الإصلاحات الصينية تمهّد لفرض هيمنة الدولة على سوق العقارات

صورة الرئيس الصيني شي جين بينغ على لوحة إعلانية في أحد شوارع شنغهاي  - المصدر: بلومبرغ
صورة الرئيس الصيني شي جين بينغ على لوحة إعلانية في أحد شوارع شنغهاي - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

في أحسن الأحوال، سيشكل إصلاح سوق العقارات السكنية على مستوى البلاد عملية محفوفةً بالمخاطر بالنسبة إلى أي حكومة. رغم ذلك، يحاول الرئيس الصيني، شي جين بينغ، القيام بذلك في وقت يتباطأ فيه اقتصاد الصين، ويهدد "أوميكرون" سياسته الرامية للقضاء على فيروس "كورونا" بشكل كامل، فضلاً عن توتر العلاقات مع العالم الخارجي على نحو مطرد.

اقرأ أيضاً: الصين تشيّد ملايين العقارات للإيجار منخفض التكلفة بحلول 2025

نظراً لكون هذا المزيج من العوامل المحفوفة بالمخاطر يلقي بظلاله على الأسواق المالية الصينية بشكل متزايد، فإن السؤال الذي يطرح نفسه باستمرار هو: ما الذي يستهدفه شي من وراء ذلك الإصلاح؟

بالنظر إلى غموض الحزب الشيوعي وتاريخه في التراجع عن الإصلاحات العقارية، فإنه يستحيل معرفة الإجابة عن هذا السؤال على وجه اليقين. غير أن مراقبي الصين بدؤوا يرسمون مستقبلاً محتملاً لسوق العقارات، والذي يبدو مختلفاً تماماً عما دأب عليه خلال أكثر من عقدين من النمو الاقتصادي الفائق وتزايد ثروات الأُسر والإيرادات الحكومية.

اقرأ المزيد: ماذا يعني مفهوم "الرخاء المشترك" في الصين؟

باختصار، ستنتهي حقبة المكاسب الهائلة التي حققها المليارديرات من عمالقة العقارات من أسعار المنازل المتضخمة وفورة البناء القائم على الاقتراض. سيتم استبدالهم بسوق أكثر رصانة، حيث تسارع السلطات إلى تضييق الخناق على جنون المضاربات، وتهيمن الشركات التي تديرها الدولة على التنمية العقارية، والتي من شأنها تحقيق عوائد تشبه تلك الناشئة عن إدارة قطاع المرافق.

عصر الصدأ

قال لي كاي، الشريك المؤسس لصندوق السندات "شينغاو إنفستمنت" (Shengao Investment) المتخصص في الديون المتعثرة، والمقيم في بكين: "إذا أطلقنا على العقد الماضي العصر الذهبي لقطاع العقارات، فهو الآن بين براثن عصر الصدأ".

من المتوقع أن يكون هذا التحوّل موجعاً بشكل خاص لمطوري العقارات في القطاع الخاص مثل "إيفرغراند غروب" (Evergrande Group) الصينية، والتي أرهقت مستثمري الأسهم والائتمان الدوليين بخسائر تقدر بمليارات الدولارات بالفعل. في الوقت ذاته، من شأن مثل ذلك التحوّل أن يساعد شي على قطع شوط طويل نحو تحقيق اثنين من أهم أهدافه، ألا وهما تحقيق نظام مالي صيني أكثر استقراراً، وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء في البلاد.

غير أن التحدي الذي يواجهه شي يتمثل في تنفيذ ذلك التحوّل دون إثارة أزمة، عشية انعقاد اجتماع لقيادات الحزب الشيوعي، والذي من المتوقع أن يعزز بقاءه في سدة الحكم مدى الحياة بشكل كبير.

مخاطر متزايدة

في الوقت الذي يتوقع فيه قلة من المحللين انهياراً مالياً وشيكاً، فإن المخاطر التي تهدد سوق العقارات آخذة في الازدياد. فمن جهة، ترزح شركات العقارات الأضعف تحت ضغط هائل، حيث تعرضت لضربة مزدوجة جراء ارتفاع تكاليف الاقتراض وتراجع المبيعات في الوقت ذاته. ومن جهة أخرى، يتخلف المطورون الذين تدنى تصنيفهم الائتماني، بما في ذلك "إيفرغراند"، عن سداد ديونهم الدولارية بمعدلات قياسية، فيما تنتشر عدوى التخلف عن السداد إلى الشركات الأقوى. أيضاً، انهارت أسهم وسندات شركة "كانتري غاردن هولدينغز" (Country Garden Holdings)، أكبر مطور عقاري صيني من حيث المبيعات، يوم الخميس، بعد تقرير يفيد بأنها تكافح للعثور على طلبات لشراء سندات جديدة قابلة للتحويل.

ضرورة إعادة التنظيم

هناك الكثير من الأسباب التي تجعل الصين بحاجة إلى إعادة تنظيم السوق العقاري لديها. فالقطاع يضج بعمليات الشراء بدافع المضاربة والمبالغة في الاستدانة، ما يشكل خطراً على النظام المالي في حالة الانكماش. كما تشكل أسعار المنازل عبئاً على مداخيل الأسر الصينية الآخذة في التراجع بالفعل. فقد بلغ متوسط ​​تكلفة شراء شقة في شينزن حوالي 44 ضعف متوسط ​​الراتب السنوي للسكان المحليين في عام 2020. الأمر الذي يفاقم فجوة عدم المساواة، حيث يحتكر العقارات الصينية الأثرياء من مالكيها. وتظل ملايين المنازل خالية من السكان، بينما تضرّ بعض مشاريع البناء بالبيئة.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

يذكر أن لقطاع الإسكان بالغ الأثر على الاقتصاد الصيني. وفقاً لبعض التقديرات، يشكل سوق العقارات أكثر ربع الناتج الاقتصادي الصيني، وذلك عند تضمين القطاعات ذات الصلة مثل خدمات البناء والعقارات، ما يجعل أكثر من 70% من ثروة الصين الحضرية تقبع في قطاع الإسكان.

قال كريغ بوثام، كبير الاقتصاديين الصينيين في شركة "بانثيون ماكرو إيكونوميكس" (Pantheon Macroeconomics) لاستشارات الأبحاث الاقتصادية: "يشكل سوق العقارات أحد أعراض المشكلات الأساسية في الاقتصاد الصيني. لعقود، كان هذا هو الحل السهل المضمون لتوليد إيرادات الحكومة المحلية، وتعزيز النمو الاقتصادي، وتزويد الأسر بمجال لاستثمار أموالهم ورؤيتها تنمو".

سيطرة الدولة

من هنا، فإن الحل، كما هو الحال بشكل متزايد في الصين في عهد شي، يتمثل في إحكام سيطرة الدولة على القطاع المثقل بالديون.

بحسب تقرير أصدرته منصة "كايليان" الإعلامية (Cailian)، يقوم المسؤولون المحليون في غوانغدونغ، موطن "إيفرغراند"، بتنسيق الاجتماعات بين المطورين المتعثرين والشركات المملوكة للدولة. أيضاً، لن يتم احتساب القروض التي حصلت عليها شركات العقارات الكبرى لتمويل عمليات الاندماج والاستحواذ ضمن المعايير التي تضع سقفاً لديونها، وذلك حسبما صرح أشخاص مطلعون على الأمر لـ"بلومبرغ" الأسبوع الماضي.

قال غابرييل ويلداو، نائب الرئيس الأول في شركة الاستشارات التجارية العالمية "تينيو" (Teneo): "تريد الحكومة تشجيع الاندماج في قطاع الإسكان. ومن المرجح أن تستحوذ شركات التطوير العقاري الكبرى، والتي غالباً ما تكون مملوكة للدولة، على الشركات الأصغر. إنهم يريدون وقف إدمان الاقتصاد على العقارات".

كانت السلطات الصينية قد استهدفت التجاوزات في سوق العقارات من قبل، غير أن أهمية القطاع بالنسبة إلى الاقتصاد أدت إلى تلاشي هذه الدوافع عندما تعرضت أهداف النمو للتهديد. ومن ثم، تسعى بكين إلى تقليل الاعتماد على العقارات من خلال تعزيز الاستثمار في صناعات التكنولوجيا الفائقة والطاقة النظيفة، فيما يعد جزءاً من خطط شي لجعل النمو أكثر استدامة وأعلى من حيث الجودة. لكن مثل هذه العملية ستستغرق وقتاً، وتتطلب صبراً لإنجازها.

عملية شاقة ومؤلمة

قال هاو هونغ، كبير الإستراتيجيين في شركة "بايكوم إنترناشيونال هولدينغز" (Bocom International Holdings): "ستكون عملية التحوّل طويلة ومؤلمة، ولسنا متأكدين تماماً ما إذا كانت عزيمة القيادة قوية بما يكفي لمتابعة هذه العملية الشاقة".

في هذا السياق، يجري اختبار مدى إصرار المسؤولين على إعادة تشكيل السوق، حيث يتسارع الانكماش العقاري في الصين إلى حد جعل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يحذّر بشأن الهبوط الاقتصادي. وعلى مستوى البلاد، فقد اشتدّ انخفاض أسعار المنازل الجديدة في المدن الصينية شهرياً منذ سبتمبر. تعد تلك المرة الأولى التي تهبط فيها الأسعار منذ ست سنوات، وهي لا تزال تواصل انخفاضها. ربما تظهر البيانات الصادرة يوم الإثنين نمو الاستثمار العقاري بنسبة 5.2% فقط في العام الماضي، فيما يتوقع الاقتصاديون تحقيق معدل النمو الأبطأ منذ عام 2015.

من جانبهم، يلجأ المطورون الصينيون إلى مقايضات السندات وتأخير مواعيد السداد ومبيعات الأسهم وغيرها من الإجراءات اليائسة لسداد الديون. لقد عجزت ثماني شركات، على الأقل، عن سداد مستحقات ديون السندات الدولارية منذ أكتوبر. تشمل تلك الشركات المتعثرة مجموعة "إيفرغراند"، التي ورطت أزمتها بنك "تشاينا مين شينغ" (China Minsheng Banking)، ما جعل أسهمه الأسوء أداءً في العالم. كما تراجع مؤشر للأسهم العقارية بنسبة 34% العام الماضي، وهو أسوأ مستوى له منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.

وفقاً لإسوار براساد، الذي سبق وترأس فريق عمل صندوق النقد الدولي في الصين، والذي يعمل حالياً في جامعة كورنيل، فإن السلطات الصينية على استعداد لتقبل المخاطر التي تنطوي عليها حملتها لإعادة تشكيل سوق العقارات على النمو الاقتصادي والاستقرار المالي.

تكلفة لا بد منها

قال براساد: "يبدو أن بكين قررت اعتبار تلك المخاطر بمثابة تكاليف مؤقتة لا يمكن تجنبها بعد الآن، من أجل الحد من التقلبات في الأسواق المالية مستقبلاً، وحتى وقوع المزيد من الاختلالات في أسواق العقارات".

لكن هذه التكاليف آخذة في الازدياد، حيث تراجعت أسهم شركات العقارات بنسبة 4.3% يوم الخميس، وهو أكبر انخفاض تشهده في أربعة أشهر، كما جرى تقييم الشركات استناداً إلى 30% فقط من قيمة الأصول المبلغ عنها. تعد تلك هي الأسهم الأرخص وفقاً لجميع البيانات التي تعود إلى عام 2005 حتى الآن. وكتب محللو الأسهم في "سيتي غروب" في مذكرة حديثة: "قلة من الناجين فقط" سينجحون في المضي قدماً.

اضطراب الأسواق المالية

من جهةٍ أخرى، يتسارع الاضطراب في سوق السندات الدولارية ذات العائد المرتفع في الصين، والتي أثارتها الشركات التي كانت تعتبر في السابق أكثر استقراراً من الناحية المالية مقارنةً بـ"إيفرغراند" مثل "شيماو غروب هولدينغز" (Shimao Group Holdings) و"سوناك تشاينا هولدينغز" (Sunac China Holdings). لكن ما يثير القلق أكثر هو انتشار عدوى الاضطراب إلى مصدري الأسهم عالية الجودة مثل "كانتري غاردن"، حيث هوت أسهم الشركة بنحو 8% يوم الخميس، بينما هبطت سنداتها الدولارية المستحقة في 2025 بواقع 4.8 سنت إلى 74.4 سنتاً، ما يجعلها تتأهب لأكبر انخفاض تشهده منذ الأول من نوفمبر.

بغض النظر عن شكل حملة بكين لخفض الديون في سوق العقارات، فمن الواضح أن الزمن الذي أثرى أباطرة العقارات وملاك المنازل، على حد سواء، قد ولّى. بل وينتظرنا مستقبل أكثر هدوءاً واستقراراً، إذا ما تمكّن الحزب الشيوعي من الاستمرار في مساره، وتجنب حدوث أزمة مالية.

قال غاري نغ، كبير الاقتصاديين في بنك "ناتيكسيس" (Natixis): "من المحتمل أن يكون العصر الذهبي لأسعار العقارات المزدهرة والعائدات المرتفعة للمطورين قد أصبح خلفنا. في المستقبل، ستزداد أسعار المنازل فقط في حدود معينة مدارة بإحكام، ما يعني أن قطاع الإسكان سيبدو مثل قطاع المرافق بشكل متزايد".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك