الخبير الاقتصادي مارتن وولف كتب تحليلاً ثاقباً لعلل المجتمع الغربي لكن وصفاته لإصلاحها قد لا ترقى إلى المستوى المطلوب

وقود الرأسمالية الديمقراطية اقترب من النفاد

تجمع لمتظاهرين مؤيدين لترمب أمام مبنى "الكابيتول" الأميركي في 6 يناير 2021، واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة - المصدر: بلومبرغ
تجمع لمتظاهرين مؤيدين لترمب أمام مبنى "الكابيتول" الأميركي في 6 يناير 2021، واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

بصفته كبير المراسلين الاقتصاديين في صحيفة "فاينانشال تايمز" منذ عام 1996، يعد مارتن وولف واحداً من أكثر الاقتصاديين تأثيراً في العالم. بدأ مسيرته الصحفية كمدافع قوي عن العولمة، ورفع القيود، لكن منذ الأزمة المالية العالمية أصبح ذا مزاج قاتم. كتابه الجديد، "أزمة الرأسمالية الديمقراطية"، هو أعظم أعماله، وتفسير لأزمة إيمانه.

بدأ "وولف" تأليف الكتاب في عام 2016 الرهيب. أثارت ضربات المطرقة المزدوجة لـ"بريكست"، وانتخاب ترمب الرثاء، وتمزيق الملابس في مقر "فاينانشال تايمز" في لندن، حيث أنصار "حزب المحافظين" ضعفاء على الأرض مثل "شهود يهوه"، لكن "وولف" على وجه الخصوص كان منزعجاً.

في مقدمة مؤثرة، يصف كيف هرب والداه من أوروبا في أواخر الثلاثينيات - والده من النمسا في عام 1937، ووالدته من هولندا في عام 1940 - وكيف قُتل بعض أفراد عائلته الذين فشلوا في الهروب في المحرقة. يكتب وولف: "أنا وأخي، المولود في عام 1948، مثل ملايين آخرين، أبناء كارثة". تركته ذكريات العائلة في الثلاثينيات مع إحساس دائم بهشاشة الحضارة.

تزاوج الديمقراطية والرأسمالية

يجادل "وولف" بأن الديمقراطية، والرأسمالية نقيضان مُكمّلان: نقيضان لأن الرأسمالية تعتمد على عدم المساواة في الأجور، بينما تعتمد الديمقراطية على المساواة السياسية، وهما مكمّلان لأن كلاهما يكرّس مبدأ الخيار الفردي، لكن في العقود الأخيرة، بدأ هذا التزاوج بين الأضداد ينهار، لاسيما في الولايات المتحدة، التي يفترض أنها حاملة لواء الرأسمالية الديمقراطية.

يؤدي انخفاض نمو الإنتاجية إلى الركود الاقتصادي. ويحرّض الركود المزيد من الناس ضد النظام. والشعبويون الانتهازيون يزدادون ثقلاً ليس فقط لأنهم يكذبون، لكن أيضاً لأنهم يقولون حقيقة معينة مفادها - آفاق الناس العاديين لا تتحسن بمعدلات التحسن التي شهدوها في السابق، وفي كثير من الأحيان، لا تتحسن على الإطلاق. يلقى شعار "اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى" صدى لأنه يحتوي على حقيقة كبيرة، بالإضافة إلى كذبة كبيرة.

لماذا تحوّل وعد الثمانينيات، والتسعينيات إلى رماد؟ يشير "وولف" إلى ثلاثة أشياء: صعود الرأسمالية الريعية، وفساد السياسة، وانحلال النخب. يمكن التحكم في التوتر الناجم عن المكافآت الضخمة، التي تحصّلت عليها حفنة من رواد الأعمال والماركات العالمية، عندما يصنع رواد الأعمال أشياء، مثل السيارات، وأجهزة الكمبيوتر الشخصية، التي تفيد الكثيرين.

يقول جوزيف شومبيتر: "إن الإنجاز الرأسمالي لا يتمثل عادةً في توفير المزيد من الجوارب الحريرية للملكات، بل في جعلها في متناول فتيات المصانع". لكن في العقود الأخيرة، كرّس قليلون قدراً أكبر من البراعة لتحقيق الريع بدلاً من خلق القيمة.

انعدام المساواة

يقوم المديرون بوضع أنظمة الحوافز بطريقة تضمن لهم ربحهم بغض النظر عن الأداء، على سبيل المثال، يعيدون شراء الأسهم لزيادة أجورهم. وتنقل الشركات عملياتها إلى الملاذات الضريبية لتقليل أعبائها الضريبية، مع انخراط الشركات ذات الأسماء التجارية في وسائل ملتوية كانت تقتصر في السابق على المحتالين. ويتجاهل المستشارون، وشركات المحاماة أخلاقياتهم المهنية لخدمة المحتالين، والدكتاتوريين.

يخلص "وولف" إلى أن تحرير التمويل - الذي دافع عنه ذات مرة - قد أثرى عدداً ضئيلاً من الناس على حساب زعزعة استقرار العديد من الشركات، وفي عام 2008، هدد بإسقاط الرأسمالية العالمية. من عام 1993 إلى عام 2015، استحوذ 1% من أغنى الناس على 52% من الزيادة في إجمالي نمو الدخل الحقيقي للأسر.

في كيان سياسي صحي، قد توفر السياسة الديمقراطية مراجعة لعملية السعي وراء الريع، لكن السياسة أمر بعيد عن أن يكون صحياً. في الولايات المتحدة، يمتلك الأثرياء تقريباً كل السياسة المختطفة من خلال التبرعات المالية للحملات الانتخابية، وجماعات الضغط واسعة الانتشار. لقد أصبحت الرأسمالية الديمقراطية، رأسمالية المحسوبية.

ظروف مواتية للشعبوية

في كثير من أنحاء العالم، تعاني السياسة من الرذائل المزدوجة المتمثلة في الاحتراف، واللامبالاة: الاحتراف يعني أن الشخصيات ذات الملامح المتشابهة قد استحوذت على معظم الأحزاب - هل تتذكر التوأم الذي يختلف فقط في الاسم، والمتمثل في ديفيد كاميرون، والسير نيك كليغ في حكومة الائتلاف البريطانية عام 2010؟

بينما تعني اللامبالاة الشعبية أن عدداً متزايداً من الناس يعتبرون السياسيين الديمقراطيين محتالون، وكاذبون. ما يوفر الظروف المثالية للشعبويين، الذين يعدون - باسم الشعب - بالقضاء على نظام فاسد، وراكد.

نحن نعلم أن هؤلاء الشعبويين كذابون - لقد عمل "ترمب" على تحسين حياة زملائه المليارديرات من خلال خفض الضرائب أكثر مما فعل لمعالجة المخاوف الاقتصادية لحشود "اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى"- لكن مرة أخرى، لا تكمن المشكلة في أنهم قد كذبوا فحسب، إنما تكمن في أنهم ذكروا حقيقة كبيرة، وهي أن النخب العالمية قد خذلت الناس من خلال مزيج من عدم الكفاءة، والفساد.

انحلال النُخب

قدمت النخب مراراً وعوداً تبيّن أنها جوفاء، أبرزها أنهم كانوا على دراية بكيفية التحكم بشيطان التمويل العالمي الذي كانوا يخرجونه من القمقم، ونجوا بمهارة من عواقب أفعالهم، إذ سُجن مصرفي واحد فقط بعد أزمة عام 2008 في الولايات المتحدة، ولم يتم سجن أي مصرفي في المملكة المتحدة. يدفع المليارديرات الأميركيون معدل ضرائب أقل من الناس العاديين.

يظل الأعضاء البارزون في عائلة "ساكلر" طليقين، بينما يُسجن ملايين الأميركيين - نسبة غير متكافئة منهم من السود - لارتكابهم جرائم مخدرات بسيطة. كافة هذه الأعشاب الجافة صالحة لإشعال الغضب الشعبي.

يدعم "وولف" كل هذا بمراجع لا حصر لها من أدبيات الاقتصاد، والعلوم السياسية. كبير المعلقين الاقتصاديين في "فاينانشيال تايمز" ليس رجلاً يضيع الكثير من وقته بزيارات إلى المدن الصناعية المتدهورة أو الموانئ البحرية المحتضرة، ولو فعل، فهو لا يكتب عن ذلك؛ إنه رجل يستوعب التقارير، والدراسات، والاستطلاعات، ويتبادل الأحاديث مع الاقتصاديين المشهورين في دافوس، وبلدربيرغ.

لكن كتاباته غالباً ما تكون في أفضل حالاتها عندما يعود إلى حبه الأول، الكلاسيكيات (قرأ الكلاسيكيات في "أكسفورد" قبل أن يتحول إلى الاقتصاد، وكما أشار في حفل إصدار أحد كتبه، فهو واحد من الاقتصاديين القلائل غير اليونانيين الذين قرؤوا هوميروس بلغته الأصلية).

يشرح "وولف" انحلال نخبنا بالاستناد إلى أفلاطون، وأرسطو. جادل أفلاطون بأن المجتمع لا يمكنه إنقاذ نفسه من مخاطر الاستبداد، والفوضى إلا إذا كرّس الطاقة والبراعة لتدريب فئة من الأوصياء الذين يتميزون برغبتهم في إعطاء الأولوية للصالح العام بدلاً المكاسب الشخصية.

من جهته أصر أرسطو على أن المجتمعات لا يمكن أن تزدهر إلا إذا كان لديها طبقة وسطى كبيرة، وصحية. دعا كلاهما إلى أهمية كبح الشهية الحيوانية المتمثلة في السعي وراء التميز والحكمة.

"الإصلاحات الاجتماعية الجزئية"

كيف يمكننا علاج الانحطاط المزدوج للرأسمالية، والديمقراطية؟ يحذّر "وولف" بحق من مخاطر الحنين إلى الماضي: لقد انتهى عالم تعزيز المجتمع للصناعات الكبرى، والعمالة الكبيرة إلى الأبد، بسبب الابتكار التكنولوجي أكثر من كونه بسبب العولمة.

يتجنب "وولف" عن صواب بدع الأعمال الرائجة، مثل إجبار الشركات على إعلان "هدف"، أو تبني رأسمالية أصحاب المصلحة. يفضل بدلاً من ذلك ما أسماه كارل بوبر "إصلاحات اجتماعية جزئية": أي، على حد تعبير "بوبر" "البحث عن أعظم شرور المجتمع، وأكثرها إلحاحاً، ومحاربتها، بدلاً من البحث عن كبرى صالحات المجتمع المطلقة، وفي نهاية المطاف القتال من أجلها".

تتضمن قائمة "وولف" الطويلة من "الإصلاحات الاجتماعية الجزئية" إلغاء حكم "مواطنون متحدون" الصادر عن المحكمة العليا، الذي ادعى أنه يجب أن يكون لدى الشركات صوتاً سياسياً مثل أي مواطن آخر.

بالإضافة إلى إزالة المعاملة السخية للديون في قوانين الضرائب، ومعاملة المكاسب من "تجارة الفائدة" كدخل، وجعل كبار المديرين أكثر عرضة للمساءلة عن إخفاقات الشركات التي يساهمون في خلقها، بعبارة أخرى، أشياء تضمنتها حوالي ألف مقالة افتتاحية من كتاباته في "فاينانشيال تايمز"، ومجلة "إيكونوميست".

فساد المكون السحري

من الواضح أن "وولف" يشعر أن مثل هذه الإصلاحات الصغيرة نسبياً لن تنجح دون إعادة تأهيل خُلقي أكثر عموماً للمجتمع. إذ يختم بالدعوة إلى إحياء الروح الجماعية، قبل أن يبدأ فقرته الأخيرة بنبرة متشائمة: "هذه لحظة خوف ضخم، وأمل ضعيف". على الرغم من أنه قد يبدو أمراً فظاً أن يطلب المرء المزيد من كتاب طويل، وشامل بالفعل، إلا أنني أتمنى لو كان يشمل مناقشات مطولة أكثر لتاريخ الليبرالية، بكل تنوعها الثري، قبل أن يلقي بثقله الفكري وراء الفكر الجماعي.

أليس من المؤكد أن الليبرالية هي المكون السحري الذي يعطي "الديمقراطية"، و"الرأسمالية" العامل الحضاري، ويدمجهما إلى وحدة قابلة للعمل؟ تضع النظرية الليبرالية قيوداً على سلطة الأغلبية، وتُشفّر حقوق الأقليات في القانون.

فشلت العديد من التجارب مع الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية ليس بسبب تزوير التصويت، بل لأنها استبدلت حكاماً مُطلقي القوة غير منتخبين، بآخرين منتخبين مُطلقي القوة. تُرسي النظرية الليبرالية أيضاً قواعد السوق الفعالة ليس فقط من خلال منح حقوق محدودة لـ"الجمهوريات الصغيرة" أو الشركات، ولكن أيضاً عبر منع تكوين الاحتكارات.

أصبحت الليبرالية مريضة خلال الأربعين عاماً الماضية من انتصارها المفترض. إذ غدت الفلسفة التي ولدت في التمرد على النظام القديم، فلسفة طبقة حاكمة ذاتية المنفعة، ومنغمسة في ذاتها.

الآن بات أفضل ما في الليبرالية مهدداً من جميع الجوانب. يهيمن الليبراليون التقدميون المهووسون بحقوق الفئات، والذنب الجماعي على الجامعات بشكل متزايد. كل من يخالف العقيدة الجديدة يُحرم، إن لم يكن من وظائفه، فعندئذ على الأقل من السلطة. المؤسسات العالمية، لا سيما الاتحاد الأوروبي، يديرها تكنوقراط يعتبرون الإسهامات الديمقراطية مصدر إزعاج. والأمر الأكثر إثارة للقلق، هو أن شركات التكنولوجيا منشغلة في تطوير طرق ذكية للتلاعب بتفضيلاتنا.

يمكن القول إننا نشهد ولادة نموذج غير ليبرالي جداً للرأسمالية: رأسمالية المعلومات التي تزدهر بامتصاص كميات هائلة من المعلومات من المستهلكين غير المبالين (الذين يكشفون عن أسرارهم كثمن للحصول على تطبيقات ملائمة) ثم استخدام تلك المعلومات للتلاعب بخيارات المستهلكين.

إذا كان وعد الرأسمالية الديمقراطية هو أنها تمنحنا حرية التحكم في حياتنا، فماذا يعني إذا كان بإمكان أسياد المعلومات لدينا تشكيل قراراتنا دون علمنا؟ أضف إلى ذلك صعود الرأسمالية الاستبدادية في الصين، وأن الارتباط بين الرأسمالية، والليبرالية في القرن العشرين قد يثبت أنه مجرد مرحلة عابرة.

ترميم الليبرالية

يمكن القول إن مهمة إصلاح الرأسمالية الديمقراطية تنطوي على ما هو أكثر من إصلاح الديمقراطية، والرأسمالية. إنها تنطوي على إصلاح الفلسفة التي رفعت كلاهما ذات يوم، وهي الآن بحاجة إلى ترميم يكمن في: إعادة الليبرالية إلى جذورها الراديكالية، وإعادة تركيزها على الأفراد بدلاً من الجماعات، وعلى الفرص بدلاً من التظلم، وإعادة كتابة قواعد رأسمالية المعلومات وفقاً للمبادئ الليبرالية. وإفشال تركيز السلطة أينما حدث، سواء كان ذلك في مجلس الإدارة أو في السياسة.

مراراً وتكراراً، أصلح المثقفون الليبراليون الرأسمالية خلال القرن الماضي، في أوائل القرن العشرين لتأديب البارونات اللصوص، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية لبناء رأسمالية الرفاهية. لكي يكون لديهم أي فرصة لتكرار نفس الحيلة في الوضع الراهن، عليهم إعادة التفكير فيما تعنيه الليبرالية في عصر رأسمالية المعلومات، والغضب الشعبوي، والقوة الصينية.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

الآراء الأكثر قراءة