منذ شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزوه الشامل لأوكرانيا، كان واضعو الخطط العسكريون وقادة العالم والمواطنون يحللون الدمار لاستخلاص الدروس من أكبر حرب في أوروبا منذ 1945.
فيما يلي نستعرض بعض الطرق التي تغيرت بها طبيعة شن الحروب فعلاً:
1. تحرك بوحدات صغيرة
عوضاً عن الدبابات والطائرات، ظهرت طائرات بدون طيار ذكية بوصفها سلاحاً مفضلاً خلال الصراع. تطغى هذه الطائرات على الدبابات الضخمة وتقتل القوات وتسمح لكلا الجانبين بإحداث الفوضى خلف خطوط العدو. ارتفعت شعبية المركبات البحرية غير المأهولة والرخيصة، والتي يجري التحكم فيها عن بعد من البحر، بعد استخدامها من قبل أوكرانيا في استهداف أسطول البحر الأسود الروسي. وأثار تفوق الطائرات بدون طيار نوعاً آخر من المنافسة، حيث احتدم سباق تعطيلها عن طريق تشويش الإشارات.
لاحظت بلدان أخرى ذلك الأمر. بحسب تقديرات القطاع، من المنتظر أن تصل السوق العالمية للطائرات بدون طيار إلى 260 مليار دولار مع حلول 2030، أي نحو عشرة أضعاف السنة التي سبقت الغزو الروسي الشامل. أوضحت أوكرانيا أمس أنها أسقطت عشرين طائرة مسيرة من طراز "شاهد" أطلقت خلال الليل من روسيا واحتلت شبه جزيرة القرم.
تمنح المركبات غير المأهولة القادة على كلا الجانبين رؤية جوية لساحة المعركة، ما يسمح لهم بمراقبة تحركات العدو بصورة آنية، وتُعد جزءاً من سبب تحول القتال إلى حرب استنزاف. يعني هذا أنه رغم كل هذا التقدم التكنولوجي، فقد هيمنت حرب الخنادق على غرار الحرب العالمية الأولى المدعومة بوابل من قذائف المدفعية على طول خط المواجهة. يتطلب هذا من الأعداء إنتاج كميات كبيرة من الذخيرة، وذلك بمستويات نجاح متفاوتة.
2. اختر جانباً
أدت الحرب في أوكرانيا إلى تشكيل عالم ثنائي القطبية بدرجة أكبر، ما دفع السويد وفنلندا إلى طلب الانضمام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) بعد أن قاومتا لمدة طويلة الالتحاق بالحلف خشية إثارة عداوة روسيا.
جاء هذا القرار ليجسد مدى انحدار العالم، الذي احتفى قبل ثلاثة عقود بنهاية هذا الجزء من التاريخ، مرة أخرى إلى الانقسامات القديمة بين الغرب والبقية. جددت أوكرانيا أيضاً مساعيها للانضمام إلى كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت آفاقها مُعلّقة لأعوام عديدة.
لم تسارع كافة البلدان لاختيار أحد الجوانب. لم تنضم تركيا -عضوة الناتو، التي تصنف نفسها باعتبارها وسيطاً بين الفصائل المتحاربة، إلى العقوبات المفروضة على الكرملين. كما لم تفعل إسرائيل أو دول عديدة في المنطقة الني يُطلق عليها جنوب الكرة الأرضية.
بقدر ما وحدت الحرب الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها التقليديين، فقد علمتها كذلك شيئاً حول موثوقية هذه العلاقات. بدأ الكثيرون في أوروبا يشككون في صمود حليفهم في الجهة المقابلة من المحيط الأطلسي، بعد شهور من المشهد السياسي الذي عطل الإفراج عن أكثر من 60 مليار دولار من المساعدات العسكرية. يفاقم احتمال عودة دونالد ترمب لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية بعد انتخابات نوفمبر المقبل شعورهم بعدم الارتياح.
3. العقوبات ليست حلاً سحرياً
وقعت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى مجموعة كبيرة من العقوبات على روسيا على مدى العامين الماضيين، ما منع الوصول لأسواقها للطاقة والبضائع والتكنولوجيات الأساسية. حظرت المجموعة وصول موسكو إلى النظام المالي الدولي بقدر كبير، وجمدوا احتياطياتها في البنوك المركزية وأصول مئات الأفراد والكيانات.
لكن بعيداً عن فرض "العواقب الهائلة والخطيرة" المتوقعة في بداية الحرب، فإنها لم تردع حرب روسيا ولم تسفر عن انهيار اقتصادها. ويرجع ذلك جزئياً إلى قدرة البلاد على التحايل على القيود، أو تخفيف آثارها.
مع مرور الوقت، سيصعُب على روسيا الاستمرار في بذل هذه الجهود، حيث اضطرت لتحويل موارد كبيرة للإنفاق العسكري واستُبعدت من أسواق التصدير الرئيسية. كما زادت تكاليف استيرادها. في ظل هذه الظروف، تركز مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى على كبح محاولات البلاد لتفادي عقوبات محددة، على غرار تلك المفروضة على التكنولوجيا والإلكترونيات المستخدمة في الأسلحة التي تحصل عليها عبر بلدان ثالثة.
4. استقلال سلاسل التوريد مسألة بالغة الأهمية
كشفت الحرب عن الأهمية الحيوية لسلاسل التوريد المحلية. عندما تحتاج أوكرانيا إلى إمدادات عسكرية إضافية، يتعين عليها عادة التفاوض مع الحلفاء، وعندما تحتاج روسيا ذلك، فإنها غالباً ما تكون قادرة على زيادة الإنتاج في القطاعات التي تسيطر عليها، وتدفع بالروبل عبر كافة مراحل العملية.
رغم أن روسيا تعاني من بعض النقص، وتميل منتجاتها إلى أن تكون أقل جودة مقارنة بمنتجات أعدائها، إلا أنها كانت أسرع في التحول إلى حالة الحرب. كما وضعت طرق إمداد عبر بلدان ثالثة للحصول على قطع غيار محظورة.
عكس ذلك، كانت الدول الأوروبية بطيئة في تعزيز الإنتاج العسكري والتصدي للتهرب من العقوبات، وغالباً ما تغرق في مستنقع المناقشات الإجرائية. وتتخلف قدرتها على إنتاج قذائف المدفعية والحصول عليها مقارنة بقدرة روسيا، ما يجعل كييف تقنن استخدام الذخائر مع دخول الحرب السنة الثالثة. بينما تستمر روسيا في استغلال ميزتها في ساحة المعركة، فلا يمكن للحلفاء توصيل أسلحة كافية لأوكرانيا. وقد بدأت كييف تعزيز إنتاجها لتجنب الاعتماد بشدة على الحلفاء، لكن عملية الانتقال تتطلب وقتاً.
5. يمكن أن يتكرر مرة ثانية
في خطاب ألقاه بعد وقت قصير من بدء الغزو، نوّه المستشار الألماني أولاف شولتس إلى اللحظة بـ(Zeitenwende)، والتي تعني نقطة تحول عميقة في التاريخ. جاء هذا المصطلح ليرمز إلى الطريقة التي حطم بها الصراع التفاؤل لمدة طويلة -اعتبره البعض نوعاً من الإنكار- الذي كانت تعيش أوروبا فيه سابقاً، واستبعاد أن حرباً بهذا الحجم لا يمكن أن تقع على أراضيها.
يمكن القول أن هذا الفهم احتاج لوقت طويل لترجمته إلى أفعال. في الوقت الحالي فقط بعد عامين من الحرب بلغت ألمانيا نفسها هدف الإنفاق العسكري لحلف الناتو البالغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
لن يبلغ هذا الهدف أكثر من نصف أعضاء الحلف الـ30 المتبقين السنة الجارية، رغم أن هذه قفزة كبيرة مقارنة بحجم الإنفاق قبل بدء القتال.
أثار دونالد ترمب قلق الأوروبيين عن طريق التهديد بتشجيع روسيا على غزو البلدان التي لا تنفق ما يكفي على قطاع الدفاع. لكنهم يملكون أيضاً دوافعهم الخاصة للاستجابة لهذا الضغط.
بعد أخذهم على حين غرة، حيث لم يكونوا جاهزين، فإنهم يحاولون أخذ زمام المبادرة. تعمل دول بداية من الدنمارك إلى ألمانيا على تعزيز دفاعاتها بمستويات متفاوتة من العزيمة. ويضعون في حسبانهم أن بوتين في غضون سنوات سيكون مستعداً لمهاجمة دولة في حلف الناتو.
قال رسلان بوخوف، رئيس مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات، وهو مؤسسة بحثية متخصصة في الشؤون الدفاعية في موسكو: "من المحتمل أن ينجم عن هذا الصراع تحولات ثورية في الحرب أكثر من أي حرب أخرى منذ الحرب العالمية الثانية".