لم يكن أحد ليتوقع أن يجلس واحد من أبرز المسؤولين التنفيذيين في قطاع النفط وهو يستمع بحفاوة بالغة في دبي إلى مئات الدبلوماسيين المكلفين بمكافحة تغير المناخ، حيث ترأس سلطان الجابر (رئيس شركة النفط العملاقة "أدنوك" المملوكة للدولة في الإمارات) مؤتمر الأطراف المعني بتغير المناخ "كوب 28" الذي استمر على مدار أسبوعين، وأسفر عن أول اتفاق في العالم للتحول بعيداً عن الوقود الأحفوري.
في كواليس القمة، كانت هناك دموع وأحضان، وسط احتفالات المفوضين المنهكين بإنجاز مهم في معركة العالم ضد الاحتباس الحراري.
شكّل ذلك المشهد تحولاً ملحوظاً مقارنة بما حدث قبل يومين فقط من اختتام فعاليات المؤتمر، عندما تخللت المفاوضات مشاحنات كبيرة، وكانت هناك مخاوف من احتمال انهيارها. ولو حدث ذلك؛ لكان وبالاً على جهود الجابر وجيشه من المستشارين المعينين الذين أمضوا أشهراً طويلة في التنقل حول العالم لحشد الدعم للصفقة. كما كان ذلك سيعطي إشارة على أن "اتفاق باريس" لكبح انبعاثات الغازات الدفيئة بدأ في التفكك والانهيار، وهو الاتفاق الذي اعتاد الشعبويون -الذين ينكرون ضرورة مكافحة تغير المناخ- الهجوم عليه، ومنهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
التحوّل بعيداً عن الوقود الأحفوري
في الوقت الذي يرزح فيه كوكب الأرض تحت وطأة العام الأكثر سخونة على الإطلاق، أصرت دول عديدة أخيراً على تعهّد العالم هذه المرة بالتحوّل بعيداً عن كل أنواع الوقود الأحفوري، أو "التخلص منها تدريجياً". وعلى الرغم من الاتفاق في قمة جلاسكو 2021 على خفض استخدام الفحم فقط، إلا أن تحالفاً يضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الجزرية المعرضة للخطر، سعى إلى تطرق "كوب 28" هذه المرة إلى قضية التحول بعيداً عن النفط والغاز أيضاً.
زادت تعقيدات مفاوضات المناخ السنوية بشكل لافت منذ التوصل إلى اتفاق باريس عام 2015. وتحتاج الدول الآن إلى الاتفاق على اتخاذ خطوات ملموسة ضرورية للمحافظة على ارتفاع درجة الحرارة العالمية ضمن نطاق 1.5 درجة مئوية، مما يجبر المفاوضين على التعامل مع القضايا الشائكة التي ستؤثر بشكل مباشر على آفاقهم الاقتصادية.
اتفاق "كوب 28" يشير لدور الغاز في التحول إلى الطاقة النظيفة
قالت مارينا سيلفا، وزيرة البيئة البرازيلية، إن المواقف التي تتخذها الدول أصبحت "أكثر التباساً، حيث يسير بعض الحلفاء الجيدون على سطر ويتركون آخر" في اتفاقات المناخ.
ويفسر هذا الكيفية التي جرى التوصل من خلالها إلى اتفاق دبي، حيث اعتمدت على إجراء مقابلات مع عشرات المفاوضين من بلدان مختلفة، ممن طلب بعضهم عدم الكشف عن هوياتهم كون المحادثات خاصة.
بداية واعدة لـ"كوب 28"
شهد مؤتمر "كوب 28" بداية واعدة مع سلسلة من الإعلانات التي تضمنت مبادرات بمليارات الدولارات لدعم الحلول الخضراء والمجتمعات المعرضة للخطر. واتفقت الدول قبل الموعد المحدد على كيفية إدارة صندوق لتعويض الدول الفقيرة عن الأضرار المناخية، مذللة عقبة كانت لتعرقل هذه المساعي. كما طلب الجابر من أكثر من 50 شركة نفط وغاز كبرى أن تتعهد بوقف انبعاثات غاز الميثان. ولكن بعد ذلك كادت المفاوضات أن تخرج عن مسارها الصحيح.
صرح وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان في اليوم الخامس للقمة، بأن المملكة "لن توافق مطلقاً" على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري. وبعدها بأيام، حث الأمين العام لمنظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، التي تضم الإمارات، الأعضاء على رفض أي تعهدات تدعو إلى خفض إنتاج الوقود الأحفوري. ولأن قرارات مؤتمر الأطراف تُتخذ بالإجماع، فقد كان من الممكن أن تعرقل دولة واحدة التوصل إلى اتفاق.
في الوقت ذاته، كان الجابر يواجه أزمة ثقة قبل انطلاق "كوب 28" مباشرة، حيث زعمت قصة نشرها مركز تقارير المناخ أنه خطط لاستخدام منصبه للحشد من أجل صفقات النفط والغاز. وأظهر مقطع فيديو كشفت عنه صحيفة "الغارديان" بعدها بأيام، أنه تساءل عمّا إذا كان من الضروري التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري للمحافظة على الاحتباس الحراري ضمن نطاق 1.5 درجة مئوية.
حوافز إتمام صفقة الوقود الأحفوري
شعر الجابر -الذي عيّن العشرات من مسؤولي العلاقات العامة لإدارة التغطية الإعلامية للقمة- بالضيق بشكل واضح عندما سُئل عن قصة مركز تقارير المناخ في أول مؤتمر صحفي له، لكنه نفى تماماً إجراء أي محادثات في غير محلها. وعندما نُشر فيديو "الغارديان"، سعى مساعدوه إلى إقناعه على مدار يوم كامل بضرورة توضيح تصريحاته.
خافير بلاس: هل دشنت قمة "كوب 28" بداية النهاية للوقود الأحفوري؟
عززت هذه الأحداث من دوافع الجابر لتقديم إنجاز ما بشأن الوقود الأحفوري. وقالت تيريزا ريبيرا، وزيرة التحوّل البيئي الإسبانية: "لقد كان مسؤولاً عن النتيجة، وهذا حافز مهم للغاية، لذا أصرّ على أن يكون الوقود الأحفوري ضمن حزمة الاتفاق".
لكن في يوم الاثنين الماضي، بدا هذا الهدف أبعد منالاً من أي وقت مضى. وقبل يومين فقط من انتهاء "كوب 28"، أصدر فريق الجابر مسودة مفادها أن الدول المقترحة "يمكنها" استخدام قائمة من الخيارات، بما في ذلك تكثيف إنتاج الطاقة المتجددة وخفض الوقود الأحفوري. واتسمت لهجة الحديث باللين، مما أثار حفيظة الدول التي كانت تضغط لتحقيق التقدم، فيما أرادت السعودية وحلفاؤها تجنّب الحديث عن النفط والغاز.
كواليس التوصل لصفقة "كوب 28"
قالت ماريا سوزانا محمد، وزيرة البيئة الكولومبية: "لم يكن أحد راضياً تماماً عن ذلك، بعض المشاركين لأسباب معينة، والبعض الآخر لأسباب معاكسة. وهذا ضغط على الجانبين لبدء التواصل". وبالفعل، عقد المفاوضون اجتماعاً مغلقاً، حيث تناوبوا على تحديد أوجه القصور في الاقتراح".
صرّح جون سيلك، رئيس وفد جزر مارشال ورئيس كتلة الدول الجزرية المعرضة لمخاطر المناخ في ذلك اليوم: "ما شهدناه اليوم ليس مقبولاً. لن نذهب بصمت إلى قبورنا المائية"، فيما شدّد مفوض أسترالي على أن بلاده "لن توقع على شهادات وفاتهم".
قال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية إن مسودة القرار لم تحظَ بقبول عالمي، وانتهى بها الأمر إلى جمع شمل الدول نتيجة لذلك. وسواء كانت هذه النتيجة متعمدة أو لا من جانب الجابر، فإنها مكّنت فريقه من الضغط للتوصل إلى اتفاق أقوى، أو المخاطرة بانهيار واسع النطاق.
عُقدت عشرات الاجتماعات الثنائية بين الفصائل المتعارضة يوم الثلاثاء، حيث ساعدت الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي في تسوية الاتفاقات إلى جانب رئاسة المؤتمر.
قالت جنيفر مورغان، المفوضة الألمانية الخاصة لشؤون المناخ: "عملنا ليل نهار للاستماع إلى حلفائنا في البلدان النامية، واعتمدنا على دبلوماسية مكوكية مع دول مثل البرازيل والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا والجميع".
تعاون أميركي-صيني
كان جون كيري، مبعوث المناخ الأميركي، ونظيره الصيني شي تشن هوا، شخصيتين محوريتين في جمع البلدان معاً بعدما توصلا إلى توافق في الآراء خلال اجتماعهما في كاليفورنيا الشهر الماضي. وكانت العلاقة الخاصة بين الدبلوماسيين المخضرمين -التي تطورت بعد سنوات من الجلوس مقابل بعضهما البعض على طاولة المفاوضات- عاملاً رئيسياً في التقدم المناخي العالمي على مر السنين.
الصين وأميركا تعملان للوصول إلى اتفاق مناخي في "كوب 28"
قد تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يشكل فيها الاثنان مركز القوة في محادثات مؤتمر الأطراف، حيث من المتوقع تقاعد شي، وليس من الواضح ما إذا كان كيري، الذي بلغ الثمانين من عمره في وقت سابق من الأسبوع الماضي، سيبقى في منصبه. وتضمنت اجتماعاتهما العديدة في دبي احتفالات بعيد ميلاد كيري، حيث قدّم شي له سلسلة من الصور المؤطرة لهما معاً، وأعطى حفيده للمبعوث الأميركي بطاقة.
وتذكر كيري وقتها كيف كانت المشاعر متأججة يوم الثلاثاء. وقال إن وزيراً من دولة منتجة للوقود الأحفوري قال له: "لا يمكنك أن تطلب منا الانتحار اقتصادياً". فيما عقد المفاوضون الأوروبيون اجتماعين شاقين على الأقل مع الوفد السعودي. والتقى فريق الجابر بمجموعة من الدول، على أنغام موسيقى التكنو التي انطلقت من مطعم تركماني قريب.
عمل المفاوضون حتى ليل الثلاثاء، مدعومين بوجبات عشاء الدجاج مع التيراميسو، وعدّلا لغة القرار في محاولة لإرضاء جميع الأطراف. وشمل ذلك الهند التي تعتمد على الفحم، وكبار منتجي النفط والغاز مثل العراق. وكانت الدول النامية، وخصوصاً في أفريقيا وأميركا الجنوبية، ترغب في الحصول على التزامات ممهورة بالدعم المالي مع التأكد من وضع ظروفها الاقتصادية في عين الاعتبار.
كانت الاجتماعات الدولية السابقة بمثابة اللبنات الأساسية للاتفاق. واستلهمت التعديلات ثلاث كلمات رئيسية من البيان الصادر مؤخراً عن منتدى جزر المحيط الهادئ، وهي: "التحول بعيداً عن" الوقود الأحفوري بدلاً من "التخلص التدريجي" أو "الخفض التدريجي". فيما تم استشفاف اللغة التي تجبر الدول على وضع تعهدات مناخية طموحة وواسعة النطاق لعام 2035 من بيان مشترك صدر بعد اجتماع شي وكيري في نوفمبر الماضي.
دعم إماراتي سعودي لصفقة المناخ
من جهته، قدّم عدنان أمين، الرئيس التنفيذي لـ"كوب 28" والذراع اليمنى لجابر، أول بادرة أمل حوالي الساعة الثامنة مساءً يوم الثلاثاء. وقال بعد خروجه من مكاتب هيئة المناخ التابعة للأمم المتحدة للحظة وجيزة، إن المندوبين يوشكون على التوصل إلى اتفاق. وسرعان ما أضاف عبارة "إن شاء الله" باللغة العربية لحديثه.
وظهر الأمير عبد العزيز بن سلمان كداعم مفاجئ للمحادثات، حيث شارك فيها بعد منتصف الليل بقليل. وبعد مداخلته في وقت سابق في مؤتمر "كوب 28"، ظن العديد من الحاضرين أن الأمير هو الأكثر رفضاً لمكافحة تغير المناخ. لكنه على النقيض من ذلك، حاول التوصل إلى صفقة مناخية تفوق التوقعات. وأقنع مجموعة من الدول النامية -بما فيها الهند والصين- بأن هذا الاتفاق يمكن أن يقبله المتشككون.
ظهرت النتيجة الأكيدة يوم الأربعاء. وعلى الرغم من أنها لم ترضِ جميع الأطراف، لكنها كانت مقبولة لدى الجميع، ويمكنهم التعايش معها في الوقت الراهن.
شهادة في حق سلطان الجابر
تمكنت صناعة النفط من التأكيد على أولويتين رئيسيتين، حيث تركت الصفقة المجال لإنتاج بعض الغاز الطبيعي، وسلطت الضوء على احتجاز الكربون كحل للمناخ. ونظرياً، ستسمح هذه التكنولوجيا باهظة الثمن بمواصلة حرق الوقود الأحفوري دون انبعاثات، على الرغم من أن بعض الخبراء يحذرون من أن ذلك يمثل إلهاءً بعيد المدى عن خفض الاستهلاك.
على الجانب الآخر، لم يُحرز تقدم كبير في تأمين التمويل للدول النامية. وحذّر تحالف الدول الجزرية الصغيرة من أن الاتفاقية ليست كافية لمواجهة أزمة المناخ. وقالت آن راسموسن، كبيرة مفاوضي الكتلة: "لقد حققنا تقدماً مرحلياً في العمل كالمعتاد، في حين أن ما نحتاج إليه حقاً هو تغيير جذري في تصرفاتنا ودعمنا".
على الرغم من ذلك، فإن نتيجة المؤتمر تعتبر شهادة بحق الجابر، الذي وصف علاقاته في صناعة الوقود الأحفوري كأحد الأصول، وراهن على قدرته في إحداث توافق مع الدول التي تعتمد على أرباح النفط الوفيرة.
سلطان الجابر: خفض الوقود الأحفوري أمر حتمي
إن انعقاد أكبر قمة على الإطلاق لمؤتمر الأطراف، بحضور أكثر من 100 ألف شخص، يمثل نقطة تقدم دبلوماسية للإمارات. وعلى الرغم من إشارة الخبراء بالفعل إلى وجود ملفات عدة لا يزال من الضروري معالجتها في مؤتمر "كوب 29" في أذربيجان، فإنهم أقروا أيضاً بالعقبات التي اضطر الجابر إلى مواجهتها والانتصار عليها.
اختتمت وزيرة البيئة الكولومبية: "لا أعتقد أن أي شخص آخر كان بمقدوره القيام بذلك. فعلى الرغم من كل التناقضات، وإقامة المؤتمر في قلب العالم المنتج للنفط، فإن المطاف انتهى بنا إلى قبولنا التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري".