في ظلّ وباء كورونا، لجأت المكتبات العامة في الولايات المتحدة إلى طرق جديدة تمكّنها من الاستمرار بتقديم خدماتها للمجتمعات المحلية، وبشكل خاص خدمة الإنترنت التي أصبح السكان بأمس الحاجة إليها.
فقد أتاحت هذه المكتبات إمكانية الاتصال بخدمة الـ"واي فاي" لتغطي مساحات مواقف السيارات المحيطة بها، وحوّلت بعض سيارات الشحن الصغيرة إلى نقاط اتصال بالإنترنت (هوت سبوت)، كما قام بعضها بتوزيع أجهزة الكترونية محمولة للاستخدام المنزلي.
وتمنح هذه الجهود التي بذلتها المكتبات العامة لمحة عن توسع المكتبات بما يتناسب مع تلبية حاجات فترة الوباء، وذلك بالأخص من أجل خدمة روادها من الفئات المهمشة والأكثر حاجة.
الاتصال عبر الإنترنت
وتقول ليزا غيرنسي، مديرة التعليم والتقنيات في مؤسسة نيو أمريكا: "ستدرك المكتبات أن دورها لن يبقى محصوراً ضمن جدران أبنيتها، بل سيمتد على مساحة المجتمع الذي تخدمه، لتصل إلى داخل البيوت، أيام مختبرات الحاسوب قد ولّت، حيث سيحتاج الناس للاتصال عبر الإنترنت من منازلهم".
وكانت غيرنسي قد شاركت في إعداد دراسة مؤخراً، تناولت طريقة استخدام السكان للمكتبات في خلال فترة الوباء. وقد أثبتت الدراسة وجود ثغرات لا بدّ من سدّها كي تتمكن هذه المؤسسات من خدمة الأشخاص الأكثر حاجة للاتصال الرقمي. وكان تقرير صادر عن منظمة "نيو أميركا" غير الربحية قد أظهر أن الفئات المجتمعية من السود واللاتينيين والآسيويين الذين تم استطلاعهم يواجهون صعوبات أكبر في الوصول إلى الموارد عبر الإنترنت. وبالتالي، فإن هذه الفئات من السكان تعتمد على المكتبات كمصدر أساسي للإنترنت أكثر من المواطنين البيض.
ويكتسب هذا التفاوت أهمية قصوى بما أن أمناء المكتبات يلعبون أيضاً أدواراً أساسية في مساعدة أفراد المجتمع المحلي على استخدام الانترنت من أجل التواصل مع دوائر الخدمات الاجتماعية، بدءاً من التسجيل للحصول على الرعاية الصحية، وحتى تقديم طلبات الإعانة من البطالة. والأهم في هذه المرحلة أنهم يساعدونهم أيضاً في تحديد المواعيد للحصول على اللقاحات.
وقد حذّر باولو بالبوا، مدير البرامج في "التحالف الوطني للاندماج الرقمي"، الذي كان ضمن الخبراء ممن قاموا بالبحوث من أجل إعداد الاستطلاع: "المجتمعات التي لا تتمتع بالمهارات أو المعرفة للتعامل مع الانترنت، تواجه خطر التخلّف في الحصول على الخدمات".
ويعني ذلك أنه من الآن وصاعداً، يجب أن تركز السياسات الجديدة الرامية لتوسيع الوصول الرقمي على هذه الفئات من السكان. وذلك بالأخص فيما تتحول وظيفة المكتبة من مبنى يقصده الزوّار إلى مورد يشمل كافة أبناء المجتمع.
المكتبات كنقاط خدمة مجتمعية
وبهدف الوصول إلى المجتمعات المهمشة بشكل أفضل، يدعو الباحثون إلى المزيد من التعاون مع المجموعات والمؤسسات الأخرى. ففي ظلّ الوباء، تعاونت العديد من المكتبات مع المدارس من أجل توزيع نقاط اتصال بالإنترنت "هوت سبوت"، على الطلاب الذين ينتمون إلى عائلات منخفضة الدخل. مع منح الأولوية للطلاب المؤهلين للحصول على وجبات مجانية. وتقول غيرنسي إن هذه الشراكة تقدم مثالاً على أهمية تعاون المكتبات العامة مع النظام المدرسي من أجل استهداف الطلاب المحرومين.
وأضافت: "من الغريب فعلاً أن لدينا مدارس حكومية تحارب من أجل تأمين الموارد، وقد لا تملك حتى التمويل الكافي لإقامة مكتبة كاملة. ومن ناحية أخرى لدينا مكتبات عامة تستجدي الموارد هي الأخرى وتقلق حيال خفض أعداد موظفيها وساعات عملهم. ومع ذلك فإن النظام القائم يجعل من الصعب جداً على أمناء المكتبات في المدارس والمكتبات العامة التعاون فيما بينهم".
ومن جهته، قال بالبوا، الذي سبق وعمل كأمين مكتبة في مكتبة نيويورك العامة: "كثيرون يتوقعون من المكتبات أن تشكل هذا الرابط المباشر مع المجتمع"، رغم أن المكتبات تواجه أحياناً مصاعب في خوض هذا التحدي، إلا أن منظمات خدمية أخرى أو مؤسسات غير ربحية مجتمعية أصغر حجماً، تتصل بالمكتبات العامة المحلية وتقول لها: ليس لدينا تواصل مع هذا المجتمع المحلي، هل يمكنكم مساعدتنا؟".
وكانت المنظمة غير الربحية التي ينتمي إليها بالبوا قد تعاونت في ديسمبر الماضي مع مكتبة "سولت لايك" العامة من أجل إطلاق برنامج لمحو الأمية الرقمية تحت اسم "المتصفحين الرقميين".
واستخدمت المكتبة التمويل الذي حصلت عليه بموجب قانون "كيرز" لدعم جهود الإغاثة وتعزيز الأمن الاقتصادي في ظلّ أزمة كورونا، وذلك من أجل توظيف ستة أشخاص يقدمون المساعدة لكلّ فرد على حدة، فيجيبون عن أسئلته حول الاتصال بالإنترنت وأيضاً أسئلته المختلفة حول كيفية البحث عن المعلومات.
كذلك، يساعد أولئك الموظفون في إرشاد العائلات إلى برامج الانترنت ذات التكلفة المقبولة التي توفرها المدينة أو مقدمي خدمة الانترنت، حيث إن السكان لا يكونون على علم بها في أحيان كثيرة. واللافت أن ثلاثة من مقدمي خدمات "متصفحي الانترنت" هم من منظمات خدمة اجتماعية تنشط في المجتمعات الأكثر تأثراً بالوباء، أي العائلات منخفضة الدخل والتي لديها أطفال، أو اللاجئون، أو أصحاب المؤسسات الصغيرة.
تغيير طريقة التفكير
وفي ندوة عبر الانترنت استضافتها "نيو أمريكا" مؤخراً، وتناولت مستقبل المكتبات، قالت المديرة التنفيذية لجمعية المكتبات الأمريكية ترايسي هول، إن جهود التواصل يجب أن تستهدف أرباب وربات البيوت.
وأضافت: "يجب أن نغير طريقة تفكيرنا بشكل جذري، وأعني بذلك انفتاح المكتبات على المجتمع. وبالأخص من خلال النظر إلى ربط الحرمان من الوصول إلى المعلومات، بالحرمان السائد بشكل عام في المجتمع، وهذا أمر لم نكن نستوعبه دائماً".
ومع ذلك، لا بدّ من الاعتراف أن المكتبات لا تستطيع وحدها من أن تسدّ الفجوة الرقمية. وذلك بالأخص في ظلّ محدودية أعداد الموظفين والميزانية. وقد دعت التوصيات الواردة في التقرير إلى المزيد من الدعم الفدرالي من خلال توسيع البرامج التي تعزز اتصال الأسر بالإنترنت ذات النطاق العريض (برودباند)، والبرامج التي تسهم في تمويل الاتصال عبر الانترنت في المدارس والمكتبات.
وكانت رئيسة مكتبة بروكلين العامة ومديرتها التنفيذية قد دعت في مقال نشر في "بلومبرغ سيتي لاب"، لجنة الاتصالات الفدرالية لتمديد صرف مبلغ الإعانة الطارئ البالغ خمسين دولارا للأسر منخفضة الدخل حتى بعد انتهاء حالة الطوارئ الحالية.
وكانت غيرنسي وصفت هي الأخرى قرار توسيع برنامج دعم المدارس والمكتبات (E-Rate) الخاص بلجنة الاتصالات الفدرالية ضمن قانون خطة الإنقاذ الأمريكية، بالخطوة الأولى الجيدة. فالبرنامج الذي موّل في البداية الاتصال بالإنترنت في المدارس والمكتبات، سيمكّن المدارس اليوم من الاستثمار في الأجهزة وبرامج الاتصال بالإنترنت من أجل دعم التعليم عن بعد.
ومن الآن وصاعداً، لن يعود دور أمناء المكتبات محصوراً بتقديم المعلومات، بل سيصبحون الرابط ما بين السكان والمجتمع والحكومة.
وتقول هول أخيراً: "بتنا في مرحلة من مسيرتنا الاجتماعية، حيث التعليم والعمل والرعاية الصحية، وهي عناصر تمثل ثلاثة من مؤشرات جودة الحياة الأساسية، كلها مرتبطة بالمنصات الرقمية". وتابعت: "لهذا السبب، صوتت جمعية المكتبات الأمريكية في يناير، لصالح اعتبار الوصول إلى الانترنت حقاً من حقوق الإنسان".