يرى الجيش سريع النمو من المؤمنين بالعملات المشفرة، بدءاً من مات ديمون إلى جاك دورسي مبتكر "تويتر"، أننا على أعتاب عصر جديد. أما رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات، غاري غينسلر فيرى شيئاً مختلفاً تماماً: "غرب متوحش" من خلق النقود والذي يحتاج بشكل طارئ لحملة هجومية.
وفي ظل وجود مليارات على المحك، جزء متزايد منها مملوك لمؤسسات استثمارية قوية، من له اليد العليا؟ الإجابة واضحة استناداً على التاريخ العالمي: الحكومات الوطنية لا تُهزم في العصر الحديث.
يمكن سرد قصة ظهور الأموال بعدة طرق، ولكن الصراع الدائم هو نزاع حول من يتمتع بالحق في صنع المال على وجه التحديد، طوال معظم تاريخ البشرية، غالباً ما أكدت الحكومات بجميع أنواعها على حقها في هذا الامتياز، لكنها في نفس الوقت كانت تتسامح مع الكثير من المنافسة: عملات معدنية من بلدان أخرى، ورموز خاصة، وأشكال أخرى من العملات.
تغير ذلك في أواخر القرن الثامن عشر، عندما سار صعود الدول القومية الحديثة جنباً إلى جنب مع احتكار المال، وبغض النظر عن مدى جودة أداء العملات الخاصة، فإنها تعارضت حتماً مع السلطات.
نضال بريطانيا
كان نضال بريطانيا رمزاً على هذا العصر، إذ كانت العملات المعدنية المسكوكة من قبل الحكومة يتم صنعها في الغالب من الذهب والفضة، وهي ذات قيمة كبيرة ولا تتناسب مع المعاملات الصغيرة، لذا تدخل صانعو الأزرار في برمنغهام. وكما كتب المؤرخ النقدي، جورج سيلجين، في كتابه "Good Money"، اشترى أصحاب المصانع والشركات "رموز التجار" المصنوعة من النحاس لدفع الأجور والتبادل مع العملاء، وبمجرد انتشارها، استخدمها العمال لشراء الشعير والخبز والضروريات الأخرى.
كان المعلقون البارزون في لندن أقل حماسة تجاهها وبدوا مثل نقاد العملات المشفرة اليوم، وقالت إحدى الصحف: "الضرر البسيط لجميع هذه الرموز هو: إنها أموال سيئة، عملة مغشوشة، وصُنعت كأداة للتجارة والربح".
احتوت الحجج ضد الرموز الخاصة على قدر من الغضب أكبر من المنطق، لكن كان ذلك نقطة ثانوية، وإذا كان سك العملات هو من اختصاص الحكومات الملكية، فسيتعين على دور سك العملات الخاصة أن تختفي، وبحلول عام 1817، حظر البرلمان الرموز، بمعنى أن استخدام العملات المعدنية جريمة، ناهيك عن سكها.
كانت الدول القومية أبطأ في التعامل مع تهديد آخر يشبه العملة المشفرة: العملات الأجنبية التي يتم تداولها داخل حدودها، والتي تتنافس مع إصدارات العملة الوطنية، وكان من أهم تلك العملات "القطع الثمانية" الإسبانية والمكسيكية، التي تم تداولها من نيويورك إلى الصين. في البداية، تسامحت بريطانيا العظمى والولايات المتحدة مع تداولها، لكنهما في النهاية ابتكرتا عملات معدنية ذات قيم اسمية أكبر من الفضة نفسها. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، فقدت العملات المعدنية وضعها القانوني كوسيلة شراء، ومُنح المواطنون أربع سنوات لاستبدال الأموال الأجنبية بعملات نحاسية من دار السك الحكومي، وفي عام 1861، اختفت إلى حد كبير من التداول.
الولايات المتحدة
وكانت العملات الأجنبية أحد العوائق أمام السيطرة الكاملة للحكومات على العملة، وكانت الأوراق المصرفية الخاصة مشكلة أخرى، ولدى هذه القضية تاريخ مثير للاهتمام بشكل خاص في الولايات المتحدة، وهو التاريخ الذي استند إليه غينسلر من لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية عندما شبه جنون العملات المشفرة بعصر ما قبل الحرب الأهلية من "الخدمات المصرفية المجانية"، عندما سقطت الحواجز أمام دخول القطاع وبدأت البنوك في التكاثر، وبدأ المئات، وفي النهاية الآلاف، من البنوك في إصدار عملات من تصميمها الخاص، وفجأة، وفقاً للمؤرخ، كان "أن تصبح مصرفياً هو شيء أصعب قليلا من أن تصبح عامل بناء، ولكن ليس كثيراً".
التزوير أيضاً كان مشكلة. رفضت بعض البنوك الوفاء بوعودها في أوقات الأزمات المالية، وتم تداول العديد من العملات بخصومات صغيرة اعتماداً على الاستقرار الملحوظ للبنك، مما أخضع كل معاملة لمفاوضات معقدة، ومع ذلك، تم رصد ما يقرب من 10 آلاف نوع مختلف من الأوراق النقدية على المعروض النقدي بحلول عام 1860.
لم يُرضِ أي من هذا القوميين الاقتصاديين، لكنهم ظلوا أقلية حتى الحرب الأهلية، وفي ذلك الوقت بدأت الحكومة الفيدرالية في إصدار "عملات خضراء" ساعدت في تغطية تكاليف الحرب.
كانت هذه لحظة فاصلة، وبدأ الجمهوريون، المهيمنون حينها في الكونغرس الذي تخلى عنه أعضاء مجلس الشيوخ الكونفدرالي، في تمرير التشريعات التي غيرت النظام النقدي للبلاد، وفي عام 1862، أصدر وزير الخزانة، سالمون تشيس، أول دعوة من عدة دعوات لإلغاء النظام القديم لخلق النقود، داعياً إلى "إنشاء عملة واحدة سليمة وموحدة وذات قيمة متساوية في جميع أنحاء البلاد على أساس الائتمان الوطني المقترن برأس المال الخاص".
وجه بعض النقاد نيرانهم على البنوك الحكومية، ودعا روبرت والكر، في جريدة "كونستيتيوشينال مانثلي" ، الحكومة الفيدرالية إلى استئناف "الوظيفة السيادية العظيمة لتنظيم العملة ومنحها الاتساق والطابع الوطني"، والأدهى من ذلك أنه ربط البنوك الحكومية بمبدأ حقوق الدول والكونفدرالية، وحذر والكر من أن أي شخص يتجرأ على التشكيك في تأميم العملة، فإنه يتحدث "لغة التمرد ذاتها - والتي هي صدى خيانة ساوث كارولينا".
بنهاية الحرب، أقر الكونغرس ضريبة عقابية بنسبة 10% على الأوراق النقدية الخاصة بالبنوك الحكومية، ما جعل إصدارهم مستحيلاً، وانتهى عصر الخدمات المصرفية الحرة - وانتصرت الدولة القومية مرة أخرى.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي، قامت واشنطن مرة أخرى باستعراض عضلاتها لوقف صعود "مخطوطات الكساد"، وهي نقود، مطبوعة على الورق أو أحياناً على جلد الغنم، والمشمع، وحتى أصداف البطلينوس، من قبل الشركات والهيئات الحكومية التي تكافح بسبب نقص السيولة النقدية الوطنية.
تعهدت بعض المخطوطات بالاسترداد مقابل النقود، ولم تفعل أخرى، وعملت معظمها كنوع من سندات دين غير رسمية حتى عودة الأموال "الحقيقية"، وفي البداية، غضت السلطات الفيدرالية الطرف عن هذه الممارسة لأنها ساعدت في التخفيف من الأزمة المصرفية الدائرة. بعد ذلك، أدرك مُبرمو الصفقة الجديدة في عهد الرئيس فرانكلين دي روزفلت، وكانوا محقين في ذلك، قد تقوض الشركات التي تستخدمها لدفع رواتب العمال فعلياً العدد المتزايد من اللوائح التنظيمية للأجور. وفي عام 1938، حظر قانون معايير العمل العادلة استخدام تلك المخطوطات لدفع الأجور.
لكن هذا لا يُقارن بمصادرة روزفلت للذهب، ففي عام 1933، أصدر الرئيس الأمر التنفيذي رقم 6102، الذي جرَّم الملكية الخاصة للذهب، مع خضوع أي شخص يرفض الامتثال لغرامات وسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات، وكان على المواطنين أخذ العملات الذهبية والسبائك إلى البنوك واستبدالها بالدولار الورقي بسعر محدد: 20.67 دولاراً للأونصة. وبعد إلغاء الذهب كمعروض نقدي، رفع روزفلت السعر الرسمي للذهب، ما أدى إلى خفض قيمة الدولار في هذه العملية، وظل الاحتفاظ بالذهب غير قانوني حتى ألغى الرئيس جيرالد فورد هذه السياسة في عام 1974.
قبل عشر سنوات، انهارت شركة رائدة في مجال العملات المشفرة تعرف باسم "إي- غولد" (E-gold) بعد ملاحقات قضائية بموجب قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي. ومؤخراً، أعرب المسؤولون الفيدراليون عن قلقهم من أن العملة المشفرة تهدد قدرة الدولة على إبراز قوتها في الخارج من خلال العقوبات وغيرها من الإجراءات، وهذه الطلقات الأولية هي نذير لمعارك أكبر قادمة، وتسير الصين بالفعل بلا هوادة في هذه العملية إذ يشن أكبر اقتصاد في العالم حملة صارمة على العملات المشفرة.
ربما تكون الحكومات الوطنية قد تخلت بالفعل عن مساحة كبيرة من الأرض، لكنهم يتمتعون بسلطة - ولديهم سجل حافل بالنجاح - بقدر أكبر مما يدركه المروجون الأكثر سذاجة للعملات المشفرة.