في مطعم "مامو مايكل أنجلو" (Mamo Michelangelo)، الذي يقدِّم المأكولات الفرنسية الفاخرة في الرياض، سيكون الموعد التالي المتاح لحجز عشاء منتصف شهر سبتمبر.
خطُّ هاتف الحجوزات في المطعم، الذي لا يتوقَّف عن الرنين، يُشكِّل مؤشراً على الشعلة القوية التي تدفع الانتعاش الاقتصادي السعودي، الذي يتحدى التوقُّعات القاتمة.. مليارات الدولارات مختزنة بما يُمكن تسميته "الإنفاق المحاصر"، وهي أموال بقيت داخل البلاد، جرَّاء بعض أشد قيود السفر في العالم خلال معظم فترات جائحة كورونا.
خارج السرب
في حين شهدت العديد من الدول زيادة كبيرة بالإنفاق المحلي خلال حالة الطوارئ الصحية؛ فإنَّ السعودية كانت خارجة عن المألوف. وبالتالي؛ فإنَّ نموَّها الذي فاق التوقُّعات لا يمكن إحالته إلى حزم التحفيز.
فأكبر دولة مصدِّرة للنفط في العالم، استقبلت كورونا بواحدة من أقلِّ حزم الدعم توهُّجاً بين دول مجموعة العشرين. لا بل، بدلاً من ذلك، ضاعفت ضريبة القيمة المضافة ثلاث مرات لدعم مواردها المالية، كما قلَّصت حجم برنامج المساعدة للمواطنين الأشد فقراً. فأثار نهج التقشف هذا تنبؤاتٍ بتباطؤ طويل الأمد.
لكن، في المقابل، أدى ارتفاع أسعار النفط، وحملة التطعيم المتسارعة إلى تعافي الاقتصاد، وحفَّزه قضاء السعوديين لعطلاتهم داخل البلاد. مما دفع بمجموعة "غولدمان ساكس" إلى رفع توقُّعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.5% هذا العام، مُقارنةً بتوقُّعاتها السابقة البالغة 2.5%.
السعوديون أنفقوا 18 مليار دولار على السياحة في الخارج عام 2019، أي في موسم السفر الأخير قبل ظهور كورونا، بحثاً عن الترفيه والصيف البارد غير المتوفرين داخل الوطن.
قيود صارمة
تُشير ماريفا سارون، مديرة علاقات الضيوف بالمطعم الباريسي، إلى أنَّ هدفها هو "خلق مقصد سياحي يجعل الزبائن يشعرون كأنَّهم خارج السعودية". وبالفعل يزدحم مطعمها "مامو مايكل أنجلو" بالأثرياء من سكان مدينة الرياض، الذين يتمتَّعون بالجلوس تحت الثريات ذات اللون الياقوتي لتذوُّق شرائح اللحم البقري البالغ سعرها 495 ريالاً (132 دولاراً) مع فطائر كبد الأوز.
تمَّ حظر السفر الدولي على السعوديين بالكامل تقريباً منذ بداية شهر مارس 2020 حتى شهر مايو من هذا العام، و ماتزال الإمارات، وتركيا، ولبنان، وكلها وجهات سياحية مستحبة بالنسبة لهم، محظورة عليهم حتى الآن. كما تُشكِّل متطلَّبات التطعيم والحجر عائقاً إضافياً، لأنَّ أي سعودي ينتهك قائمة الدول المحظورة سيواجه حظرَ سفر لمدَّة ثلاث سنوات.
خشي الاقتصاديون من حدوث الأسوأ للاقتصاد السعودي العام الماضي، عندما فرض المسؤولون عدداً كبيراً من إجراءات التقشف، مُعتبرين أنَّها الخيارات المتاحة "الأقل ضرراً"، وهي ضرورية لحماية المالية العامة للدولة مع انخفاض عائدات النفط. لكنَّ المحللين الآن يراجعون توقُّعاتهم تلك، مع تسارع تعافي اقتصاد المملكة، مدعوماً بارتفاع أسعار النفط، وبتوسيع برنامج التطعيم باللقاحات المضادة لفيروس كورونا، بالإضافة إلى الطلب المحلي المكبوت.
حسنات الإغلاق
عندما أغلقت حدودها بإحكام، فقدت السعودية السياحة الوافدة، بما في ذلك من القادمين سنوياً للحج والعمرة من المسلمين حول العالم. لكن كان لديها الكثير لتكسبه من بقاء السعوديين في الداخل. فقد أنفق المواطنون الأثرياء أموالهم مراراً على الترفيه خارج البلاد بسبب محدودية الخيارات في المملكة الإسلامية المحافظة، وهو أمرٌ يحاول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تغييره في إطار برنامجه للتنويع الاقتصادي.
أجبرت جائحة كورونا تلك الأموال على البحث عن خياراتٍ أُخرى. فبعد إغلاقٍ صارم لاسيَّما العام الماضي، الذي تضمَّن أحياناً حظر تجول على مدار النهار والليل، فضلاً عن حظرٍ شبه كامل على مغادرة المواطنين للبلاد، يُفضِّل العديد من السعوديين الوجود في أيِّ مكان بدل البقاء داخل البلاد. لكنَّ القيود على الخروج من المملكة
ما تزال قائمة، كما أنَّ التطعيم بات إلزامياً، في وقتٍ لم يحصل سوى ربع السكان على جرعتين من اللقاح.
يرى مازن السديري، رئيس الأبحاث في شركة الراجحي المالية بالرياض، أنَّ "هناك الكثير من الطلب المكبوت". لافتاً إلى أنَّ إنفاق المستهلكين ارتفع بنسبة 3.3% في النصف الأول من العام الحالي، مُقارنةً بالفترة عينها من عام 2019. وسجَّلت شركة الإلكترونيات المتحدة، وهي سلسلة متاجر بيع إلكترونيات بالتجزئة، أرباحاً في الربع الأول فاقت الضعف على أساسٍ سنوي.
إلى ذلك، سجَّلت المدفوعات الإلكترونية في المطاعم والمقاهي، خلال الأسبوع المنتهي في 3 يوليو، رقماً قياسياً بلغ 1.4 مليار ريال.
كرة الثلج
يعاني السعوديون الأكثر فقراً من ارتفاع الضرائب وأسعار الطاقة، كما تواجه الشركات التي تخدمهم وضعاً أكثر صعوبة. ويكشف عبدالعزيز العثيم، الرئيس التنفيذي لسلسلة البقالة، أسواق عبدالله العثيم، أنَّ الأشهر الستة الأولى من العام الحالي كانت "صعبة"، فقد أنفق العملاء أقل من المتوقَّع. لكن برغم ذلك؛ فإنَّه مازال مستمراً بخططه التوسُّعية وسط آمال التعافي الاقتصادي.
في المقابل؛ فإنَّ مراكز التسوق، والصالونات، والصالات الرياضية مزدحمة. وتُظهر بيانات التنقل من "غوغل" أنَّ زيارات مكان العمل ارتفعت بنسبة 7% مقابل خط الأساس لما قبل كورونا، حتى مع الإبلاغ عن أكثر من 1000 حالة إصابة جديدة بالفيروس يومياً.
تتوقَّع مونيكا مالك، كبيرة الخبراء الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري، أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي السعودي هذا العام مستويات 2019، من ناحية القيمة الاسمية، وهو ما "يُظهر حقاً مدى سرعة انتعاش اقتصاد المملكة". كما أكَّدت أنَّنا: "سنبدأ في رؤية الزخم بدءاً من النصف الثاني للعام.. وسيتعاظم".