما لا يعرف الإجابة على ذلك. ومع ذلك، أثبتت أوكرانيا أنه لا يجب الاستسلام لتهديدات الكرملين النووية دون سبب وجيه. وفي نفس الوقت، أظهر سلوك روسيا في ساحة المعركة استعداداً كبيراً لتحمل الخسائر البشرية.
الأمر الذي ينبغي مراقبته عن كثب ليس مجرد التغيير في العقيدة النووية العلنية لروسيا، فهي وثيقة غامضة بما يكفي لتبرير أي تصرف يختاره بوتين. بل يجب التركيز على سلم التصعيد الذي يتحدث عنه كاراغانوف. وفقاً لسوكوف، فإن أي ضربة نووية ستسبقها عدة خطوات تشير إلى يأس الكرملين، مثل شن هجوم تقليدي على دولة من دول حلف الناتو أو إجراء تجربة نووية تحت الأرض.
إذاً، لا تثقوا بالكلمات وحدها. وامنحوا أوكرانيا ما تحتاجه لتحويل مسار الحرب نحو مصلحة تفاوضية، بحيث يُجبر بوتين على إنهاء الحرب بدلاً من الإصرار على استسلام كييف. ولكن في الوقت ذاته، يجب تجنب أي تصرف يوحي بأن الهدف من دعم أوكرانيا هو تغيير النظام في موسكو، لأن هذا المسار سيجعل تهديدات بوتين النووية حقيقة مدمرة.
بالمختصر
التهديد النووي الروسي الحالي يتصاعد مع اقتراب روسيا من تحديث عقيدتها النووية وسط الحرب في أوكرانيا. تشير التحليلات إلى أن هذه العقيدة الجديدة ستتضمن تهديدات نووية أكبر مقارنة بالماضي. الرئيس فلاديمير بوتين يسعى لاستخدام هذه العقيدة كوسيلة لردع الغرب عن دعم أوكرانيا عسكرياً. رغم ذلك، هناك إجماع على أن استخدام الأسلحة النووية سيكون ملاذاً أخيراً بسبب المخاطر الكبيرة التي قد تواجه روسيا نفسها، سواء على مستوى الرد الانتقامي أو التداعيات الدولية.
المقال يؤكد أن التهديدات النووية الروسية تستهدف إخافة الغرب، لكنها ليست منطقية بما يكفي لإحداث تغيير حقيقي في سياسات الدول الغربية، كما حدث سابقاً في أزمات مشابهة. الهدف الرئيسي من هذه العقيدة هو إظهار القوة ومحاولة تحجيم الدعم الغربي لأوكرانيا. لكن الخبراء يرون أن هذه التهديدات، رغم خطورتها، تظل في إطار التصعيد الكلامي أكثر من كونها خطوات عملية نحو استخدام الأسلحة النووية.